عناصر الخطبة
1/ كان أبو حاتم الرازي من بحور العلم 2/بعض من أخباره العجيبة في رحلته لطلب العلم 3/ مما يميز أبا حاتم همته العالية وصبره على تحمُّل المشاق 4/للأمة الإسلامية أن تفخر بعلم الحديث والروايةاقتباس
إِنَّ سِيَرَ حُفَّاظِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وَأَخْبَارَهُمْ، وَمَا أَبْلَوْا فِيهِ شَبَابَهُمْ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ وَالرِّحْلَةِ فِي تَحْصِيلِهِ، وَتَحَمُّلِ مَشَقَّةِ السَّفَرِ وَالسَّهَرِ وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالْفَقْرِ، وَصَبْرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ؛ لَنَمَاذِجُ يَجِبُ أَنْ تُدَرَّسَ لِلشَّبَابِ الْمُسْلِمِ؛ لِيُفَاخِرُوا بِدِينِهِمُ الَّذِي حَفِظَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- بِهِمَمِ أَسْلَافِهِمْ...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْخَلَّاقِ الْعَلِيمِ، الْوَهَّابِ الْكَرِيمِ؛ خَلَقَ نُفُوسًا بِهِمَمٍ تُنَاطِحُ السَّحَابَ، وَتَدُكُّ الْجِبَالَ، وَلَا تَعْرِفُ الْيَأْسَ، وَوَهَبَهَا مِنَ الْعَقْلِ أَكْمَلَهُ، وَمِنَ الْعِلْمِ أَنْفَعَهُ، وَمِنَ الْعَزْمِ أَقْوَاهُ، فَتَعِبَتْ أَجْسَادُهَا فِي نَيْلِ مُرَادِهَا، وَجَفَا النَّوْمُ أَعْيُنَهَا فِي مُبْتَغَاهَا، نَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا إِلَيْهِ مِنْ دِينِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى مَا قَسَمَ لَنَا مِنْ رِزْقِهِ، وَهُوَ (الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذَّارِيَاتِ: 58]، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، الْجَوَادُ الْكَرِيمُ، وَالْبَرُّ الرَّحِيمُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَعْلَى اللَّهُ -تَعَالَى- ذِكْرَهُ فِي الْعَالَمِينَ، وَشَفَّعَهُ فِي النَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَحَفِظَ بِهِ مَعَالِمَ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوهُ فَلَا تَعْصُوهُ؛ فَإِنَّ هَوْلَ الْمُطَّلَعِ شَدِيدٌ، وَإِنَّ الْحِسَابَ عَسِيرٌ، وَ"مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ" (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) [الْحَاقَّةِ: 18]، فَأَعِدُّوا لِلْعَرْضِ عُدَّتَهُ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ وَالْمُوبِقَاتِ، وَمُلَازَمَةِ الذِّكْرِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَالْإِكْثَارِ مِنَ الْمُكَفِّرَاتِ (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا) [النِّسَاءِ: 110].
أَيُّهَا النَّاسُ: الْعِلْمُ فَخْرٌ لِحَامِلِهِ، وَالْجَهْلُ عَارٌ عَلَى صَاحِبِهِ، وَأَعْظَمُ الْعِلْمِ وَأَشْرَفُهُ وَأَنْفَعُهُ الْعِلْمُ بِاللَّهِ -تَعَالَى- وَبِمَا يُرْضِيهِ. وَفِي الْإِسْلَامِ رِجَالٌ حَفِظُوا الْعِلْمَ وَحَمَلُوهُ إِلَيْنَا، وَتَتَبَّعُوا الْآثَارَ وَالسُّنَنَ فَجَمَعُوهَا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ وَكُتُبِهِمْ، وَأَمْضَوْا حَيَاتَهُمْ كُلَّهَا يَتَعَلَّمُونَ وَيُعَلِّمُونَ، وَفِي طَلَبِ الْعِلْمِ يَسْهَرُونَ وَيَرْتَحِلُونَ، قَدْ قَذَفَ اللَّهُ -تَعَالَى- حُبَّ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فِي قُلُوبِهِمْ، فَلَا رَاحَةَ لَهُمْ إِلَّا فِي جَمْعِهَا وَتَحْقِيقِهَا، وَحِيَازَةِ الصَّحِيحِ مِنْهَا، وَنَفْيِ الْكَذِبِ وَالْوَهْمِ عَنْهَا. رِجَالٌ حُقَّ لِأُمَّةِ الْإِسْلَامِ أَنْ تُفَاخِرَ بِهِمْ، وَحُقَّ لَهُمْ أَنْ يَكُونُوا قُدْوَةً لِشَبَابِهَا فِي الْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ وَالطَّلَبِ وَالْمُثَابَرَةِ.
