عناصر الخطبة
1/ تأملات في أذكار الصلاة 2/ معاني التشهد وأسراره 3/ فضل أيام عشر ذي الحجة 4/ سنن الأضحية.اهداف الخطبة
اقتباس
أما الشُّبُهات فتعرِض للإنسان في عِلْمِهِ، فيلتبس عليه الحقُّ بالباطل، فيرى الباطلَ حقًّا، والحقَّ باطلاً، وأمَّا الشَّهوات فتعرِض للإنسان في إرادته، فيريد بشهواته ما كان محرَّماً عليه، وهذه فتنة عظيمة! فما أكثر الذين يرون الرِّبا غنيمة فينتهكونه! وما أكثر الذين يرون غِشَّ النَّاسِ شطارةً وجَودةً في البيع والشِّراء فيغشُّون! وما أكثر الذين يرون النَّظَرَ إلى النساء تلذُّذاً وتمتُّعاً وحرية، فيطلقون لأنفسهم النظر للنساء! وما أكثر الذين يرون آلاتِ اللهو والمعازف فنًّا يُدرَّسُ ويُعطى عليه شهادات ومراتب!! نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله ...، أما بعد:
فقد كنا في الجمعة الماضية في حديث مختصر عن فقه أذكار الصلاة، وانتهى المطاف بنا إلى الذكر الذي يُشرع للإنسان قوله في جلسة التشهد الأول ثم الأخير.
أيها المسلمون: لقد عظّم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- شأن التشهد، واعتنى به غاية العناية، يشهد لذلك قول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "علّمني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التشهد، كفّي بين كفيه كما يعلمني السورة من القرآن" (البخاري ح:6265، مسلم ح: 402).
ويقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يُعلِّمنا التشهدَ كما يعلّمنا السورةَ مِن القرآن" (مسلم ح:403).
وكلمات هؤلاء الصحابة الفقهاء تدل على أن المصلي ينبغي أن يضبط ألفاظ هذا التشهد، وأن يفقه معانيه، وعليه حين يقول هذا التشهد أن يقوله بلسانه، متدبِّراً له بقلبه.
ولنشرع الآن – أحبتي الكرام- في بيان ما أردناه من معاني التشهد وأسراره، لعل هذا يكون حافزًا للمصلي أن يعيش هذا التشهد بفكره ومشاعره في صلاته.
فـ"التحيات": جمع تحيَّة، وهي: التَّعظيم، فكُلّ أنواع التَّحيَّات فهو لله، فلا يستحقُّها على الإطلاق إلا الله -عزّ وجل-، واللَّهُ -تعالى- ليس بحاجة إلى أن نحيّيه، لكنه -تعالى- أهْلٌ للتعظيم، فنحن نعظِّمه لحاجتنا لذلك لا لحاجته لذلك.
«والصلوات» أي: لله، فالمصلي يعلن أن كلّ صلاة في الشرع أو اللُغة فهي لله حقًّا واستحقاقاً، فلا أحد يستحقُّها غير الله –تعالى-، وليست حقًّا لأحد سوى الله -عزّ وجل-، فالصلوات - فرضُها ونفلُها - لله، وكُلُّ الأدعية له سبحانه.
وإذا قال المصلي: «والطيبات»، فهو يستحضر أن الله -تعالى- له من الأوصاف أطيبها، ومِن الأفعال أطيبها، ومن الأقوال أطيبها، كما قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله طيب لا يَقبلُ إلا طيباً...»(مسلم ح:1015).
وأنه -تعالى- لا يصعد إليه إلا الكلم الطيب، ولا يقول إلا الطيّب، ولا يَفعلُ إلا الطَّيب، ولا يتَّصفُ إلا بالطيب، فهو طيب في كُلِّ شيء؛ في ذاته وصفاته وأفعالِه، وله - أيضاً - مِن أعمال العباد القولية والفعلية الطَّيبُ، فإن الطَّيبَ لا يليقُ به إلا الطَّيب، ولا يُقدَّم له إلا الطيب.
فهل نحن - معشر المصلين - نستحضر حين نقول: «والطيبات لله» هذه المعاني، أو نقولها على أنها ذِكْرٌ وثناء؟
أيها المسلمون: وحين نسلم على النبي -صلى الله عليه وسلم- بقولنا: «السلام عليك أيها النبي»؛ فإننا ندعو اللهَ -تعالى- أن يحفظ نبيَّه ويكلأه بالعناية، وهذا في حياته ظاهر، وبعد مماته: بسلامة قبره من النبش والأذى.
