عناصر الخطبة
1/تفضيل الله لبعض مخلوقاته 2/فضل بيت المقدس3/دلالات إسراء النبي إلى المسجد الأقصى 4/واجب المسلمين تجاه الأقصىاقتباس
المسجدُ الأقصى قلوبُ المسلمين إليه تَحِنُّ، وأبصارهم إليه ترنو، وآمالهم إلى تحريره تتطلع, وتحريرُ المسجدِ الأقصى ليس حلماً مستحيلاً؛ وإنما هو وعدٌ محققٌ لا ريب فيه, إن كُلَّ شِبْرٍ من بلاد المسلمين حرامٌ أن يستباحَ من غيرهم، فكيف إذا كان المستباحُ أرضاً مباركةً...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله رب العالمين، الله لا إله إلا هو الحي القيوم، تعالى في عليائه، لا تأخذه سنةٌ ولا نوم, (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ)[الرعد: 2]، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، شريعته طاهرة، ورسالتُه ظاهرةٌ، ودينه مؤيدٌ منصور، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعِه إلى يوم البعث والنشور, وسلم تسليماً.
أمَّا بَعْدُ: فإنَّ خيرَ الْحَدِيثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأُمور مُحْدَثَاتُهَا، وكلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ.
وأوصي نفسي وإياكم -عباد الله- بتقوى الله في السر والعلن؛ فإن الله يحب المتقين؛ (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)[آل عمران: 76].
أيها المسلمون: على مشارفِ الأرض وأعاليها، يقف المسلمُ يُقَلِّبُ طرفَه في الآفاقِ, يتأمل هذه الأرضُ بسهولها وجبالها وهضابها، وأوديتها وَوِهَادِها وشعابها, أبدع الخالِقُ فيها خَلْقَه، وأحسن فيها صُنْعَه, وجعلها متباينةً, فمنها سهلٌ ومنها عسير، ومنها أجادِبُ، ومنها ما هو بالحياةِ نضير, هذه الأرض فَضَّلّ الله بعضها على بعض، في مظاهر الحياةِ المُشاهَدَة، تفضيلاً يستهوي الناظرين، والمنتفعين، والمتمتعين.
ولكن ثَمَّةَ تفضيلٌ شرعيٍ مرتبطٌ بِعُرىً من الدين، يُفَضِّلُ الله أرضاً على أرضٍ، وبُقعةً على بُقعَةٍ؛ فيجعلُ للأرض المُفَضَّلَةِ من المكانةِ ما ليس لغيرها، وإن كان غيرُها أنضر منها وأخصَب؛ فمكةُ أم القرى, أرضٌ ضَيِّقةٌ مسالِكُها، مجدبةٌ أوديتها، وَعِرَةٌ جِبالُها، وصفها إبراهيم -عليه السلام- في دعائه فقال: (إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ)[إبراهيم: 37], إلا أنها أحَبُّ البلادِ إلى اللهِ، وفيها أولُ بيت وُضِعَ للناس؛ (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ)[آل عمران: 96].
بيتُ الله المحرم، البلدُ الأمين, أقسم الله به؛ (وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ)[التين: 3], قِبْلَةُ المسلمين في صلاتَهم؛ (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)[البقرة: 149], إليه تهوي الأفئدةُ، ونحوه تَفِدُ الجموعُ للحجِّ من كل فَجٍّ عميقٍ؛ ليشهدوا منافع لهم, إنه البلدُ الحرامُ المعظمُ بتعظيم الله؛ (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)[الحج: 25].
وثمةَ أرضٌ أخرى لها في شريعةِ الله مكانةٌ وتفضيل، إنها أرضُ أولى القبلتين، وثالثُ المسجدين، المسجِدُ الأقصى في الأرض المقدسة، التي بارك الله حولها؛ (الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ)[الأنبياء: 71], مُهاجرُ النبيين الأولين؛ لوط وإبراهيم, أَرْضِ الْمَحْشَرِ وَالْمَنْشَرِ, الأرضُ التي سينزل فيها عيسى ابنُ مريم -عليه السلام- آخر الزمان, والأرض التي سَيُهلِكُ الله فيها المسيحَ الدجال.
عباد الله: وبين أولِ بيت وضع للناس ببكة، وبين المسجدِ الأقصى في أرض الشام, عُقدت أواصر العقيدة، وبنيت معالم التوحيد؛ فهذان المسجدان هما أولُ مسجدين بُنيا على وجه الأرض لتوحيد الله وتعظيمه, قال أبو ذرٍ -رضي الله عنه-: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلُ؟, قَالَ: "الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ", قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟, قَالَ: "الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى", قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟, قَالَ: "أَرْبَعُونَ سَنَةً"(متفق عليه).
