من دروس شهر شوال (عظم الجزاء مع عظم البلاء)

الشيخ عبد الله بنطاهر التناني

2024-04-21 - 1445/10/12
عناصر الخطبة
1/شدة ابتلاء النبي وأصحابه 2/دروس وعبر من غزوتي أحد والخندق 3/التشابه بين الحدث التاريخي والحدث الواقعي 4/واجب المسلمين نحو إخوانهم المستضعفين 5/من حقوق الأخوة الإيمانية بين المؤمنين 6/الابتلاء عامل مشترك في حياة الأنبياء.

اقتباس

فالحدث التاريخي من السيرة النبوية هو مصدر التأصيل لمواجهة الابتلاء؛ حتى نتمكن من التنزيل في الحدث الواقعي؛ فمن خلال ابتلاء الصحابة في غزوتي أحد والأحزاب نتعلم كيف نواجه الابتلاء في القدس وأكناف القدس حسب القدرة والاستطاعة...

الخطبةُ الأولَى:

 

الحمد لله الواحد القهار، جعل لنا من الخير والشر الفتنةَ والابتلاء والاختبار، ليظهر لنا من يسخط وينهار، ممن يصبر ويرضى آخذًا بأسباب الانتصار، ونشهد أن لا إله إلا الله الملك الغفار، ونشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الأخيار، وعلى التابعين لهم بإحسان ما اختلف الليل والنهار.

 

أما بعد؛ فيا أيها الإخوة المؤمنون؛ أوصيكم ونفسي أولاً بتقوى الله وطاعته.

 

نعيش في هذه الأيام حدثين: حدث تاريخي تأصيلي، وحدث واقعي تنزيلي.

الأول: الحدث التاريخي؛ يذكرنا بحالة الابتلاء التي أُصيب بها الصحابة -رضوان الله عليهم- ومعهم رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، في غزوتي أُحد والأحزاب؛ وقد ابتلي فيهما المسلمون وزلزلوا زلزالاً شديدًا:

 

أما غزوة أحد؛ فقد وقعت في السنة الثالثة من الهجرة وفيها استشهد من الصحابة سبعون، حتى كانوا كما وصفهم القرآن الكريم في هذا البيان: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)[آل عمران: 138- 142].

 

وأما غزوة الأحزاب؛ فقد وقعت في السنة الرابعة (أو الخامسة) من الهجرة، وفيها التجأ الصحابة -رضوان الله عليهم- إلى الاختباء في الخندق تحت الأرض ليلاً ونهارًا زهاء شهر كامل؛ حتى كانوا كما وصفهم القرآن الكريم في هذا البيان أيضًا: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا)[الأحزاب: 10- 11].

 

الثاني: الحدث الواقعي: هو ما يحدث اليوم للمسلمين في أكثر من بلد، وبالخصوص في القدس وأكناف القدس في فلسطين.

 

فالحدث التاريخي من السيرة النبوية هو مصدر التأصيل لمواجهة الابتلاء؛ حتى نتمكن من التنزيل في الحدث الواقعي؛ فمن خلال ابتلاء الصحابة في غزوتي أُحد والأحزاب نتعلم كيف نواجه الابتلاء في القدس وأكناف القدس حسب القدرة والاستطاعة فيما يلي:

 

أولاً: بالنسبة لنا؛ فأقل واجب على كل مسلم؛ ألا ينسى أمرين:

الأمر الأول: الإحساس؛ والمراد به الشعور بمأساة أهل القدس؛ يجب ألا يُنسينا ما نحن فيه -والحمد لله- من الأمن والأمان والسلامة والسلام في ظل العرش العلوي الشريف، الذي أكرم الله به المغاربة منذ قرون، ألا ينسينا هذا مأساة إخواننا المظلومين في أكثر من بلد، وخصوصًا في القدس وأكناف القدس، وذلك أضعف الإيمان.

 

 فأخشى ما نخشاه؛ بل أكبر مصيبة أن نفقد حتى أضعف الإيمان، وأن يكون عندنا ما يجري أمرًا عاديًّا، لا يسبب لنا ألمًا نفسيًّا، ولا يحرك فينا إحساسًا إيمانيًّا.

 

فأضعف الإيمان هو المستوى الأدنى، فحينما نفقده ستتبدل أفكارنا وتتبلد مشاعرنا، فنفقد حتى الإحساس الإنساني؛ فكيف بالإحساس الإسلامي؟ والنبي-صلى الله عليه وسلم- يقول: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع ‌فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".

 

ويقول-صلى الله عليه وسلم- فيما يجب أن تكون عليه قلوبنا في الإحساس والشعور: "مثل المؤمنين في توادِّهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحُمَّى"، وكما يقول-صلى الله عليه وسلم- فيما يجب أن يكون عليه شكلنا ومظهرنا: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا"، وشبك بين أصابعه.

 

الأمر الثاني: الدعاء؛ والمقصود الدعاء المبني على الإحساس بمأساة أهل القدس وفلسطين، وليس الدعاء الذي يجري على ألستننا دون أن ينبع من قلوبنا، فالدعاء سلاح المؤمن، به يدفع البلاء، وبه يرد شر القضاء، ولا شيء أكرم على الله من الدعاء؛ لأنه استعانة من عاجز ضعيف بالقوي اللطيف، واستغاثة من عبد ملهوف برب رحيم رؤوف، لينصر أهل القدس على الأعداء، وليزيل عنهم العلة والاعتداء، ويرفع عنهم المحنة والابتلاء، ويكشف عنهم الغمة والبلاء.

