عناصر الخطبة
1/أهمية التأمل في أيام الله وفوائد ذلك 2/حقيقة أيام الله وماهيتها 3/فتح الشيخ محمود سبكتكين لبلاد خرسان وأفغانستان وهدم للصنم 4/معركة الزلاقة وفتح المعتمد بن عباد لبلاد الأندلس 5/بعض أيام الله في بلاد القوقاز 6/بعض أيام الله في مصراهداف الخطبة
اقتباس
أيها المسلمون: إن الأيام التي أرويها الآن ليست قصصاً من الخيال، ولا أساطير تروى، بل هي من أيام الله التي انتصر فيها المؤمنون بالجهاد والعلم والعمل والدعوة، وانتصروا بإقامة الحق والعدل والرحمة بين الناس. إن تاريخنا الإسلامي مفعم بالذكريات، وفي تاريخنا أخبار لـ...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله ...
أما بعد:
أقف معكم في هذه الجمعة مع بعض أيام الله، أيام حصلت فيها انتصارات أهل الحق، فإن في ذكرها والوقوف عندها إحياءً للنفوس، وملئ للقلب بالتفاؤل، ويجعلها توقن أن العاقبة للمتقين، مهما طال ظلام الباطل.
كم نحن بحاجة لتذكر بعض أيام الله، خصوصاً في هذه المرحلة من عمر الأمة، والتي اتفق عليها الشرق والغرب وصار كبيرهم الذي علمهم السحر يرعد ويزبد ويهدد ويتوعد، ولسان حاله كحال سلفه الذي قال: (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي) [القصص: 38].
أو ذلك الذي قال: (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) [البقرة: 258].
أيها المسلمون: إن الأيام التي أرويها الآن ليست قصصاً من الخيال، ولا أساطير تروى، بل هي من أيام الله التي انتصر فيها المؤمنون بالجهاد والعلم والعمل والدعوة، وانتصروا بإقامة الحق والعدل والرحمة بين الناس.
إن تاريخنا الإسلامي مفعم بالذكريات، وفي تاريخنا أخبار لرجال عظماء مخلصين، من علماء وقادة ومجاهدين كانت لهم مواقف بطوليه صدوا فيها عدوان المعتدي، وأوقفوا الظالم عند حدّه.
فتحتاج الأمة في هذا الوقت إلى علماء وقادة ودعاة ومجاهدين يوقفون المعتدي الحالي عند حده.
في أواخر القرن الرابع الهجري كانت العاصمة بغداد تئن من وطأة البويهيين، أولئك الجفاة الذين انحدروا من إقليم الديلم في شمالي إيران، وتسلطوا على الخلافة، فلم يعد للخليفة من أمر إلا المظاهر والشكليات.
في هذه الفترة التي بدأ ظل الإسلام يتقلص في بغداد كان الإسلام يزدهر ويتقدم في منطقة خراسان وأفغانستان، وهذا مصداق حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أمتي كالمطر لا يدرى آخره خير أم أوله؟".
فمن وعود الله لهذه الأمة: أن لا يستأصلها وسيكون فيها الخير والظهور، حتى تقوم الساعة.
فمن عجائب تاريخ الإسلام: أنه كلما تقهقر في جهة تقدم في أخرى، وما أن يتخلى عنه أناس إلا وسخر الله له أناس آخرون: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد: 38].
ففي فترة الضعف التي كانت تعيشها الخلافة في بغداد نبتت قوة في "غزنة" جنوب غربي كابل من بلاد أفغانستان على يد أسرة تركية عميدها: "سبكتكين" الذي بدأ الجهاد في أرض الهند، ثم جاء ابنه محمود الذي أظهر كفاءة عالية، وشخصية قوية، فجمع إقليم خراسان كله تحت إمرته، ووصل إلى الري وأذربيجان، وبارك الخليفة العباسي القادر بالله هذه السلطة السنيّة القوية، وربما وجدها سنداً له تجاه الديلم البويهيين.
كان السلطان محمود من أولئك الملوك المتدينين الذين يهتمون بالعلم، ويقربون العلماء.
ولاشتهار أمر السلطان في العالم الإسلامي حاولت الدولة الفاطمية الرافضية في مصر أن تستميله إليها، فأرسلت أحد دعاتها ليكلم السلطان، ولكن السلطان أدرك مغزى دعوتهم، وقتل هذا الداعية، وأهدى بغلته التي كان يركبها إلى شيخ مدينة: "هرات".