كَانَ مِنْ أُولَئِكَ الْأَفْذَاذِ أَبُو حَاتِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ بْنِ الْمُنْذِرِ الرَّازِيُّ، وُلِدَ فِي آخِرِ الْقَرْنِ الْهِجْرِيِّ الثَّانِي، وَحَيَاتُهُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَالرِّحْلَةِ إِلَى الشُّيُوخِ -وَهُوَ شَابٌّ- عَجَبٌ عُجَابٌ، بَدَأَ كِتَابَةَ الْحَدِيثِ وَطَلَبَهُ وَعُمْرُهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَقَطْ. وَصَفَهُ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ فَقَالَ: "كَانَ مِنْ بُحُورِ الْعِلْمِ، طَوَّفَ الْبِلَادَ، وَبَرَعَ فِي الْمَتْنِ وَالْإِسْنَادِ، وَجَمَعَ وَصَنَّفَ، وَجَرَحَ وَعَدَّلَ، وَصَحَّحَ وَعَلَّلَ". وَحَاوَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُحْصِيَ شُيُوخَهُ الَّذِينَ رَوَى عَنْهُمْ فَأَحْصَى قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافِ شَيْخٍ مِنْ مُخْتَلَفِ الْبُلْدَانِ وَالْأَمْصَارِ.
أَخْبَرَ ابْنَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بِمَا وَقَعَ لَهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَهُوَ ابْنُ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَقَطْ، فَقَالَ: "بَقِيتُ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ بِالْبَصْرَةِ، وَكَانَ فِي نَفْسِي أَنْ أُقِيمَ سَنَةً، فَانْقَطَعَتْ نَفَقَتِي، فَجَعَلْتُ أَبِيعُ ثِيَابِي حَتَّى نَفِدَتْ، وَبَقِيتُ بِلَا نَفَقَةٍ، وَمَضَيْتُ أَطُوفُ مَعَ صَدِيقٍ لِي إِلَى الْمَشْيَخَةِ، وَأَسْمَعُ إِلَى الْمَسَاءِ، فَانْصَرَفَ رَفِيقِي، وَرَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي، فَجَعَلْتُ أَشْرَبُ الْمَاءَ مِنَ الْجُوعِ، ثُمَّ أَصْبَحْتُ، فَغَدَا عَلَيَّ رَفِيقِي، فَجَعَلْتُ أَطُوفُ مَعَهُ فِي سَمَاعِ الْحَدِيثِ عَلَى جُوعٍ شَدِيدٍ، وَانْصَرَفْتُ جَائِعًا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ غَدَا عَلَيَّ، فَقَالَ: مُرَّ بِنَا إِلَى الْمَشَايِخِ. قُلْتُ: أَنَا ضَعِيفٌ لَا يُمْكِنُنِي. قَالَ: مَا ضَعْفُكَ؟ قُلْتُ: لَا أَكْتُمُكَ أَمْرِي، قَدْ مَضَى يَوْمَانِ مَا طَعِمْتُ فِيهِمَا شَيْئًا. فَقَالَ: قَدْ بَقِيَ مَعِيَ دِينَارٌ، فَنِصْفُهُ لَكَ، وَنَجْعَلُ النِّصْفَ الْآخَرَ فِي الْكِرَاءِ، فَخَرَجْنَا مِنَ الْبَصْرَةِ، وَأَخَذْتُ مِنْهُ النِّصْفَ دِينَارٍ".
مَشَى هَذَا الشَّابُّ الْجَادُّ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فِي رِحْلَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى قَدَمَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ آلَافِ كِيلُومِتْرٍ، وَهِيَ الْآنَ لَا تُقْطَعُ إِلَّا بِالطَّائِرَةِ. يَقُولُ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: "أَوَّلُ سَنَةٍ خَرَجْتُ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ أَقَمْتُ سَبْعَ سِنِينَ، أَحْصَيْتُ مَا مَشَيْتُ عَلَى قَدَمِي زِيَادَةً عَلَى أَلْفِ فَرْسَخٍ. ثُمَّ تَرَكْتُ الْعَدَدَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَخَرَجْتُ مِنَ الْبَحْرَيْنِ إِلَى مِصْرَ مَاشِيًا، ثُمَّ إِلَى الرَّمْلَةِ مَاشِيًا، ثُمَّ إِلَى دِمَشْقَ، ثُمَّ أَنْطَاكِيَةَ وَطَرَسُوسَ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى حِمْصَ، ثُمَّ إِلَى الرَّقَّةِ، ثُمَّ رَكِبْتُ إِلَى الْعِرَاقِ، كُلُّ هَذَا فِي سَفَرِي الْأَوَّلِ وَأَنَا ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً".
