عناصر الخطبة
1/الدنيا ميدان السباق إلى الجنة 2/استمرار أجر بعض الأعمال بعد الموت 3/المقصود بالوصية ووجوب كتابتها 4/حكم الوصية 5/المال وسيلة لا غاية 6/بعض أحكام الوصيةاهداف الخطبة
اقتباس
الوصية الواجبة، هي الحقوق التي في ذمته من ديون وودائع، ونحوها، وليس عليها إثبات، بل مصيرها إلى الضياع إن لم يبنها، ويوصي بها؛ لأن هذه الحقوق معلقة بذمته، حتى تؤدى إلى أصحابها، أو يعفو أصحابها عنها. فإن كان عندك شيء من ذلك، فبادر إلى الكتابة والبيان، ولو كنت شاباً، فإن...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فإن الحياة الدنيا هي فرصة الاستعداد، والتزود للدار الآخرة، بالعمل الصالح: (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة: 197].
وهي ميدان السباق إلى جنة عرضها السموات والأرض: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد: 21].
(وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران: 133].
فإذا مات ابن انقطع عمله، وغلقت دونه الأبواب، ولم تنفع الحسرات والآماني على ما فات من التسويف أيام المهلة، ولم يستجب لطالبٍ طلبُه أن يعود إلى الدنيا ليعمل صالحا: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) [الشورى: 44].
(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون: 99 - 100].
غير أن الله برحمته وفضله وكرمه، فتح للمؤمن باب عمل يجري له منه الثواب بعد الموت، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم يُنْتَفَعُ به، أو ولد صالح يدعو له" [أخرجه مسلم].
ومما يجري عليه أجره بعد الموت: الوصية الشرعية، وهي التبرع بالمال بعد الموت، فعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: "قال النبي -صلى الله عليه وسلم- إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم; زيادة في حسناتكم" [رواه الدارقطني وحسنه الألباني بمجموع طرقه].
أي أن الوصية بالثلث عمل صالح يثاب عليه العبد بعد موته، ويجري له به ثوابه.
وكانت الوصية واجبة للوالدين والأقربين، قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة: 180].
فلما نزلت المواريث نسخت الوصية للورثة، وبقيت مشروعيتها لغيرهم من الأقارب وغيرهم، عن عمرو بن خارجة -رضي الله عنه-: "أَنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- خطب على ناقته، وأنا تحت جِرانها، وهي تَقصَع بجِرَّتِها، وإن لُعابها يسيل بين كَتَفِيّ، فسمعته يقول: "إِن الله -عز وجل- أعطى كلّ ذي حق حقه، فلا وصية لوارث، والولد للفراش وللعاهر الحجر" [أخرجه الترمذي والنسائي].
وفي شأن كتابة الوصية، ما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: أَنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما حَقُّ امرئ مسلم له شيء يوصِي به أن يبيت ليلتين إِلا ووصيته مكتوبة عنده".
قال نافع: سمعتُ عبد الله بن عمر يقول: "ما مَرّتْ عَلَيَّ لَيلة منذ سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول ذلك إِلا وعندي وصيّتي مكتوبة" [البخاري ومسلم].
فالوصية منها واجب، ومنها مستحب.
أما الوصية الواجبة، فهي الحقوق التي في ذمته من ديون وودائع، ونحوها، وليس عليها إثبات، بل مصيرها إلى الضياع إن لم يبنها، ويوصي بها؛ لأن هذه الحقوق معلقة بذمته، حتى تؤدى إلى أصحابها، أو يعفو أصحابها عنها.
فإن كان عندك شيء من ذلك، فبادر إلى الكتابة والبيان، ولو كنت شاباً، فإن الأجل قد يهجم بغتة ولا يمهلك -يا عبد الله-.
وأما الوصية المستحبة، فهي التبرع بجزء من التركة يصرف في أعمال البر والخير والإحسان، أو على الأقارب، أو ونحوهم على ضوء الشروط المعتبرة في الشريعة.
إن المال وسيلة لا غاية ومالك الذي تنتفع به حقاً هو المال الذي تقدمه لآخرتك، وأما المال الذي تحفظه وتدخره، فهو مال وارث، عن عبد الله بن الشّخّير -رضي الله عنه- قال: أتيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقرأ: (ألْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) فقال: "يقولُ ابنُ آدمَ: مالي؟ مَالي؟ وهَلْ لَك يا ابْن آدَمَ مِنْ مَالِكَ إلا ما أكلتَ فأفْنَيتَ، أو لَبِستَ فأبْلَيْتَ، أو تصَدَّقْتَ فأمْضَيْتَ" [أخرجه مسلم].
وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟" قالوا: يا رسول الله، ما منا أحد إلا ماله أحب إليه، قال: "فإن ماله ما قدم، مال وارثه ما أخر" [أخرجه البخاري والنسائي].
وليس القصد من هذه الأحاديث الحث على الإضرار بالورثة، وتركهم عالة، وإنما القصد منها الحث على البذل والإنفاق في وجوه البر والإحسان، ونزع الشح والبخل من النفوس التي تحمل أصحابها على المنع من الصدقة، والإحسان وتقديم شيء للآخرة.
ومن أحكام الوصية:
أولاً: أن لا يوصي إلا من ترك مالاً كثيراً بحسب العادة والعرف عند الناس، أما من ترك مالاً قليلاً فورثته أحق به من غيرهم، قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ) [البقرة: 180].
والخير، هو المال الكثير في العرف.
ولقوله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص: "إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس".