ومِن معنى السلام عليه أيضاً: التسليم عليه، امتثالاً لأمره تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
وقولُ المصلي: "وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ"، فهو دعاء للنبي -صلى الله عليه وسلم- بالرحمة، فهو يدعو له بما يزول عنه المرهوب ويحصُل له المطلوبُ، ويدعو له بالبركة، وهي الخير الكثير، ومن ذلك: كثرة أتباعه -صلى الله عليه وسلم-.
وحين نقول - معشر المصلين -: "السَّلامُ عَلَيْنَا، وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ" فنحن ندعو بالسلام على أنفسنا وعلى جميع الأمة المحمدية، ثم نخَصّصَ الصالحين بالذكر لأنهم الأفضل عند الله فنقول: «وعلى عباد الله الصالحين»، وعباد الله الصالحون هم كُلُّ عبدٍ صالح في السماء والأرض؛ حيّ أو ميِّت؛ من الآدميين والملائكة والجِنِّ، الذين تعبَّدوا لله، وتذلَّلوا له بالطاعة؛ امتثالاً للأمر واجتناباً للنهي.
فهنيئاً لكل صالحٍ - ظاهراً وباطناً - سلامَ مئاتِ الملايين من المصلين عليه! والله لو لم يكن في الصلاح إلا هذه الفائدة لكفى بها فائدة، نسأل الله أن يرزقنا صلاح البواطن والظواهر.
أيها المسلمون: وحين يعلن المصلي الشهادةَ قائلاً: "أشهد أن لا إله إلا الله"، فهو يعترف بلسانه وقلبه بأنه لا معبود حقٌّ إلا الله، وحين يقول: "وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ"، فهو يعترف له بالرسالة، وبأنه عبدٌ لا يُعْبد، ورسولٌ لا يُجحَد، فنِعْمَ الرسول، ونِعْمَ المرسِل، ونعم المرسَل به.
ثم يقول المصلي بعد التشهد الأول: "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ" أي: اللهم أَثنِ عليه في الملأ الأعلى، عند الملائكة المقرَّبين، وصلّ «على آل محمَّد» وهم هنا أتباعه على دينه، وأَخصُّ أتباعِه على دينه مَنْ آمن به من أهل بيته.
وحين نقول: "كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ" فإننا نتوسل بفعل الله السابق لتحقيق الفعل اللاحق، والمعنى: كما أنك سبحانك سَبَقَ الفضلُ منك على آل إبراهيم؛ فألْحِقِ الفضلَ منك على محمد وآله.
وأما قول المصلي: "وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ" فمعناه: أنزِل عليه البَرَكَةَ، وهي كثرة الخيرات ودوامها واستمرارها، ويشمَلُ البَرَكَة في العمل والبَرَكة في الأثر.
ثم يختم المصلي هذه الصلاة الإبراهيمية بقوله: «إنك حميد مجيد»، أي نسأل يا ربنا هذه الصلاة والبركة لنبينا -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنك حميد مجيد، فهو سبحانه حامد لعباده وأوليائه الذين قاموا بأمره، ومحمودٌ يُحمَدُ -عزّ وجل- على ما له من صفات الكمال، وجزيل الإنعام.
وأما «المجيد»: فهو مأخوذ من المجد، والمجدُ هو: العظمة وكمالُ السُّلطان.
ثم يُشرع للمصلي بعد هذه الصلاة الإبراهيمية - التي هي أفضل الصيغ التي يُصلى بها على النبي -صلى الله عليه وسلم- - أن يستعيذ بالله من أربعة أمور: الاستعاذة بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال.
والمراد بالفتنة: اختبارُ المرء في دينه؛ في حياته وبعد مماته، وفتنة الحياة عظيمة وشديدة، وقلَّ من يتخلَّص منها إلا مَنْ شاء الله، وهي تدور على شيئين: الشُبُهاتِ، والشهوات.
