اقتباس
لم يترك النضر بن الحارث مشهداً من مشاهد العداوة والمحاربة لله ولرسوله إلا شارك فيه بماله ونفسه ووقته، فقد نذر حياته لعداوة الدين، لذلك كان من الطبيعي أن يكون مصرعه في غمار الحرب التي خاضها طوال حياته. فقد شارك في غزوة بدر وحمل لواء قريش تقديراً لجهوده الفائقة في...
قد يكون غريباً على ذهن القارئ مثل هذا العنوان الذي جعل من شخص بعينه، منهجاً متكاملاً في محاربة الإسلام، خاصة وأنه ليس من الأسماء المتداولة بكثرة في ذاكرة المسلمين مثل أبي جهل وأبي لهب والوليد بن المغيرة وغيرهم من كبار رجالات قريش ورموزها والذين اختاروا محاربة الإسلام ورفض رسالته، ومثلوا الهيئة العليا للشرك والكفر والصد عن سبيل الله في الفترة المكية.
ولكن الحق أننا لو أردنا أن نضع تصنيفاً لكبار مجرمي قريش وألد أعداء الإسلام وأشدهم خطراً، فإن "النضر بن الحارث" سيأتي على رأس هذه القائمة، فهو العدو الأخطر والأقذر والأعتى للإسلام ولرسوله في الفترة المكية، وهو أيضا أكثر قريشي نزل فيه قرآن يتلى إلى يوم القيامة، ولو كان أبو لهب نزلت فيه بضع سورة كاملة، وأبو جهل نزلت فيه عدة آيات، وكذلك الوليد بن المغيرة والأخنس بن شريق وغيرهم، فإن النضر بن الحارث نزلت فيه أكثر من عشر آيات في كتاب الله، في مواضع مختلفة، ولأسباب متنوعة، قال عطاء بن أبي رباح: "لقد نزل في النضر بن الحارث بضع عشرة آية فحاق به ما سأل من العذاب يوم بدر"، كما أنه صاحب العدد الأكبر من الشبهات والأراجيف والوسائل التي حارب بها مشركو قريش الإسلام ورسوله في الفترة المكية.
وسائل وطرق وأدوات جعلت من عداوته للإسلام منهجاً متكاملاً مازال يسير على دربه أعداء الإسلام حتى وقتنا الحالي، سيراً حذو القذة بالقذة، كمشي القطاة من شدة التشابه، وتطابق الأهداف والوسائل. لذلك لم يكن مستغرباً أن يكون "النضر بن الحارث" هو المشرك الوحيد الذي احتفى به الزنادقة والملحدون وأعداء الدين، وأفردوا له مقالات ورسالات تتغنى بمآثره في محاربة الإسلام وتولول على مقتله بسيف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر.
أولاً: موقف قريش قبل الجهر بالدعوة
تبوأت قريش مكانة حاصة بين قبائل العرب بفضل النظام الذي تمتعت به والتجارة التي امتازت بها والأسواق التي اشتهرت بها، والأهم من ذلك تشرفها برعاية البيت الحرام من حجابة وسدانة، والإشراف على مواسم الحج من سقاية ورفادة وخدمة، فتعددت فيها الزعامات وتنافست فيما بينها البيوتات على الأمجاد والشهرة، فراح زعماؤها يؤسسون الإيلافات مع الملوك والرؤساء التي أمنت لهم الطرق، وسهلت لهم السبل من خلال اتفاقات وعهود مع الملوك والقبائل التي تقع على الطرق التجارية، لذلك فإن أي تغيير لهذا الوضع المميز سوف يزعزع توازن قريش ويخل في نظرهم بسمعتها ويضيع عليها امتيازاتها، ومما لاشك فيه سوف تقف بوجهه بشدة وتحاربه بعنف.
فنجد أن زعماء قريش لم يعبئوا بادئ الأمر بدعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- مادامت لا تشكل خطراً على تجارتهم وموقعهم أمام القبائل الأخرى، ولم تتجاوز الخطوط الحمراء التي رسموها ضماناً لمصالحهم وحفاظاً على امتيازاتهم، لذا لم تنل من النبي -صلى الله عليه وسلم- في بادئ الأمر شيئاً ولم تتعرض للنبي -صلى الله عليه وسلم- بسوء؛ نعم هناك بعض البيوتات من قريش تتحسس من هذا الأمر الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- على أساس أنه نوع من التنافس بين بيوتات قريش، فبعض البيوتات تخشى أن يرفع هذا الأمر من شأن بني هاشم على حساب البيوتات الأخرى بسبب تنافس قديم وتنافر تاريخي معروف.
