اقتباس
خلق الله الإنسان وجعله سميعاً بصيراً وبث فيه الشوق لمعرفة كل شي، فترى الإنسان يبحث عن تصور لكل حادث، أو مكان، أو إنسان، أو أمر سمع عنه، فإن لم يتيسر له التصور الصحيح ربما أبدع خياله التصورات، حتى لو كانت سخيفة وغير منطقية، لكن يظن أنها تسد جوعة عقله، فعندما جهل الناس كيف تحدث الزلازل قالوا: إن الأرض محمولة على قرن ثور عظيم، فإذا تعب من حملها نقلها إلى قرنه الثاني فتهتز وهو ينقلها..
خلق الله الإنسان وجعله سميعاً بصيراً وبث فيه الشوق لمعرفة كل شي، فترى الإنسان يبحث عن تصور لكل حادث، أو مكان، أو إنسان، أو أمر سمع عنه، فإن لم يتيسر له التصور الصحيح ربما أبدع خياله التصورات، حتى لو كانت سخيفة وغير منطقية، لكن يظن أنها تسد جوعة عقله، فعندما جهل الناس كيف تحدث الزلازل قالوا: إن الأرض محمولة على قرن ثور عظيم، فإذا تعب من حملها نقلها إلى قرنه الثاني فتهتز وهو ينقلها.
أما الذي يتنزه عن التخيلات والظنون، فإنه لا يبتدع الأساطير ليريح عقله الباحث عن التصورات، بل يفضل أن يتحمل عبء الغموض، وأن يصبر عليه حتى يجعل الله له نوراً. لكن ماذا إن سنحت لي الفرصة أن أرى ما آمنت به بالغيب رأي العين، فتطمئن نفسي عندما تتصور ما سمعت عنه؟ هل أفوّت الفرصة؟ بالطبع لا.
ومن قبل قال سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ{260}} (البقرة: 260).
لقد آمن إبراهيم وصدّق أن الله يحيي الموتى، لكن عقله كان يبحث عن تصوّر لكيفية إحياء الله للموتى، وكان يسعى إلى الاطمئنان القلبي الذي ينجم عن المعاينة لما آمن به بالغيب، فالرؤية ما كانت ستزيده إيماناً إنما كانت ستبث الطمأنينة في قلبه، الذي سيستريح من عناء البحث عن تصور لعملية إحياء الله للموتى، فما كان قلب إبراهيم في شك في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، إنما كان في شك في صحة ما يخطر بباله من تصورات لكيف يحيي الله الموتى، وقد كان محقاً في شكه هذا طالما أن عقله كان يفترض الكيفيات التي يتوقع أن يتم الإحياء بها افتراضاً، فكانت الرؤية مصدر (الاطمئنان الناجم عن التصور الصحيح).
وعموماً فإن ارتباط أمر من الأمور بصورة يراها المرء ويتذكرها، يرسخه في النفس رسوخاً شديداً ويضفي عليه مسحة واقعية مريحة للنفس؛ لهذا كانت وسائل الإيضاح المختلفة من مجسمات، ورسوم ونماذج، كانت ذات أهمية بالغة للعلوم كلها. ولعل هذا يعود إلى أن التفكير في أي شيء من خلال صورة له، أو أية وسيلة إيضاح أخرى أهون على عقولنا، وبخاصة أن كلاً منا قد مر بمرحلة عقلية، طوال سنوات حياته ما قبل الثانية عشرة، ما كان يدرك فيها الأفكار المجردة إلا قبيل نهاية تلك المرحلة، إنما كان لا يدرك من الأفكار إلا ما كان مجسداً في شيء من الأشياء يراه أمامه، أو يتخيله في عقله، أو مجسداً في فعل من الأفعال القابلة للإدراك بالحواس.
وبعد تلك المرحلة تتكون وبالتدريج القدرة على إدراك الأفكار المجردة، دون ضرورة لحصرها بمثال، أو تجسيدها في شيء من الأشياء، أو فعل من الأفعال.
والإنسان الذي خلقه الله أطواراً ينتقل من الأهون إلى الأصعب؛ لذا يبقى الأهون مرغوباً ومريحاً ومطمئناً للنفس، فالمثال يجعلك تفهم الفكرة أكثر، وصورة الشيء تجعلك تشعر أنك تعرفه أكثر، فقد دخل إلى عقلك من خلال حواسك. والتاريخ واحد من تلك العلوم التي ترسخ في العقول بوسائل الإيضاح، فرؤيتك لصورة مدينة من المدائن أو قصر من القصور للذين عاشوا قبل مئات السنين أو آلافها تجعل هذه الشخصية تنطبع في ذاكرتك انطباعا وثيقاً لا يعادله تكرار اسمها المرات الكثيرة؛ لأنه صار لهذا الملك أو ذاك القائد في ذهنك اسم وصورة مرتبطة بآثاره، وليس الاسم فحسب.