أما الشُّبُهات فتعرِض للإنسان في عِلْمِهِ، فيلتبس عليه الحقُّ بالباطل، فيرى الباطلَ حقًّا، والحقَّ باطلاً، وأمَّا الشَّهوات فتعرِض للإنسان في إرادته، فيريد بشهواته ما كان محرَّماً عليه، وهذه فتنة عظيمة! فما أكثر الذين يرون الرِّبا غنيمة فينتهكونه! وما أكثر الذين يرون غِشَّ النَّاسِ شطارةً وجَودةً في البيع والشِّراء فيغشُّون! وما أكثر الذين يرون النَّظَرَ إلى النساء تلذُّذاً وتمتُّعاً وحرية، فيطلقون لأنفسهم النظر للنساء! وما أكثر الذين يرون آلاتِ اللهو والمعازف فنًّا يُدرَّسُ ويُعطى عليه شهادات ومراتب!! نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى.
وفتنةُ الممات - نعوذ بالله منها - تدور على أمرين: الفتنةُ التي تكون عند الموت، ولربما ظهر فيها سوء خاتمة بعض الناس - عياذا بالله - والفتنةُ التي تكون بعد الموت: هي سؤال الملكين الإنسانَ عن رَبِّه ودينه ونبيِّه.
وأما «فتنة المسيح الدَّجَّال» فهي إلى معنى عظيم وخطير: وهو التباس الحق بالباطل، فيرى الباطلَ حقًّا والحقَ باطلاً، فالدَّجَّال فهو مأخوذ من الدَّجَل وهو التمويه؛ لأنه أعظم مموِّه، وأشدُّ الناس دجلاً، ومِن فِتنته: أن الله -تعالى- جَعَلَ معه مثل الجنة والنَّار، بحسب رؤيا العين، لكن جنتُه نار، ونارُه جنَّة، مَن أطاعه أدخله هذه الجنَّة فيما يَرى النَّاسُ، ولكنها نار محرقة والعياذ بالله، ومَن عصاه أدخله النار فيما يَراه النَّاسُ، ولكنها جَنَّةٌ وماء عذب طيِّب، فالأمرُ يحتاج إلى تثبيت مِن الله -عزّ وجل-، فإنْ لم يثبِّت اللَّهُ المرءَ هلك وضلَّ.
وإنما ذُكِرَ وحدَه مع أنه مِن فِتنة المحيا؛ لأنه أعظم فِتنة على وَجْهِ الأرض منذ خُلق آدم إلى قيام الساعة، كما قال ذلك النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-.
فهل نحن - يا عباد الله - حين نقول هذه الأذكار كلها نستشعر معانيها؟ أجزم أننا لو كنا كذلك لوجدنا للصلاة آثراً أعظمَ في نفوسنا، ولكانت أقرب إلى تحقيق مراد الله منها: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة....
الخطبة الثانية:
الحمد لله ....، أما بعد:
فأنتم معشر المسلمين على أبواب أيامٍ هي خيرُ أيام الدنيا، إنها أيام عشر ذي الحجة التي قال عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه العشر" قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع منذ لك بشيء" (سنن الترمذي ح:757، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب، صحيح ابن حبان ح:324، صحيح ابن خزيمة ح: 2865).
يا له من فضل عظيم لا يفرّط فيه إلا محروم، فاتقوا الله - أيها المسلمون - وأروا الله من أنفسكم خيراً، واعمروا هذه الأيام بما تستطيعون من أنواع القربات والطاعات؛ صلاةٍ، وذِكر، وصدقةٍ، وصيام، وحج، وعمرة، وهَدي، وأضاحي، استجابة لما دلّ عليه حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، واحذروا من حال أهل الغفلة الذين تمضي عليهم هذه الأيام وكأنها لم تدخل، نعوذ بالله من الحرمان.
عباد الله: روى مسلم في صحيحه عن أمّ سلمة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كان له ذبح يذبحه، فإذا أهلَّ هلال ذي الحجة؛ فلا يأخذن من شعره، ولا من أظفاره شيئاً حتى يُضحي"(مسلم ح:1977).
ومما ينبغي التنبه له: أن هذا الحكم إنما يشمل من أراد أن يضحي بنفسه فقط، أو كان وصيًّا عن ميّت في الذبح، أما من يُضحَّى عنه مِن أهل البيت مِن زوجات وأولاد، أو من كان موكَّلاً على الذبح ولا يريد أن يضحي؛ فلا يشملهم هذا النهي، كما أنه لا بأس للمرأة التي تريد أن تُضحي أن تُسرِّح شعرها، ولا يضرها ما يسقط منه أثناء التسريح.
اللهم أعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك .. اللهم إنا نعوذ بك أن نكون من الغافلين والمحرومين.. الذين لا يفرقون بين زمان فاضل وغيره...
التعليقات