ثم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- في أول أمره حرص على أن لا يستفز قريشا ويثير حفيظتها ويؤجج نار العصبية فيها؛ فهو الخبير بوضع قريش وطبيعة منافساتها ومنافراتها وحكمها وحكامها، فاتخذ من الدعوة السرية ساتراً، والدعوات الفردية ملاذاً وطريقاً في التبليغ ثلاث سنوات -بوحي وأمر من الله تعالى- لا بمعنى أن قريشا لا تعلم بدعوته نهائياً ولا تلحظ تحركاته إطلاقاً، نعم تعلم بوجود دعوى من قبل محمد -صلى الله عليه وسلم- بنحو إجمالي وتلحظ تحركاته بلا ريبة؛ لأنها لا تعلم بتفاصيلها التشريعية والعقائدية وموقفه مما هم عليه من عبادة الأوثان وعاداتهم وعباداتهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يحاول أن لا يصل إلى قريش ما يستفزها وينفرها، حيثما تتقوى الدعوة ويكثر الأنصار ويعمق.
ومع أن الدعوة سريّة فقد سربت أخبارها، ولكن المكّيين في تلك المرحلة لم يتحسسوا بأخطارها، ولعلهم ظنّوا أن حديثها لا يزيد عن أحاديث الكهان والمتألهين أمثال قس بن ساعدة وزيد بن عمرو وأمية بن أبي الخلف وغيرهم ممن تركوا عبادة الأصنام وخرجوا من مكة يبحثون عن الدين الحق.
والواقع أن أصل الدعوة كان معلوماً لدى قريش إلا أن تفاصيلها غير معلومة و خاصة ما يخص نبذ آلهتهم.
ثانياً: الجهر بالدعوة وموقف مشركي قريش
قال ابن إسحاق بعد ذكر ممن أسلم قبل الدعوة العلنية: "ثم دخل الناس في الإسلام أرسالاً من النساء والرجال وتحدث به، فلما أسلم هؤلاء النفر وفشا أمرهم بمكة أعظمت ذلك قريش وغضبت له وظهر فيهم لرسول الله البغي والحسد" ومن ذلك يظهر أن كثرة عدد المسلمين كمّاً ونوعاً هو الذي أغضب قريشا.
وقال أيضا في موضع آخر: "فلما بادى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قومه بالإسلام وصدع به كما أمره الله لم يبعد منه قومه ولم يروا عليه -فيما بلغني- حتى ذكر آلهتهم وعابها، فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته".
فالتصعيد كان تدريجياً، وكان في أوجه عندما صدع بالرسالة وأعلن مبادئها التي اعتبرها المبادئ الصحيحة دون غيرها فشعروا أنها تهدم كل أمجادهم وتضيع عليهم تجارتهم وزعامتهم المعنوية وشرفهم الذي ذاع في الأصقاع.
وكان على رأس المحاربين للدعوة الإسلامية في مكة ؛ أبو لهب بن عبد المطلب وأبو جهل وأمية بن خلف وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة وعقبة بن أبي معيط وأبو سفيان بن حرب -الذي أسلم لاحقاً- والنضر بن الحارث. والأخير كان صاحب القسط الأكبر في عداوة الإسلام ورسوله.
ثالثاً: أساليب قريش في محاربة الدعوة
كان الجهر بالدعوة والإعلان عن المفاصلة الإيمانية وهدم قلاع الباطل شرارة بدء المواجهة بين زعماء قريش والرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكانت المواجهة في بداياتها تعتمد على المواجهات الفكرية ذات الطابع غير العنيف، ومن أبرز هذه الأساليب:
1 – الإغراء: فقد تصور زعماء قريش أن محمداَ -صلى الله عليه وسلم- كإنسان عادي يحمل المشاعر التي يحملونها والأطماع التي يتوقون إليها والطموحات التي يحلمون بها، فلو تحققت هذه الأهداف والطموحات سوف يعرض عن دعوته ويترك رسالته، لذلك قدموا له العروض والخيارات المغرية التي هي في الواقع عبارة عن أعلى طموحاتهم وآمالهم، وهي: الجاه، النساء، المال. وتصوّروا أن هذه دوافع دعوته وسبب نشاطه وعلة همته، ولما جاء جوابه صلى الله عليه وسلم مغايراً لكل توقعاتهم وبعيد عن كل طموحاتهم فقد حسم الأمر برفضه صلى الله عليه وسلم المشهور لكل هذه اللعاعات الأرضية.