وقال: "كان يركبه رأس الملحدين فليركبه رأس الموحدين".
إن أعظم مناقب السلطان محمود هو: حبه للجهاد، فكان يغزو كل سنة، وكانت وجهته الهند، وقد وُفّق لفتح أقاليم كبيرة، وتعرف أهلها على الإسلام، ثم إنه بلغ السلطان أن الهنود يقولون: إن الذي خرب بلاد الهند وأضعفها هو غضب الصنم الكبير على سائر الأصنام.
وكانوا يقولون عن هذا الصنم: إنه يرزق ويحيي ويميت، ويحجون إليه، وقد تجمع عند هذا الصنم مال كثير، حتى بلغت أوقافه عشرة آلاف قرية، وخدمه من البراهمة ألف رجل، وبين قلعة هذا الصنم وبلاد المسلمين مسيرة شهر، ومفازة قليلة الماء، فعزم السلطان محمود واستخار الله في غزو هذا الوثن، وسار يطوي القفار ومعه ثلاثون ألف فارس وخلق من الرجّالة، وخرج ثاني يوم الفطر سنة 416 هـ، ووصل إلى القلعة في الرابع عشر من ذي القعدة، فلما رأى الهنود تصميم السلطان بذلوا له أموالاً جزيلة ليترك لهم هذا الصنم، وأشار بعض الأمراء معه على أخذ الأموال وإبقاء هذا الصنم لهم، فقال السلطان: "إني فكرت في هذا الأمر فرأيت أنه إذا نوديت يوم القيامة: أين محمود الذي كسر الصنم أحب إليّ من أن يقال: الذي ترك الصنم لأجل ما ينال من الدنيا؟".
وكان على الصنم من الحلي والجواهر ما لا يوصف، فدخل السلطان وزعزع الصنم بالمعاول، فخر صريعاً، ثم أحرقه وفرق الأموال على قادته وجنوده، وعاد إلى قريته "غزنة" من بلاد أفغانستان في صفر سنة 417 هـ.
أرسل السلطان محمود البشارة بهذا الفتح إلى الخليفة في بغداد، يذكر فيه ما افتتحه من بلاد الهند، ويقول: "إني فتحت قلاعاً وحصوناً، وأسلم زهاء عشرون ألفاً من عباد الأوثان".
رحم الله هذا السلطان المجاهد، وجزاه الله خيراً عن الإسلام والمسلمين.
توفي ودفن في أفغانستان.
كان فتحه وكسره للأصنام يوماً من أيام الله.
إن هذا الدين لا يحابي أحداً، إن تخلى عنه أهل الشرق أقامه الله على أيدي أهل الغرب، وإن تخلى عنه أهل الشمال أقامه الله على أيدي أهل الجنوب، وهكذا.
من كان يطرأ على باله أن تظهر قوة ودولة في أفغانستان بعد أن كانت قيادة الأمة في بغداد، فلله الأمر من قبل ومن بعد.
ولننتقل من الشرق إلى الغرب.
في القرن الخامس الهجري انفرط عقد وحدة الأندلس، وانقسمت إلى ممالك صغيرة كل مدينة دولة تحكمها أسرة من الأسر الأندلسية، وكان أوسعهم مملكة وقوة محمد بن عباد صاحب إشبيلية وقرطبة، وقد تتعاون هذه الدول أحياناً أمام الزحف الآتي من الشمال وهم نصارى أسبانيا، وقد يختلفون ويستعين بعضهم بالعدو لمحاربة أهل ملّته وجيرانه، فالوضع العام لا يدعو إلى التفاؤل، أرسل له أمير أحد الممالك: "أيها الملك إن الروم إذا لم تُغز غزت، ولو تعاقدنا مخلصين فَللنا حدّهم".
وكان ملك النصارى قد قوي أمره وبدأ يزحف على المدن الإسلامية، وكانت طليطلة من أول مدن الأندلس العظيمة التي استردها الأسبان صلحاً من القادر بن يحيى بعد حصار دام سبع سنين.
وكان ذلك في سنة 478 هـ، وبسبب تفرق ملوك الطوائف، فإنهم كانوا يدفعون ضريبة لملك النصارى.
وكان ابن عباد يدفع الضريبة أيضاً، ولكن ملك النصارى لم يرض، وطلب المزيد من القلاع والحصون، وأرسل وفداً كبيراً إلى ابن عباد، وعلى رأسهم يهودي، وفرض شروطاً مذلة واستفزازية، فضرب ابن عباد رئيس الوفد على وجهه، حتى برزت عيناه، ورفض هذه الشروط، وبدأ كل فريق يستعد للقتال.