وبين هذين المسجدين كانت قبلة المسلمين في صلاتهم، ففي أول الإسلام كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون معه يتوجهون إلى المسجد الأقصى في صلاتهم، مكثوا على ذلك ثلاث عشرة سنةً في مكةَ، وسنتين بعد هجرتهم إلى المدينة, وفي النصف من شهر رجب من السنة الثانية للهجرة أنزل الله على رسوله قرآناً: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)[البقرة: 144].
وبين هذين المسجدين المسجد الحرام والمسجد الأقصى, كانت الرحلةُ الكبرى لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-, وكانت والمعجزةُ العظمى؛ (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[الإسراء: 1], رحلةٌ التكريم والتشريف للرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- أن أُسريَ به من المسجد الحرامِ إلى المسجد الأقصى، ثم عُرجَ به إلى السماوات العلى, إلى سدرة المنتهى.
وما كان الإسراءُ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى قبل المعراج إلى السماء إلا لتبقى أوثق العُرى بين هذين المسجدين على مر العصورِ قائمةً, وأنه لا انفكاك لهما عن بعضٍ, وأن هذين المسجدين معقلانِ من معاقل الإسلام، وحصنان من حصونه، فلا يتولاهما إلا مسلمٌ موحدٌ لله, وكفارُ قريش وهم أهلُ مكة وقاطنيها، لمَّا لم يؤمنوا بالله ورسوله؛ نفى الله عنهم الولاية على بيته الحرام فقال: (وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ)[الأنفال: 34].
والمسجدُ الأقصى ليس تركةً يهوديةً ولا نصرانيةً، ليعيثوا فيه فساداً وعربدةً وشركاً وإلحاداً, وإنما هو بيت لله مقدس, لا يعمره إلا من آمن بالله واتبع المرسلين؛ (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ)[التوبة: 18].
أقول ما سمعتم, وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولوالدي ولوالديكم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وعلى الله فليتوكلِ المتوكلون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه, الذي يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون.
أما بعد : فاتقوا الله -معاشر المسلمين-؛ يجعل لكم من أمركم يسراً.
عباد الله: إن المسجد الأقصى شريان نابضٌ في قلب كل مسلمٍ، وإن بقاءه سليباً في أيدي اليهود عقوداً من الزمن لن يوقفَ النبضَ، ولن يُنسِ الوَجْدَ، ولن يمحو الأثر, ففي شريعتنا جاء قول رسولنا -صلى الله عليه وسلم-: "لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا"(متفق عليه).
المسجدُ الأقصى قلوبُ المسلمين إليه تَحِنُّ، وأبصارهم إليه ترنو، وآمالهم إلى تحريره تتطلع, وتحريرُ المسجدِ الأقصى ليس حلماً مستحيلاً؛ وإنما هو وعدٌ محققٌ لا ريب فيه, إن كُلَّ شِبْرٍ من بلاد المسلمين حرامٌ أن يستباحَ من غيرهم، فكيف إذا كان المستباحُ أرضاً مباركةً، ومسجداً وقُدساً؟!, وكيفَ إذا كان المستبيحُ له من هم أشدُّ الناسِ عداوةً للذين آمنوا؟!.
إن اليهودَ قومٌ غضبَ الله عليهم, وكَتَبَ عليهم الهوانَ والذلةَ, فهي تطارِدُهم عبر الأزمان والقرون, حُكْمُ اللهِ فيهم إلى يوم القيامة: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)[الأعراف: 167], ليس لهم في أي بقعةٍ من الأرض مأمن، وليس لهم فيها ضمانٌ، إلا بأحد أمرين أثبتهما الله في كتابه: حبلٍ من الله، وحبلٍ من الناس؛ (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ)[آل عمران: 112]؛ فحبلُ الله أن يرضخوا لأحكام الإسلام، وأن يدفعوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، كما هي حالهم في سابق الأمر, وحبلُ الناسِ حمايةُ الناسِ لهم، ودفاعُهم عنهم؛ ليتمكنوا من العيش دون ذُلٍ وهوان, كما هي حالهم اليوم، ولولا حبلُ الناس اليومَ لهم ما بقوا.
أيها المسلمون: إن شريعةَ الله توجبُ على المسلمين أن تبقى عقيدةُ الولاءِ والبراء راسخةً في قلوبهم، لا تزعزعها المصالحُ، ولا تُقْصِيُها تقلباتُ الزمن, وأن المسلمين إن ضَعُفُوا عن استرداد الحقِّ المسلوبِ يوماً فإن عليهم أن لا تَهِنَ نُفوسُهُم، وأن لا يُقِرُّوا للمعتدي قيدَ شبرٍ مِنْ أرضِهم مغتصب, فالأجيالُ الوارِثةُ لن ترضى بالعارِ, ولها في العدوِ ثأرٌ مرتقب؛ (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)[آل عمران: 140].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين.
التعليقات