 

وقد أمر الله بالدعاء ووعد بالإجابة؛ فقال -تعالى-: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)[غافر: 60]، وقال -سبحانه-: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)[البقرة: 185]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الدعاء سلاح المؤمن…"، وقال-صلى الله عليه وسلم-: "إن الدعاء هو العبادة"، وفي رواية: "الدعاء مخ العبادة".

 

فمن الواجب علينا أن ندعو لإخواننا المظلومين في القدس وفلسطين، وأن نؤمن بأن الإجابة تأتي بقدر صدقنا في الدعاء؛ ولكن لا نيأس ولا نحتار: متى الاستجابة ولا في كيفية الاستجابة؟؛ فمن تتبع الحروب الظالمة التي وقعت على القدس وأهلها في العقدين الأخيرين سيدرك أن الله -سبحانه- يبني النصر للمظلومين بالتدريج، فالنصر -بإذن الله- في شكل تصاعدي؛ فالمصيبة هي التي تنزل مرة، أما الخير والنصر فيأتي شيئًا فشيئًا؛ فالله سبحانه وتعالى هو الذي يختار متى وكيف.

 

قال النبي-صلى الله عليه وسلم-: "ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها".

 

وفي هذا قال ابن عطاء الله في حكمه: "لا يكن تأخر أمد العطاء مع الإلحاح في الدعاء موجبًا ليأسك، فالله -تعالى- قد ضمن لك الإجابة فيما يختار هو، لا فيما تختار أنت لنفسك، وفي الوقت الذي يريد، لا في الوقت الذي تريد".

 

ثانيًا: بالنسبة لأهل القدس؛ يكفيهم شرفًا وأجرًا أمران:

الأمر الأول: أنهم دليل من دلائل نبوة سيدنا محمد-صلى الله عليه وسلم-؛ يكفيهم شرفًا أن النبي-صلى الله عليه وسلم- أخبرنا عنهم واعتز بهم ومدحهم قبل أن يُخلقوا، فكانوا ضمن حديث نبوي شريف يقرأه الناس على مدى أربعة عشر قرنًا.

 

فقد روى الإمام أحمد في مسنده؛ (رقم:22320) عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء -أي: الشدة- حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك"، قالوا: يا رسول الله؛ وأين هم؟ قال: "ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس»؛ فكأننا نقرأ فيما يحدث في القدس اليوم هذا الحديث النبوي الشريف.

 

الأمر الثاني: إن أعظم الناس أجرًا في الآخرة عند الله -تعالى- أشدهم بلاء في الدنيا، وإن أكثرهم أجرًا في دار البقاء أشدهم بلاء في دار الفناء؛ فالمصائب الدنيوية علامة على محبة الله للعبد، ترفع من درجاته وتمحو خطاياه، والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة؛ منها:

 

يقول الرسول-صلى الله عليه وسلم-: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط"، ويقول-صلى الله عليه وسلم-: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكةِ يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه"، وفي رواية: "ما من مسلم يشاك بشوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة، ومحيت عنه بها خطيئة".

 

ويقول-صلى الله عليه وسلم-: "ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة"، ولهذا فإن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأفضل فالأفضل، يقول-صلى الله عليه وسلم-: "أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى العبد على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة، ابتلي حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على وجه الأرض وما عليه خطيئة".

 

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين…

 

أما بعد: فيا أيها الإخوة المؤمنون: لقد تحمل النبي-صلى الله عليه وسلم- الشدائد وهو في مكة، وتحملها وهو في المدينة، وغزوتا أحد والخندق أوضح مثال لذلك، كما عانى قبله الأنبياء وبعده العلماء في سبيل دعوتهم إلى الله.

 

ولا تكاد تخلو ترجمة عالم من محنة عُذِّب فيها في سبيل الله؛ فها هم الأئمة الأربعة: مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد؛ كل واحد منهم امتُحن وعُذِّب وسُجِن، كما امتُحن غيرهم من العلماء عبر التاريخ.

 

وفي عصرنا هذا امتحن العلماء في ظل الاستعمار في العالم الإسلامي وفي بلادنا امتحن العلماء من أجل الاستقلال، وعلى رأسهم قائدهم جلالة المغفور له محمد الخامس بمعية وارث سره الحسن الثاني -طيب الله ثراهما-، والله -تعالى- يقول: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)[العنكبوت: 1-3].

 

 اقرؤوا حياة الأنبياء، ارجعوا إلى سير العلماء النبلاء، لتعلموا أن مصائب الدنيا ليست نقصًا في الدين، فمشكلتنا اليوم أننا بعيدون كل البعد عن حياة العلماء وسير النبلاء، لقد أصبحت عقولنا محشوة بما تفرضه علينا وسائل الإعلام ومواقع الألغام من أبطال البطلان والفساد؛ فلا ينبغي أن يتسرب إلى عقولنا أن الله -تعالى- قد غضب على أهل القدس وغزة بهذا الاعتداء الظالم؛ فقد وقع مثل هذا للأنبياء ورحم الله البوصيري حين قال:

 

لا تخل جانب النبي مضاما *** حين مسته منهم الأسواء

كل أمر ناب النبيئين فالشـ***ـدة فيه محمودة والرخاء

لو يمس النضار هون من النـ***ـار لما اختير للنضار الصلاء

 

النضار هو الذهب؛ فلو كانت النار تفسد الذهب ما كان الصائغ ليستعملها في إذابته حتى يزيل منه الشوائب، والذهب لن يكون خالصًا ومن العيار الممتاز إلا بالنار؛ وكذلك الابتلاء إنما يُظهر في الناس الصالح من الطالح؛ والرسول-صلى الله عليه وسلم- يقول: "‌الناس ‌معادن كمعادن الذهب والفضة".

 

ألا فاتقوا الله عباد الله، وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول الله-صلى الله عليه وسلم-.

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life