2 - المطالب التعجيزية: فقد قدمت قريش للرسول -صلى الله عليه وسلم- مجموعة من المطالب والأسئلة هي في نظرهم تعجيزية بالنسبة للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقد ذكر القرآن الكريم تلك المطالب وأجاب عليها بقوله تعالى: (وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * وَ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً)[الإسراء 91-93].
3 – الحرب النفسية: برمي النبي -صلى الله عليه وسلم- بكثير من التّهم الكاذبة والصفات السيئة كالجنون والسحر والكهانة والشعر وأضغاث أحلام وافتراء وكذب، كما ذكر ذلك القرآن الكريم؛ (وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا ءالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ)[الصافات36]، وقال تعالى: (قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ)[الذاريات2]، وقال تعالى: (وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ)[ص: 4]، وقال تعالى: (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ)[الزخرف 49]، وقال تعالى: (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ)[يونس2]، وقال تعالى: (َقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ)[الحجر6]، وقال تعالى: (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ)[الدخان14]، وقال تعالى: (وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ)[القلم51]، قال تعالى: (بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ)[الأنبياء 5]، وقال تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ)[الطور30].
وغيرها من التّهم التي تعتبر من الحرب النفسية لزعزعة ثقة الناس به أو أنهم يظنون أنهم يضعفوا إرادة الرسول أو يفتوا في عضده أو يبعثوا في نفسه اليأس من استجابة قريش له.
رابعاً: استراتيجية النضر بن الحارث في محاربة الإسلام
التعريف به: هو النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف العبدري القُرشي، يلتقي في النسب مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- في عبد مناف، كما ذكر المؤرخون أنه ابن خالة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان أسن منه.
كان النضر بن الحارث رجلاً تاجراً كثير الأسفار، محباً للخلطة مع الناس، كثير الاهتمام بأحوال البلاد التي يسافر إليها، خاصة بلاد الفرس والروم، سافر إلى العراق وأقام فترة بالحيرة، وسافر إلى الشام، ودخل دمشق، خالط اليهود والنصارى، ورأى كنائسهم وبيعهم وصلواتهم، وقرأ كتبهم، واستمع إلى مجالس حكاياتهم وأساطيرهم وأخبار الأقدمين فيهم، بالجملة سافر وشاهد واطلع كثيراً على الأمم والحضارات المجاورة لقريش، مما أعطاه ميزة عن غيره من معاصريه وأقرانه، فلقبوه بشيطان قريش، في حين أسماه زنادقة العصر وملحدوه بمثقف قريش.
هذه الخلفية الثقافية والعقلية التجارية جعلت النضر بن الحارث يسلك مسلكاً فريداً ومتميزاً في محاربة الإسلام ورسوله؛ حيث انتهج النضر استراتيجية جمعت بين "الدعاية المضادة" و"الإلهاء بالباطل"؛ لذلك كان النضر نسيجاً وحده في العداوة والمحاربة استحق به أن يقتل فور القبض عليه بوصفه أكبر مشركي قريش وأشدها عداوة وشقاوة.
لقد وضع النضر بن الحارث يديه عن مكمن قوة دعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وهو صدقه وأمانته وجميل خصاله وأخلاقه، والقرآن الذي نزل عليه من السماء والذي كان له أعظم السطوة والتأثير على القلوب، مما جعل لكلامه تأثيراً كبيراً على من يسمعه حتى كبار مجرمي قريش كانوا يتأثرون من روعته وجلاله، ومن ثم تحرك من أجل وقف هذا التأثير العظيم.