سمع علماء قرطبة بما جرى، ورأوا قوة النصارى، وضعف المسلمين واجتمعوا، وقالوا: هذه بلاد الأندلس قد غلب عليها النصارى، ولم يبق فيها إلا القليل، وإن استمرت الأحوال على ما نرى عادت الأندلس نصرانية كما كانت، وساروا إلى القاضي عبد الله بن محمد بن أدهم، فقالوا له: ألا تنظر ما فيه المسلمون من الذلة، وعطائهم الجزية، وقد رأينا رأياً نعرضه عليك، قال: وما هو؟ قالوا: نكتب إلى عرب أفريقية تونس وما جاورها، ونبذل لهم، فإذا وصلوا إلينا قاسمناهم أموالنا وخرجنا معهم مجاهدين في سبيل الله، قال: المرابطون أصلح منهم، وأقرب إلينا، قالوا له: فكاتب أمير المسلمين ابن تاشفين، واطلب منه ليعبر إلينا.
وقدم عليهم المعتمد بن عباد، وهم يتكلمون حول خطر النصارى، فعرض عليه القاضي ابن أدهم ما كانوا فيه، فقال له ابن عباد: أنت رسولي إلى ابن تاشفين، فسار ابن أدهم، وأبلغ الرسالة إلى ابن تاشفين، وأعلمه ما فيه المسلمون من الخوف.
أدرك ابن عباد ضرورة حشد كل القوى لمواجهة نصارى الشمال، وعندما علم بعض ملوك الأندلس بعزم ابن عباد طلب العون من ابن تاشفين خوفوه، وقالوا: إذا دخل ملك المغرب الأندلس أخذها وتملّكها، فقال ابن عباد قولته المشهورة: "لأن أرعى الإبل خير لي من أرعى الخنازير".
يقصد رحمه الله أنه مستعد للتضحية بملكه، ويرعى الإبل عند ابن تاشفين، فإن هذا خير من أن يتغلب عليه النصارى.
عندما التقى ابن تاشفين برسول ابن عباد، وكان في مدينة "سَبتة" أمر فوراً عساكره بالعبور إلى الأندلس، ثم طلب بقية الجيش من مراكش، حتى إذا تكاملت كل قواته عبر المضيق، والتقى بابن عباد الذي أكرمه إكراماً يليق به، وأمر أن توضع الجزيرة الخضراء جنوبي الأندلس تحت تصرفه، وتسامع المسلمون في الأندلس بوصول ملك المغرب، فخرجوا من كل البلاد يطلبون الجهاد في سبيل الله.
لقد كان يوماً من أيام الله.
وهكذا النصارى في كل زمان ومكان تدحرهم لو جمع وحشد المسلمون قواهم.
علم ملك النصارى بوصول ابن تاشفين ومعه جيش كبير، فجمع فرسانه، وسار من طليطلة، وكتب إلى أمير المسلمين يغلظ له القول ويخوفه بما عنده من القوة والعدد، فكتب إليه أمير المسلمين: "الذي يكون ستراه".
فلما قرأها ارتاع لها وعلم أنه بلي برجل له عزم وحزم.
قام المعتمد بن عباد بتنظيم كافة الإجراءات، واتخاذ كافة التدابير، مثل تنظيم الحراسة، ومراقبة تحركات العدو، وأشرف بنفسه على كل ذلك، وكان عنده شبكة استطلاع قوية أمكن لها التوغل، حتى قلب معسكر النصارى، واستطاعت إنذار ابن عباد في الوقت المناسب.
وفي فجر يوم الجمعة منتصف رجب، عام 479 هـ، بدأت معركة: "الزلاقة".
وتلقى ابن عباد وفرسانه الصدمة الأولى، وأحاطت جيوش النصارى به من كل مكان، وكان عسكر ابن تاشفين يبعد قليلاً، ولم يلتحم مع جيش الأندلس بعد، وصبر ابن عباد وظهرت شجاعته وأثخنته الجراح، وطُعن في أحد جنبيه، وعُقر تحته ثلاثة أفراس كلما هلك واحد قُدّم له آخر، ثم وصلت طلائع جيش ابن تاشفين، واقتحمت جيش العدو، وخففت الضغط عن ابن عباد، فاستعاد ترتيب جيشه، والتقى مع ابن تاشفين، وقاتل الطرفان قتالاً شديداً.