وقال الشعبي: "ما من مال أعظم أجرا من مال يتركه الرجل لولده ويغنيهم به عن الناس".
وقال علي لرجل: "إنما تركت شيئا يسيرا، فدعه لورثتك".
وكان كثير من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يوصوا.
ثانياً: أن تكون الوصية بثلث التركة فأقل، عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: "جاءني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعودني، عامَ حَجَّة الوداع، من وجع اشتدّ بي، فقلتُ: يا رسول الله، إِني قد بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال، ولا يَرثُنِي إِلا ابنة لي، أَفأَتصدَّق بثلثي مالي؟ قال: لا، قلتُ: فالشَّطْر يا رسول الله؟ فقال: لا، قلتُ: فالثلث؟ قال: فالثلث، والثلث كثير -أو كبير- إنك أن تَذَرْ ورثتك أغنياء خير من أن تَذَرهم عالَة يَتَكَفَّفُون الناسَ، وإنك لن تُنفقَ نفقة تبتغِي بها وجه الله إِلا أُجِرْتَ بها، حتى ما تجعلُ في في امرأتك" [متفق عليه].
وقال أبو بكر -رضي الله عنه-: "رضيت بما رضي الله به لنفسه".
يعني في قوله تعالى: (وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ) [الأنفال: 41].
وقال علي -رضي الله عنه-: "لأن أوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالربع".
وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع ؛ فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الثلث، والثلث كثير".
فإن أوصى بأكثر من الثلث لم تنفذ الوصية بالزيادة على الثلث إلا بإجازة الورثة، ورضاهم بعد موت الموصي.
أما من لا وارث له، فله أن يوصي بكل تركته، ولا حرج عليه في ذلك.
ثالثاً: أن لا تكون الوصية لأحد من الورثة، فإن الورثة لهم ما أعطاهم الله -تعالى- من المواريث، قال صلى الله عليه وسلم: "إِن الله -عز وجل- أعطى كلّ ذي حق حقه، فلا وصية لوارث".
فإن أوصى لأحد الورثة لم تنفذ الوصية إلا برضى الورثة، والمعتبر رضاهم بعد موت المورث، فلو أذنوا في حياته، ثم أبوا بعد موته، لم تنفذ الوصية للوارث.
ومن مساوئ الوصية لأحد الورثة: ما تحدثه من الشقاق والنزاع والكراهية بين الورثة، بسبب تفضيل بعضهم على بعض.
رابعاً: لا يجوز أن تكون الوصية بإضرار أحد الورثة بحرمانه من الميراث أو حرمانه من بعض ميراثه، فإن الميراث قسمه الله -تعالى- بعلمه وحكمته فيعطى من أعطاه الله، ويمنع من منعه الله، أما أن يحرم الوارث شرعاً بغير موانع الإرث المعتبرة، وهي "القتل والرق واختلاف الدين" فهذه وصية مضارة يأثم عليها المسلم ولو كان الموصي قصد عقابه بسبب عقوقه، وسوء أخلاقه، أو فسقه، ونحو ذلك من الدوافع، قال تعالى: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ) [النساء: 12].
وعن شهر بن حَوْشَب: أن أبا هريرة -رضي الله عنه- حَدّثَهُ: أَنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الرجل ليعمل والمرأة بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضرهما الموت، فَيضِاران في الوصية، فتجب لهما النار، ثم قرأ أبو هريرة: (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ) [النساء: 12] إِلى قوله: (وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [النساء: 13]. [أخرجه أبو داود، والترمذي وإسناده ضعيف من أجل شهر ابن حوشب]
وصح عن ابن عباس أنه قال: "الإضرار في الوصية من الكبائر".
خامساً: لا يجوز أن يكون مصرف الوصية معصية لله -تعالى-، كالوصية على الخمور والمعازف، أو على نشر كتب البدع، أو على الأضرحة، أو على المساجد التي تبنى على القبور، فإن أوصى بذلك صرفت في المصارف المشروعة، كسقيا الماء، ونشر كتب السنة، والإنفاق على المساجد التي تبنى كما شرع الله -تعالى-، ونحو ذلك.
أما لو أوصى لقريب له كافر مشرك أو كتابي من باب الإحسان إليه، فهي وصية صحيحة نافذة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين، أقول هذا القول...
الخطبة الثانية:
أما بعد:
ومن أحكام الوصية المبنية على العدل: وجوب المحافظة على نصها، وعدم التدخل فيها بتبديل وتعديل، قال تعالى: (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 181].
ومن أحكامها: أنه إذا كان في الوصية جور وظلم وميل عن الحق، فينبغي لمن حضر الوصية أن ينهى عما فيها من الظلم بالتي هي أحسن، وأن يأمر وينصح بما فيه العدل والحق.
فإن لم يتيسر ذلك له أو لم يفعله، فإنه ينبغي له أن يصلح بين الموصى إليهم، فيحثهم على العدل، وعدم تنفيذ الوصية الظالمة الجائرة، ويرغبهم في تبرئة ذمة ميتهم، أو يتراضوا بطيب نفس عن بعض حقوقهم، قال تعالى: (فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[البقرة: 182].
ومن أحكامها: أن المسلم له الرجوع في الوصية ما دام في الحياة وله تغييرها بالزيادة فيها والنقص منها حسب ما يرى أنه الأصلح، ولا حرج عليه في ذلك كله.
ثم اعلموا -رحمكم الله- أن خير الحديث كتاب الله ... الخ.
التعليقات