ففي أحد المرات غضب أبو جهل من النبي محمد وأراد قتله فقال لأصحابه ممن يعادي الإسلام: "يا معشر قريش، إن محمداً قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وشتم آلهتنا، وإني أعاهد الله لأجلسن له غداً بحجر ما أُطيق حمله فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم"، فقالوا له: "والله لا نسلمك لشيء أبداً، فامضٍ لما تريد"، فلمّا أصبح صباح اليوم التالي قام أبو جهل وأخذ حجراً كما وصفه وجلس ينتظر قدوم النبي محمد للمسجد الحرام فأتى النبي محمد ليصلى صلاته بين الركن اليماني والحجر الأسود واجتمع أعداء الإسلام من قريش في ناديهم ينتظرون ما يفعل أبو جهل فلمّا سجد النبي احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه حتى إذا اقترب منه رجع مُنهزماً مُنتقعاً لونه مرعوباً قد يبست يداه على حجره حتى قذف الحجر من يده وقامت إليه رجال قريش فقالوا له: "ما لك يا أبا الحكم ؟"، قال: "قمتُ إليه لأفعل به ما قلتُ لكم البارحة، فلما دنوتُ منه عرض لي دونه فحل من الإبل، لا والله ما رأيتُ مثل هامته، ولا مثل قصرته ولا أنيابه لفحل قط، فهمَّ بي أن يأكلني"، فلمّا سمع النضر بن الحارث ما قاله أبو جهل قام وخطب في قريش قائلاً ينصحهم بالتدبر مما حصل، فقال: "يا معشر قريش، إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلاماً حدثاً أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب، وجاءكم بما جاءكم به، قلتم ساحر، لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم؛ وقلتم كاهن، لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم؛ وقلتم شاعر، لا والله ما هو بشاعر، قد رأينا الشعر، وسمعنا أصنافه كلها: هزجه ورجزه؛ وقلتم مجنون، لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه، ولا وسوسته، ولا تخليطه، يا معشر قريش، فانظروا في شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم ".
من ثم بنى النضر سياسته على محاربة سطوة القرآن، فانطلق إلى الحيرة في بعثة هدفها الاستفادة من خبرات الآخرين في اللهو والدعايات المضادة، وفي الحيرة تعلَّم النضر بن الحارث أحاديث ملوك الفرس، وقصص رستم وإسفنديار، وتعلَّم الأساطير الفارسية، ودرس الحكايات والروايات، وكلها أمور تحمل عوامل التشويق والإثارة وجذب الانتباه، وفيها تنشيط للشهوات ومخاطبة الغرائز، وغموض أحيانًا أخرى، وصراع في أحيان ثالثة، ورومانسية في أحيان رابعة، وهزل وضحك أحيانًا خامسة، وهكذا فيها ما يوافق كل ذوق. كما تعلم في الحيرة الضرب على آلة العود وتعلم الغناء على طريقة العجم من النغمات الرخيمة وأناشيد القسوس في الأديرة والبيع، وكان الغناء والضرب على المعازف غير معروف وقتها في قريش، فقد كان غناؤهم نصباً – الضرب بالكفوف والدفوف – كما اشترى من الحيرة جاريتين مغنيتين، وبعد فترة من الوقت عاد إلى قريش محملاً بخبرة وطرق جديدة لمحاربة الإسلام.
لقد قطع النضر بن الحارث أكثر من أربعمائة وألف كيلومتر حيث الحيرة في العراق، وكانت العراق كلها تحت الاحتلال الفارسي، وتعلَّم فيها فنًّا جديدًا على الناس، يستطيع أن يُلهي به أهل مكة عمَّا هم بصدده. ذهب النضر بن الحارث إلى هناك، وبذل المال والوقت والجهد والفكر، للصدِّ عن سبيل الله، ولنشر الإباحية والمجون واللهو الباطل، وهو بذلك ليس أول من أدخل هذا المجون والفجور في مكة، بل كان أيضا أول من اتبع سياسة نقل الحضارات الغربية على بلاد العرب، ودعا الناس إليها والافتتان بها، فالنضر بن الحارث هو أول "تغريبي" عرفه العرب.
وبعد عودة النضر بن الحارث إلى مكة أخذ في تطبيق منهجه واستراتيجيته في محاربة الإسلام ورسوله بعدة صور منها:
1 - جلوس النضر مجلس النبي -صلى الله عليه وآله- وتقليده بقصصه وأحاديثه: فقد كان النضر يتتبع مجالس النبي -صلى الله عليه وسلم- التي يعظ الناس فيها ويذكرهم بمصارع الأمم وعواقب المكذبين، ويتحين انتهاءه من الحديث والانصراف حتى يجلس موضعه، ثم يحدث الناس بأخبار كسرى وقيصر وأساطير الفرس والروم، ثم يقول: ما محمد بأحسن حديث مني، وما حديثه إلا أساطير الأولين، اكتتبتُها كما اكتتبَها محمد". فأنزل الله -تعالى- قوله (وَقالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا)[الفرقان: 5 - 6]، وقد ذكر الطبري في تفسيره أن كل آية في القرآن ورد فيها لفظ "أساطير الأولين" – وعددها ثماني آيات – نزلت في النضر بن الحارث لعنه الله.