وعندما حان وقت الزوال، ظهرت بوادر النصر وولى النصارى ظهورهم، ونصر الله دينه، وكان نصراً مؤزراً كبيراً، واستشهد في هذا اليوم جماعة من كبار العلماء؛ فقد كانوا يقاتلون مع المسلمين.
لم يرض ابن تاشفين أن يأخذ شيئاً من الغنائم، وكتب بالفتح إلى بلاد المغرب، وإلى مسلمي شمال أفريقيا، فعمت الفرحة في جميع البلاد، وأخرج الناس الصدقات شكراً لله –تعالى-.
شكر ابن عباد ابن تاشفين على نجدته للإسلام والمسلمين، وأعجب ابن تاشفين بصبر ابن عباد، وحسن بلائه، وعاد أمير المسلمين، قافلاً إلى بلاده.
كان حقاً يوماً عظيماً من أيام الله أعز الله فيه دولة الإسلام، وأذل فيه دولة النصارى.
ولننتقل الآن، ولندخل قلب أوربا لنرى ماذا فعل صقور القوقاز هناك؟
على الضفة الغربية من بحر الخزر قزوين تقع داغستان بجبالها الشاهقة، وأنهارها السريعة، ولغاتها المختلفة، وأعراقها الكثيرة على صغر مساحتها، وقلة سكانها.
دخل الإسلام مبكراً إلى هذه البلاد، فقد تم فتح أرمينية وأذربيجان في عهد الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- سنة 20 هـ، ومن القواد الفاتحين سراقة بن عمرو وسلمان بن ربيعة الباهلي، وكانوا يسمون داغستان: "باب الأبواب" وكأنها مركز ومدخل لفتح بقية البلدان.
وفي عام 105هـ، تم الفتح الإسلامي على يد مسلمة بن عبد الملك، انتشر الإسلام بين شعوب هذه المنطقة، وتعايشت مع الدول الإسلامية المتعاقبة، وفي القرن السادس عشر طمع الروس في الاستيلاء على داغستان، فلم يفلحوا ووجدوا مقاومة شديدة.
وفي عام 1722م، أعادوا الكرة وساق بطرس الأكبر جيشاً استولى فيه على سائر السواحل الغربية لبحر الخزر، ولكن سرعان ما استُرجعت هذه المناطق من الروس.
وفي عام 1813 م، رجع الروس للمرة الثالثة، واستطاعوا السيطرة على داغستان، وما جاورها.
تخلى المسلمون في ذلك الوقت وهم الدولة العثمانية، وغيرها من الدول القائمة يومئذ عن مساعدة داغستان، واستسلم أمراء البلاد للحكومة الروسية.
عندئذ ثار الشعب على الروس وعلى الأمراء، وتولى قيادة المقاومة العلماء وتلامذتهم، وكأنهم سبقوا سائر المسلمين في معرفة أن ضررهم هو من حكامهم الذين يبيعون حقوق الأمة بلقب، أو لذة فارغة.
قام العلماء بالإصلاح الداخلي أولاً، وهو: أن تكون المعاملات وفقاً للشريعة، وتزّعم تلك الحركة القاضي محمد الذي لقب بعدئذ بـ "الغازي" استطاع غازي محمد السيطرة على قبائل المنطقة، وامتدت دولته إلى الشيشان، وانتصر على الروس في عدة مواقع، وكان من مساعديه المقربين الشيخ شامل الذي اشتهر بصرامته وإخلاصه.
حوصر غازي محمد ورجاله، وبعد استشهاد عدد من المجاهدين، قال لشامل: سيقتلوننا جميعاً دون أن نسبب خسارة للكفار، الأفضل أن نخرج ونقاتل، وعندما اندفع خارجاً سقط برصاص العدو، ورأى شامل جنديين واقفين في مواجهة الباب، وبلمحة بصر قفز خارجاً من الباب، فاستدار الجنديان، ولكن شامل قطعهما بالسيف وشق شامل طريقه بين حراب الأعداء بعد أن جرح خمسة عشر جرحاً، والتجأ إلى الجبال.
التف الداغستانيون حوله بعد استشهاد الغازي محمد.
قاتل الشيخ شامل الروس لمدة خمس وعشرين سنة ومعه آلاف المجاهدين من داغستان والشيشان، وفي أحد المعارك خسر الروس ثلاثة آلاف قتيل.