وكذلك لو سمعت عن ملك أو شعب عاش في عصر من العصور، وكنت واثقا بصدق من أخبرك لآمنت أن هذا الشعب أو ذلك الملك قد وجد ذات يوم حقاً، لكن إن كانت لهم آثار، وقدر لك أن تراها فسيتعمق إحساسك بواقعية هذا التاريخ الذي آمنت به وصدقت بالغيب، وستبعث رؤيتك للآثار قدراً من الحياة في صورة هذا التاريخ في ذهنك، لأنك صرت أقدر على تخيلهم، فهذه قصورهم، ودورهم، وأسواقهم، وتلك مرابضهم، ومقابرهم، إن رؤيتك لذلك كله تعمق ذاكرتك لهم وتقويها، لأنك قد أضفت إلى ذاكرتك مع أسمائهم أشياءهم التي رأيتها رأي العين، والإنسان يتذكر مما يرى، ويلمس، ويختبر بحواسه أكثر بكثير مما يقرأ عنه أو يسمع عنه.
إن القوة والحيوية التي اكتسبتها ذاكرتك لهم تجعلك تشعر أن أولئك الذين قرأت تاريخهم قد وُجدوا على هذه الأرض وجوداً كوجودنا، فتطمئن النفس برؤية آثارهم، لا لأننا ازددنا إيمانا بأنهم وجدوا، بل لأننا ازددنا معرفة وإدراكاً، وتصوراً لما آمنا به من قبل، أي: أننا تعلمنا ما آمنا به تعلماً أكمل من خلال اشتراك حواسنا في هذا التعلم، ومن خلال ما أضفناه إلى عقولنا من صور وأحاسيس ارتبطت بالمعلومات التي آمنا بها بالغيب، فالذي تعمق هو التعلم والتصور، وليس الإيمان والتصديق.
وهكذا شأن الحاج الذي يقطع المسافات كي يصل إلى مكة المكرمة، فإنه عندما يقع بصره على الكعبة المشرفة لأول مرة ثم يتأملها المرة بعد المرة وكأنه يريد أن يختزنها في عقله فلا ينساها أبداً، يمتلئ قلبه بذلك الاطمئنان الإبراهيمي الناجم عن التصور لما آمن به من قبل، وتساءل كثيراً كيف هو، فكم من مرة صلى واستقبل الكعبة متوجها إلى الكعبة المشرفة، أتراه شك في وجودها لحظة واحدة؟ أبداَ. لكن ما أحلاها طمأنينة تغمر القلب لمرآها!.
وعندما يطوف المؤمن بالكعبة يتذكر انه هنا طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الأرض المباركة التي تطؤها قدماه قد وطئتها قدما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندما يذهب الحاج للسعي فإنه يرى الصفا والمروة ويسعى بينهما حيث سعت هاجر، ويقف فوقهما حيث وقفت تنظر إلى البعيد تبحث عن الماء من أجل إسماعيل عليه السلام وهو طفل صغير ظامىء.
إن محمداً صلى الله عليه وسلم وإبراهيم وإسماعيل وهاجر، وكل ذلك التاريخ المجيد يكتسب بعداً واقعياً جديداً في قلب المؤمن الذي طاف بالكعبة، التي بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وسعى بين الصفا والمروة، وشرب من زمزم ذلك الماء الذي شربت منه هاجر، وشرب منه إسماعيل وإبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم. إن نفس المؤمن تزداد اطمئناناً، وإن ذلك التاريخ المجيد يزداد رسوخاً في نفسه، فيشعر أنه يعرفه ويدركه معرفة أعمق، وإدراكاً أوضح من ذي قبل، وإن كان إيمانه وتصديقه به لم يتغير، فالجاحد الذي لم يؤمن بشيء ما لأنه لم يره، إن رآه قال: سحرت أبصارنا، لأنه لا يريد أن يؤمن ابتداءً، فحتى الرؤية لا تجبر الجاحد على الإيمان، إنما هو شيء آخر، وبعد جديد لما عرفناه وآمنا به من قبل، ذلك الذي يأتينا من الرؤية والعيان بعد الإيمان.
وكذلك يكون عندما يقف المؤمن في عرفة، وعندما يرجم بحصياته الصغيرة تلك المواقع التي ظهر فيها الشيطان لسيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام يريد أن يثنيه عن طاعة الله، وكذلك أيضا يكون عندما يدخل المؤمن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم زائراً للمسجد الذي فيه كان يجلس النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، مصلياً فيه حيث صلى النبي صلى الله عليه وسلم وصلى أصحابه، ثم يقف أمام قبره الشريف مسلّماً، وأمام قبري اللذين كانا من بعده أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ويرى الحجرة الشريفة حيث كان يسكن صلى الله عليه وسلم مع أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. وعندما يزور البقيع وأحُداً، وقباء وغيرها من الأماكن التي شهدت أحداث السيرة العظيمة، سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرة صحابته الكرام.
