عناصر الخطبة
1/تعريف الموعظة وعظم شأنها 2/مواعظ القرآن الكريم وأثرها في صلاح القلب 3/مواعظ السنة النبوية وأثرها على القلوب 4/أقسام الناس بعد سماع المواعظ 5/المواعـظ تـريـاق الذنـوباقتباس
إن المواعظ سِياطُ القُلوب، تؤثّر في الإنسان كتأثير السِّياط في الأَبدان!، وفي ذلكَ يقول ابنُ رجب -رحمه الله-: "إن المواعظ سِياطٌ تُضربُ بها القلوب فتؤثّر فيها كتأثير السِّياط في البَدن!، والضربُ لا يؤثّر بعد انقضائه كتأثيره في حال وجوده"...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المؤمنون: فإن دين الإسلام والإيمان يخاطب الألباب والوجدان؛ ويضرب الأمثال الممزوجة بالحجة والبرهان، ومن ذلك قول الحكيم الرحمن: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)[يس:78-79].
بل إن الإسلام حث العبد على التأمل فيما يثير المشاعر والوجدان وما به تسمو الروح وتتزين بالإيمان، قال تعالى: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ * أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)[النمل:62-63].
وكان من أساليب إثارة الشعور والوجدان لإصلاح القلوب المواعظ والتذكير.
والموعظة من وعظ، وهو النصح والتذكير بالعواقب، وهو تذكيرك للإنسان بما يلين قلبه من ثواب وعقاب.
والمواعظ سياط القلوب وفي ذلكَ يقول ابنُ رجب -رحمه الله-: "إن المواعظ سِياطٌ تُضربُ بها القلوب فتؤثّر فيها كتأثير السِّياط في البَدن!، والضربُ لا يؤثّر بعد انقضائه كتأثيره في حال وجوده".
ومما يؤكد على أهمية الموعظة وعظيم أثرها قوله -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)[يونس: 57]، بل أخبر سبحانه بأن القبول بالموعظة وحسن الاستجابة لها لسبيل لنيل الخير الكثير والأجر الوفير، قال الله -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ)[النساء: 66].
معاشر المسلمين: ولا شك أن مواعظ القرآن هي سبيل صلاح القلوب وتعافيها من القسوة والران والغفلة والطغيان؛ يقول الحق تبارك وتعالى-: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا)[النساء: 66].
أيها المؤمنون: لقد كان -صل الله عليه وسلم- يحيي النفوس ويصلح فساد القلوب بالمواعظ، وجعل الموعظة وسيلة من وسائل تزكيتها، عن العرباض بن سارية -رضي الله عنه-قال: "وعظنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوما بعد صلاة الغداة موعظة بليغة؛ ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال رجل: إن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟ قال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبد حبشي فإنه من يعش منكم يرى اختلافا كثيرا، وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ" (رواه الترمذي وابن ماجه).
نعم؛ ذرفت العيون ووجلت القلوب، وهذا ما نحتاجه لنصلح فساد قلوبنا، وحتى نتأسى بالصالحين من قبلنا، إن المواعظ التي تُرقِّقُ القلوب وتَجْلي الصدور، لها منازلُ عُليا في تاريخنا البعيد والقريب، قد ضمَّتها نفائسُ الأَسفار التي خاطَبتِ الأمة، وبَلَغت أنوارُها الدَّهماء والعامّة؛ وقد حُفظت هذه النفَّائسُ لتكون للناس الزادَ ليوم المَعاد.
خرج هارون الرشيد يوماً في رحلة صيد فمرّ برجل يقال له بُهلول قد اعتزل الناس وعاش وحيداً، فقال هارون: عظني يا بُهلول قال: يا أمير المؤمنين! أين آباؤك وأجدادك؟ من لدن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أبيك؟ قال هارون: ماتوا، قال: فأين قصورهم؟ قال: تلك قصورهم، قال: وأين قبورهم؟ قال: هذه قبورهم، فقال بُهلول: تلك قصورهم، وهذه قبورهم، فما نفعتهم قصورهم في قبورهم؟ قال: صدقت، زدني يا بهلول، قال: أما قصورك في الدنيا فواسعة فليت قبرك بعد الموت يتسع، فبكى هارون وقال: زدني فقال: يا أمير المؤمنين: قد ولاك الله فلا يرى منك تقصير ولا تفريط، فزاد بكاءه وقال: زدني يا بهلول، فقال: يا أمير المؤمنين: هب انك قد ملكت كنوز كسرى، وعُمرت السنين فكان ماذا؟ أليس القـبر غـاية كـل حيٍ، وتُسأل بعده عن كل هذا؟ قال: بلى، ثم رجع هارون ولم يكمل رحلة الصيد تلك، و انطرح على فراشه مريضاً، ولم تمضِ عليه أيام حتى نزل به الموت.
عباد الله: والناس بعد سماع المواعظ ينقسمون عدة أقسام، قال ابن رجب:
فـ "منهم من يرجع إلى هواه فلا يتعلق بشيء مما سمعه في مجلس الذكر، ولا يزداد هدى ولا يرتدع عن ردى، وهؤلاء شر الأقسام، ويكون ما سمعوه حجة عليهم؛ فتزداد به عقوبتهم وهؤلاء الظالمون لأنفسهم: (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)[النحل:108].
ومنهم من ينتفع بما سمعه وهم على أقسام: فمنهم من يرده ما سمعه عن المحرمات ويوجب له التزام الواجبات، وهؤلاء "المقتصدون أصحاب اليمين.
ومنهم من يرتقي عن ذلك إلى التشمير في نوافل الطاعات والتورع عن دقائق المكروهات، ويشتاق إلى إتباع آثار من سلف من السادات "وهؤلاء السابقون المقربون".
قلت ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه .
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، والصلاة والسلام على رسوله الداعي إلى رضوانه، وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وبعد:
أيها الناس: والموعظة مطلوبة من كل مسلم، حسب علمه وقدرته، وبآدابها وشروطها؛ فنحتاج للموعظة في البيوت مع الأهل والأولاد، ونحتاجها مع الزملاء والأصدقاء، ونحتاجها في المجالس والمنتديات، ونحتاجها في مساجدنا ومدارسنا، ونحتاجها في التناصح والتذكير متى ما دعت إليها الحاجة.
وعلى الإنسان كلما شعر بقسوة قلبه أن يبحث له عن واعظ يذهب إليه ليذكره ويعظه؛ كما يذهب إلى الطبيب الماهر ليعالجه من أمراض الجسد؛ فالمواعـظ دواء القلوب وتجديد العلاقة والصلة بعلام الغيوب.
وغـيـر تقي يـأمـر الناس بالتقى *** طبـيب يـداوى النـاس وهـو سقـيم
يـا أيـها الرجـل المـقـومـ غيـره *** هلا لنـفسك كـان ذا التـقويــم
فابـدأ بـنـفـسك فانههـا عن غـيها *** فإن انتـهـت عنـه فأنـت حـكيم
فهناك يقـبل مـا تقـول ويقـتدي مثلـه *** بالقـول منـك وينفـع التعليم
لا تنـه عن خُـلق وتأتي مثـلــه *** عــار عـليك إذا فـعلت عـظيـم
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وصلوا وسلموا على عبد الله ورسوله محمد امتثالاً لأمر الله -تعالى- لكم: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
التعليقات