وفي عام 1839م، اندلعت الثورة في الشيشان، وأعلنت قراها القريبة من داغستان خضوعها للشيخ شامل.
حاول الروس معاقبة الشيشانيين، ولكنهم تعرضوا لهزيمة منكرة.
افتتح شامل جميع الحصون التي كانت مع الروس، وغنم منهم 35، مدفعاً ومؤناً كثيرة، وأخذ عدداً من الأسرى.
وعمل الشيخ شامل على تطوير الصناعة الحربية، وخاصة صناعة المدافع، كما أنشأ مصنعاً للذخيرة، وفي هذه المعارك الطاحنة مع الروس أسر ولده عبد الرحمن.
وفي المقابل استطاع الشيخ أسر أميرات من جورجيا ليبادل الروس بابنه عبد الرحمن، عندها وضعت روسيا كل إمكاناتها الحربية في قتال الشيخ شامل، وما زالت روسيا توالي الزحوف وتستولي على الحصون، حتى اضطر الشيخ للالتجاء إلى الجبال، وفتح معارك صغيرة مع الروس.
وفي أحد القرى الجبلية المرتفعة تحصن الشيخ بعدد محدود من المجاهدين، تدخل بعض أمراء المسلمين للصلح ودعوته للاستسلام، ولم يكن الشيخ ينتظر، أي مساعدة من العالم الإسلامي.
قاتل الشيخ حتى آخر لحظة، ولم يبق في القلعة سوى ثلاثمائة شخص، وقاتلت النساء.
تردد الشيخ شامل في الاستسلام، وقبول الشروط.
استطاع أحدهم الوصول إلى مقر الشيخ وحياه، قائلاً: "يا شامل العالم كله يعرف مآثرك والمجد الذي أحاط بشخصك، وعليك أن تخرج لمقابلة القائد الأعلى، خرج البطل من قريته محاطاً بثلة من المجاهدين، ترجل شامل عن ظهر جواده كان يلبس إزاراً أخضراً وعلى رأسه عمامة بيضاء، ووقف أمام قائد الروس ووضع يده اليمنى على مقبض سيفه، وألقى نظرة على جبال داغستان، وقال: "لقد حاربت خمساً وعشرين سنة أدافع عن وطني، جروحي تؤلمني ولن تلتئم أبداً".
تلقى شامل بعدها الإذن بالرحيل إلى مكة فأُخرج من داغستان مع أفراد أسرته.
وبعد أحد عشر شهراً من وصوله توفي في المدينة النبوية.
كيف استطاع هؤلاء القلة في هذه الجبال والكهوف وأمثالهم في العالم الإسلامي الانتصار على دول كبرى بعددها وعدتها، وإن هزموا بعدئذ بسبب التفوق التقني الغربي، ليس هناك إلا جواب واحد: إنها أمة سليمة الإيمان، نقية الجوهر لم يتم بعد تغريبها ولا تدجينها، كانت القيادة للنخبة التي أعطاها المجتمع مقاليده.
رحم الله الشيخ شامل، وبارك في جهاده.
حقاً لقد كان يوماً من أيام الله.
والمسلمون في العالم يرفعون أيديهم بالدعاء إلى الله في هذه الأيام أن يعيد المجاهدون في الشيشان أيام الشيخ شامل، وأن يكتب الله على أيديهم دحراً للروس، ويسجل لهم التاريخ يوماً آخر من أيام الله.
بارك الله لي ولكم ...
أقول ما قلت، فإن كان صواباً فمن الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن نفسي والشيطان والله ورسوله منه بريئان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه ...
أما بعد:
ومن أيام الله: ما حصل للأزهر في مصر، كان الأزهر من أبرز المعاهد الدينية والحصون العلمية في تاريخنا الحضاري.
وفي أواخر القرن الثامن عشر كانت أوضاع مصر متردية من الناحية السياسية، فحكامها من المماليك يحاولون الانفصال عن الدولة العثمانية، وهم فئة أتقنت فن القتال، ولكنها أتقنت أيضاً الظلم وأكل أموال الناس، وكان لعلماء الأزهر صولة وقوة فكانوا يردعونهم عن الظلم ويبطلون كثيراً من قراراتهم المخالفة للشرع.