إن أحداث هذه السيرة وتفصيلاتها تأخذ بُعداَ واقعياً آخر في قلب المؤمن عندما يشهد مواقعها، ويزداد حضورها في هذا القلب؛ إذ أصبح بعضها (ولو كان الأماكن) جزءاً مما خبرته حواسه، فرآها المؤمن بعينه ولمسها بيديه، أي: صار بعضها بالنسبة له من عالم الشهادة بعد أن كان غيباً.
ولئن كانت رؤية هذه الآثار الطيبة تضفي المزيد من الحيوية والوضوح على صورة هذه السيرة العظيمة في أذهاننا، فإنها أيضا تنشئ رابطة عاطفية إضافية بيننا وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، وبيننا وبين صحابته الكرام رضوان الله عليهم. فنحن قد مشينا حيث مشوا، وقد وقعت أبصارنا على الأرض والجبال التي وقعت أبصارهم عليها، وقد شربنا من الماء الذي شربوا منه.. أما كان الصحابة رضوان الله عليهم يتخاطفون شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حلق أو قصر؟ أما حرصوا على أن يفوزوا بشيء من أشيائه في حياته وبعد أن لحق بالرفيق الأعلى صلى الله عليه وسلم تبركاً، ولأنها أثر من الحبيب؟ وإن فاتنا أن نفوز بما فازوا به من آثار من الحبيب صلى الله عليه وسلم فها نحن نطوف حيث طاف، ونسعى حيث سعى، ونشرب من حيث شرب.
وإذا تعذر على المسلم أن يزور تلك البقاع الطاهرة، وأن يؤدي فريضة الحج بنفسه، فلن يتعذر ذلك على أهل بلده كلهم، فإنه لا بد من أن يذهب من كل بلد وفد الرحمن، ويعودوا من حجهم بما فازوا به، يتحدثون إلى الأهل والأصحاب عما رأوا وعايشوا، فينتقل بعض تلك الطمأنينة إلى نفوس السامعين.
فكما أن رؤية شيء مما تركه الأقدمون تضفي على الشعور بتاريخهم بعداً جديداً من الواقعية، فإن رؤية من رأى تلك الآثار يضفي على شعورنا بوجود تلك الآثار بعداً جديداً مماثلاً يخفف من غيبيتها بالنسبة إلينا قليلاً، فكأنهم قد رأوها نيابة عنا، فتحقق بعض المراد وإن لم يتحقق كله، إذ ليس الخبر كالمعاينة.
وهذه الطمأنينة التي تأتي من أن بعضنا قد رأى تلك الأشياء التي آمنا بها بالغيب دون أن نراها، نشعر بها عندما نقرأ في القرآن الكريم أن سيدنا إبراهيم عليه الصلاة السلام قد رأى كيف يحيي الله الموتى؛ لأننا عندما نعلم علم اليقين أن واحداً منا نحن البشر هو إبراهيم قد رأى ذلك، يسري في قلوبنا شيء من تلك الطمأنينة التي نعم بها قلبه، إذ بهذا يكتسب الغيب مسحة من الشهادة. ولعل هذا ما أحس به الصحابة رضوان الله عليهم وما نحسّ به نحن عندما يحدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم عما رأى في إسرائه ومعراجه، فقد رأى السماوات، ورأى الأنبياء السابقين، ورأى الجنة، واطلع على المعذَّبين وهم يعذبون ورأى الكثير الكثير مما آمنا به بالغيب. ولن ندرك الأثر الذي تركته رؤيته صلى الله عليه وسلم لكل هذا في نفوسنا نحن، إلا لو تأملنا أنفسنا، وتخيلنا أنه صلى الله عليه وسلم لم يُعرج به إلى السماء ولم ير ما رأى؛ إن تلك المسحة الملطفة من الشهادة التي تأتينا عن طريقه صلى الله عليه وسلم ستختفي، وسيعود لتلك المغيبات طابعها الغيبي المطلق في أذهاننا.
إنه لم يكن في الإسراء والمعراج تطمين لقلب محمد صلى الله عليه وسلم دون قلوبنا؛ ولم تكن رؤية إبراهيم عليه الصلاة والسلام للطيور الأربعة تبعث حية أمام ناظريه، تطميناً لقلبه دون قلوبنا؛ وليس الحج تطميناً لقلب الحاج دون قلوب أهله وأصحابه إذا رجع إليهم. ولكن شتان ما بين الاطمئنان يفوز به من رأى، والاطمئنان يناله الذي يرى من رأى!
التعليقات