هِمَّةٌ عَالِيَةٌ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ، كَانَ مِنْ نَتَائِجِهَا حِفْظُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، وَمَعْرِفَةُ أَحْوَالِ رُوَاتِهَا، وَكَانَ أَبُو حَاتِمٍ خَبِيرًا بِأَحْوَالِ آلَافٍ مِنْ رِجَالِ الْحَدِيثِ وَمَرْوِيَّاتِهِمْ وَشُيُوخِهِمْ وَطُلَّابِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، يَعْرِفُهُمْ أَكْثَرَ مِمَّا يَعْرِفُ الرَّجُلُ أَفْرَادَ أُسْرَتِهِ، وَمَنْ طَالَعَ مَا نُقِلَ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ وَفِي رُوَاتِهِ تَبَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ، فَسُبْحَانَ مَنْ سَخَّرَهُ لِهَذِهِ الْمُهِمَّةِ الشَّاقَّةِ، وَسُبْحَانَ مَنْ هَدَاهُ لِهَذَا الْعِلْمِ الشَّرِيفِ، فَأَمْضَى حَيَاتَهُ فِيهِ مُتَعَلِّمًا وَمُعَلِّمًا.
وَفِي رِحْلَاتِهِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ قَطَعَ الْبَرَّ وَرَكِبَ الْبَحْرَ، وَكَادَ أَنْ يَهْلَكَ عَطَشًا وَجُوعًا، قَالَ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: "خَرَجْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ... وَصِرْنَا إِلَى الْجَارِ وَرَكِبْنَا الْبَحْرَ، فَكَانَتِ الرِّيحُ فِي وُجُوهِنَا، فَبَقِينَا فِي الْبَحْرِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَضَاقَتْ صُدُورُنَا، وَفَنِيَ مَا كَانَ مَعَنَا، وَخَرَجْنَا إِلَى الْبَرِّ نَمْشِي أَيَّامًا، حَتَّى فَنِيَ مَا تَبَقَّى مَعَنَا مِنَ الزَّادِ وَالْمَاءِ، فَمَشَيْنَا يَوْمًا لَمْ نَأْكُلْ وَلَمْ نَشْرَبْ، وَيَوْمَ الثَّانِي كَمِثْلٍ، وَيَوْمَ الثَّالِثِ، فَلَمَّا كَانَ يَكُونُ الْمَسَاءُ صَلَّيْنَا، وَكُنَّا نُلْقِي بِأَنْفُسِنَا حَيْثُ كُنَّا، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، جَعَلْنَا نَمْشِي عَلَى قَدْرِ طَاقَتِنَا، وَكُنَّا ثَلَاثَةَ أَنْفُسٍ: شَيْخٌ نَيْسَابُورِيٌّ، وَأَبُو زُهَيْرٍ، فَسَقَطَ الشَّيْخُ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَجِئْنَا نُحَرِّكُهُ وَهُوَ لَا يَعْقِلُ، فَتَرَكْنَاهُ، وَمَشَيْنَا قَدْرَ فَرْسَخٍ، فَضَعُفْتُ، وَسَقَطْتُ مَغْشِيًّا عَلَيَّ، وَمَضَى صَاحِبِي يَمْشِي، فَبَصُرَ مِنْ بُعْدٍ قَوْمًا، قَرَّبُوا سَفِينَتَهُمْ مِنَ الْبَرِّ، وَنَزَلُوا عَلَى بِئْرِ مُوسَى، فَلَمَّا عَايَنَهُمْ، لَوَّحَ بِثَوْبِهِ إِلَيْهِمْ، فَجَاؤُوهُ مَعَهُمْ مَاءٌ فِي إِدَاوَةٍ. فَسَقَوْهُ وَأَخَذُوا بِيَدِهِ. فَقَالَ لَهُمُ: الْحَقُوا رَفِيقَيْنِ لِي، فَمَا شَعَرْتُ إِلَّا بِرَجُلٍ يَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى وَجْهِي، فَفَتَحْتُ عَيْنَيَّ، فَقُلْتُ: اسْقِنِي، فَصَبَّ مِنَ الْمَاءِ فِي مَشْرَبَةٍ قَلِيلًا، فَشَرِبْتُ، وَرَجَعَتْ إِلَيَّ نَفْسِي، ثُمَّ سَقَانِي قَلِيلًا، وَأَخَذَ بِيَدِي، فَقُلْتُ: وَرَائِي شَيْخٌ مُلْقًى، فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَيْهِ، وَأَخَذَ بِيَدِي، وَأَنَا أَمْشِي وَأَجُرُّ رِجْلَيَّ، حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ إِلَى عِنْدَ سَفِينَتِهِمْ، وَأَتَوْا بِالشَّيْخِ، وَأَحْسَنُوا إِلَيْنَا، فَبَقِينَا أَيَّامًا حَتَّى رَجَعَتْ إِلَيْنَا أَنْفُسُنَا، ثُمَّ كَتَبُوا لَنَا كِتَابًا إِلَى مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا: رَايَةُ، إِلَى وَالِيهِمْ، وَزَوَّدُونَا مِنَ الْكَعْكِ وَالسَّوِيقِ وَالْمَاءِ.