ومن أشهر الحوادث: حادثة الشيخ الشرقاوي عندما جاءه الفلاحون يشكون إليه ظلم الجنود الذين يطلبون منهم ما لا قدرة لهم عليه؛ فقام الشيخ وأقفل الأزهر وأمر الناس بإغلاق الأسواق، وتعاون معه في ذلك عدد من المشايخ، وأذعن الحكام والتزموا بما شرطه عليهم العلماء، ووقعوا وثيقة على ذلك.
وأما الدولة العثمانية، فكانت مشغولة بحروبها مع الروس وفرنسا وبريطانيا تتنافسان للسيطرة على البحار والمواقع المهمة في العالم.
ومن هنا جاءت فكرة القائد الفرنسي نابليون لغزو مصر، حتى يقطع الطريق على بريطانيا في السيطرة على البحر المتوسط.
استطاع نابليون دخول مصر بعد مقاومة شعبية من أهالي الإسكندرية، وعندما اقترب من القاهرة انهزم المماليك في أول معركة اصطدموا بها مع الفرنسيين؛ لأنهم كما وصفهم المؤرخ الجبرتي حريصون على حياتهم ورفاهيتهم، معتزون بجمعهم محتقرون، شأن عدوهم، مختلفة آراؤهم.
دخل نابليون القاهرة وزين له جواسيسه أن يكتب منشوراً يتظاهر فيه بحب الإسلام لعله يخدع أهل مصر لكن لم يصدقه أحد.
فشلت القيادة السياسية العسكرية أن تقاوم الغزو الفرنسي فانتقلت قيادة الأمة إلى علماء الأزهر.
وهذا شيء طبيعي، إذا تخلى الحكام عن دورهم في أية مرحلة من مراحل التاريخ، فإن الشعوب تتوجه تلقائياً للعلماء، عرف نابليون هذا الأمر، وأن القيادة للعلماء، فاستدعاهم إليه، فلما استقروا نهض وبيده أقمشة بلون العلم الفرنسي، فوضع واحداً منها على كتف الشيخ الشرقاوي كبير العلماء، فرمى به الشيخ على الأرض، واستعفى، وتغير لونه، فقال الترجمان: قصده تعظيمكم بوضع هذه الشارة، وبذلك يعظمكم الناس.
فلم تنطل الحيلة عليه.
تحرك العلماء وقادوا الثورة ضد الفرنسيين، وأغلقت القاهرة أسواقها، وعمت هذه الثورة كل المناطق شمالي القاهرة، وسمع أهل الحجاز بدخول الفرنسيين مصر، فقام أحد العلماء، وهو: الشيخ الكيلاني، وكان مجاوراً بمكة يحرض الناس لمساعدة إخوانهم، وقَدِم منهم ستمائة من المجاهدين، وانضم إليهم أهل ينبع وجملة من أهل الصعيد، وقاوموا الفرنسيين في جنوب مصر.
فوجئ نابليون بهذه الثورة، فأمر بأن تدك المدفعية الجامع الأزهر، وما حوله من الأحياء؛ لأن الأزهر كان يمثل قيادة الأمة، واستمر الضرب في منتصف النهار وحتى المساء.
وفي اليوم الثاني دخل جنود فرنسا الأزهر، وهم راكبون الخيول، وكسروا القناديل، وهشموا خزائن الطلبة، ونهبوا الأواني، ورموا المصاحف على الأرض، وأعدم نابليون ثلاثة عشر من مشايخ الأزهر؛ منهم الشيخ/ أحمد الشرقاوي، وعبد الوهاب الشبراوي، وغيرهم.
رجع نابليون إلى فرنسا، وقامت ثورة ثانية في القاهرة يقودها علماء آخرون، وقاوم الشعب المصري مقاومة كبيرة، واستطاعوا إنشاء المصانع لإصلاح الأسلحة، وصنع المدافع، وأقدم طالب أزهري من مدينة حلب على قتل القائد الفرنسي: "كليبر" ورحل بعدها الفرنسيون بعد أن احتلوا مصر لمدة ثلاث سنوات.
إنه يوم عظيم من أيام الله، لا بد من التذكير به، وأن نعلم جيداً بأن النصارى فضلاً عن اليهود لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، ولو تمكنوا لدخلوا علينا مساجدنا، وهذه هي أخلاقياتهم في الحروب منذ القديم، لا يفرقون بين مسجد ومستودع، ولا بين مدني وعسكري، ولا بين مجاهد مقاتل وشيخ كبير وامرأة عجوز..
فنسأل الله -تعالى- أن يكفينا شرهم ...
اللهم رحمة ...
التعليقات