فَلَمْ نَزَلْ نَمْشِي حَتَّى نَفِدَ مَا كَانَ مَعَنَا مِنَ الْمَاءِ وَالْقُوتِ، فَجَعَلْنَا نَمْشِي جِيَاعًا عَلَى شَطِّ الْبَحْرِ، حَتَّى دُفِعْنَا إِلَى سُلَحْفَاةٍ مِثْلَ التُّرْسِ، فَعَمَدْنَا إِلَى حَجَرٍ كَبِيرٍ، فَضَرَبْنَا عَلَى ظَهْرِهَا، فَانْفَلَقَ، فَإِذَا فِيهَا مِثْلُ صُفْرَةِ الْبَيْضِ، فَتَحَسَّيْنَاهُ حَتَّى سَكَنَ عَنَّا الْجُوعُ ثُمَّ وَصَلْنَا إِلَى مَدِينَةِ الرَّايَةِ، وَأَوْصَلْنَا الْكِتَابَ إِلَى عَامِلِهَا، فَأَنْزَلَنَا فِي دَارِهِ... ثُمَّ زَوَّدَنَا إِلَى مِصْرَ".
كَبِرَ الشَّابُّ الْجَادُّ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَصَارَ إِمَامًا فِي الْحَدِيثِ وَمَعْرِفَةِ رُوَاتِهِ يَرْحَلُ إِلَيْهِ طُلَّابُ الْعِلْمِ مِنْ مُخْتَلَفِ الْأَمْصَارِ لِيَتَلَقَّوْا عَنْهُ مَا جَمَعَ فِي رِحْلَاتِهِ وَهُوَ شَابٌّ، وَلَمْ تَفْتُرْ هِمَّتُهُ بِكِبَرِ سِنِّهِ، بَلْ كَانَ يَقْضِي وَقْتَهُ كُلَّهُ فِي بَذْلِ الْعِلْمِ كَمَا كَانَ فِي شَبَابِهِ يَقْضِي وَقْتَهُ كُلَّهُ فِي طَلَبِهِ وَجَمْعِهِ، وَوَرَّثَ هَذِهِ الْهِمَّةَ الْعَالِيَةَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ لِابْنِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الَّذِي لَازَمَهُ مُلَازَمَةً شَدِيدَةً، وَقَالَ عَنْ تَعَلُّمِهِ عَلَى يَدِ وَالِدِهِ: "رُبَّمَا كَانَ يَأْكُلُ وَأَقْرَأُ عَلَيْهِ، وَيَمْشِي وَأَقْرَأُ عَلَيْهِ، وَيَدْخُلُ الْخَلَاءَ وَأَقْرَأُ عَلَيْهِ، وَيَدْخُلُ الْبَيْتَ فِي طَلَبِ شَيْءٍ وَأَقْرَأُ عَلَيْهِ".
وَعُمِّرَ الْإِمَامُ أَبُو حَاتِمٍ حَتَّى جَاوَزَ الثَّمَانِينَ، وَهُوَ يُعَلِّمُ النَّاسَ سُنَّةَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَخُتِمَتْ حَيَاتُهُ وَهُوَ يُعَلِّمُ الْعِلْمَ فِي قِصَّةٍ مُؤَثِّرَةٍ حَكَاهَا ابْنُهُ فَقَالَ: "حَضَرْتُ أَبِي -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- وَكَانَ فِي النَّزْعِ - أَيِ: الْمَوْتِ-، وَأَنَا لَا أَعْلَمُ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَبْدِ الْغَافِرِ يَرْوِي عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَهُ صُحْبَةٌ؟ فَقَالَ بِرَأْسِهِ: لَا، فَلَمْ أَقْنَعْ مِنْهُ، فَقُلْتُ: فَهِمْتَ عَنِّي: لَهُ صُحْبَةٌ؟ قَالَ: هُوَ تَابِعِيٌّ. قَالَ ابْنُهُ: فَكَانَ سَيِّدُ عَمَلِهِ مَعْرِفَةَ الْحَدِيثِ وَنَاقِلَةَ الْآثَارِ فَكَانَ فِي عُمْرِهِ يُقْتَبَسُ مِنْهُ ذَلِكَ، فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُظْهِرَ عِنْدَ وَفَاتِهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ".
رَحِمَ اللَّهُ -تَعَالَى- هَذَا الْإِمَامَ الْكَبِيرَ الَّذِي كَانَ مِنْ أَعْمِدَةِ حِفْظِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، وَرَزَقَ أَوْلَادَنَا وَشَبَابَ الْمُسْلِمِينَ هِمَّةً كَهِمَّةِ أَسْلَافِهِمْ، تَعُودُ عَلَيْهِمْ بِالنَّفْعِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَتَقَرُّ بِهِمْ أُمَّتُهُمْ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [الْبَقَرَةِ:281].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: عِلْمُ الرِّوَايَةِ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ أَدَقِّ الْعُلُومِ وَأَشَقِّهَا، وَأَفْنَى فِيهِ رِجَالٌ أَعْمَارَهُمْ؛ لِيَحْفَظُوا سُنَّةَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. ثُمَّ يَأْتِي جَهَلَةٌ لَا يُحْسِنُونَ الْوُضُوءَ، وَلَا يُتْقِنُونَ الْفَاتِحَةَ؛ لِيُشَكِّكُوا النَّاسَ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، وَهُمْ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِالْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ. وَإِلَّا فَإِنَّ أَعْدَاءَ الْإِسْلَامِ مِنَ الْمُسْتَشْرِقِينَ النَّصَارَى الَّذِينَ دَرَسُوا عِلْمَ الرِّوَايَةِ وَالْحَدِيثِ لِيَنْقُدُوهُ بُهِرُوا بِمَا فِيهِ مِنَ الدِّقَّةِ وَالضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ، حَتَّى قَالَ مُسْتَشْرِقٌ إِنْجِلِيزِيٌّ: "لِيَفْتَخِرِ الْمُسْلِمُونَ مَا شَاءُوا بِعِلْمِ حَدِيثِهِمْ" وَقَالَ مُسْتَشْرِقٌ أَلْمَانِيٌّ آخَرُ: "إِنَّ الدُّنْيَا لَمْ تَرَ وَلَنْ تَرَى أُمَّةً مِثْلَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَدْ دُرِسَ بِفَضْلِ عِلْمِ الرِّجَالِ الَّذِي أَوْجَدُوهُ حَيَاةُ نِصْفِ مِلْيُونِ رَجُلٍ" وَالنَّقْلُ فِي ذَلِكَ يَطُولُ، وَلْيَبْقَ أَهْلُ الْجَهْلِ فِي جَهْلِهِمْ.
هَذَا؛ وَإِنَّ سِيَرَ حُفَّاظِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وَأَخْبَارَهُمْ، وَمَا أَبْلَوْا فِيهِ شَبَابَهُمْ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ وَالرِّحْلَةِ فِي تَحْصِيلِهِ، وَتَحَمُّلِ مَشَقَّةِ السَّفَرِ وَالسَّهَرِ وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالْفَقْرِ، وَصَبْرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ؛ لَنَمَاذِجُ يَجِبُ أَنْ تُدَرَّسَ لِلشَّبَابِ الْمُسْلِمِ؛ لِيُفَاخِرُوا بِدِينِهِمُ الَّذِي حَفِظَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- بِهِمَمِ أَسْلَافِهِمْ؛ وَلِيَقْتَدُوا بِأُولَئِكَ الْعُظَمَاءِ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ الَّذِينَ عَلَتْ هِمَمُهُمْ فِي شَبَابِهِمْ، فَتَعِبَتْ فِي تَحْصِيلِ الْعِلْمِ وَجَمْعِ الْحَدِيثِ وَطُرُقِهِ أَجْسَادُهُمْ، فَخَلَّفُوا لَنَا تُرَاثًا لَا مَثِيلَ لَهُ عِنْدَ أُمَّةٍ أُخْرَى (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) [الْأَنْعَامِ: 90].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
التعليقات