2 – كان لا يسمع بأحد مال إلى الإسلام وبدأ يدخل قلبه ونفسه، حتى يرسل إليه بالجاريتين المغنيتين، فيسقيانه ويغنيان له وربما يفحشان معه، حتى لا يبقى في قلبه ميل للإسلام الذي سيحرمه من كل هذه الشهوات والمتع، فأنزل الله -عز وجل- فيه قوله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)[لقمان: 6 - 7].
3 – إطلاق الأكاذيب الباطلة عن القرآن: مثل ادعاؤه أن الملائكة بنات الله، وادعاؤه بأن القرآن أساطير الأولين، وادعاؤه القدرة على الاتيان بمثل القرآن، وادعاؤه بأن القرآن يصدق كلامه، كما في الرواية التي يرويها مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ، قَالَ النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ حِينَ نَزَلَتْ؛ (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوّلُ الْعَابِدِينَ)[الزّخْرُفِ 81 ]، وَكَانَ النّضْرُ قَدْ قَالَ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ الرّحْمَنِ فَلَمّا سَمِعَ الْآيَةَ قَالَ: أَلَا تَرَاهُ قَدْ صَدّقَنِي، فَقَالَ لَهُ أُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ - وَكَانَ أَفْصَحَ مِنْهُ - لَا وَاَللّهِ بَلْ كَذّبَك، فَقَالَ مَا كَانَ لِلرّحْمَنِ مِنْ وَلَدٍ.
وهنا نلحظ ان القرآن كان ينزل مفنداً لأباطيل النضر وأكاذيبه أولاً بأول، وذلك من شدة ضررها وأثرها على الناس، مما يؤكد على مكانته الخاصة كأكبر مجرم حارب الإسلام ورسوله بكل إخلاص وتفاني.
4 – النضر بن الحارث سفير قريش إلى اليهود: بناءً على ثقافة النضر وعلاقته بأهل الكتاب والفرس، فقد صار معتمد قريش في المسائل المعرفية. وبعد أن عجزت كل الوسائل لثني الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن رسالته أو تحجيمه، أقدمت على خطوة جديدة وهي استطلاع أمر محمد -صلى الله عليه وسلم- من أهل الكتاب، فهم أكثر خبرة وأوسع اطلاع لما عندهم من الكتب المقدسة والآثار القديمة التي ربما وجدوا الحل فيها. فكان النضر سفير قريش إلى يهود المدينة ومنهم نقل الأسئلة الثلاثة التي أراد بها أحبار اليهود معرفة حقيقة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وهي السؤال عن فتية الكهف، وذي القرنين، والروح، فطار بها النضر فرحاً ظناً منه أنه قد جاء بالقاصمة للرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولكن الله -عز وجل- أخزاه ونزل الوحي مجيباً عن كل هذه الأسئلة.
لقد كان النضر بن الحارث مشاركاً في كل مشاهد العداوة ضد رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، فقد شارك النضر مع المشركين في الوفود التي تذهب إلى أبي طالب لتحاوره في شان النبي محمد -صلى الله عليه وآله-، وشارك المشركين في التآمر على قتل النبي -صلى الله عليه وآله- بعد أن اجتمعوا في دار الندوة واتخذوا قرارا حاسما بتصفية النبي -صلى الله عليه وآله-، شارك في الإعداد لمعركة بدر وكان أحد المطعمين لجيش المشركين وصاحب لوائهم ببدر وفي هذه المعركة كانت نهايته، كما أنّه هو من كتب صحيفة المقاطعة التي كُتبِت بحق بني هاشم وبني عبد المطلب التي تنص على عدم الزواج منهم أو تزويجهم أو الشراء منهم أو بيع الطعام لهم وللمسلمين وذلك لأنَّ بني هاشم كانوا يحمون النبي -صلى الله عليه وسلم- من القتل ويرفضون تسليمه للقتل، وبسبب هذه الصحيفة تمَّ مقاطعة بني هاشم والمسلمين وتمَّ تجويعهم في شعب بني هاشم لمدة ثلاث سنين.
نهاية النضر بن الحارث
لم يترك النضر بن الحارث مشهداً من مشاهد العداوة والمحاربة لله ولرسوله إلا شارك فيه بماله ونفسه ووقته، فقد نذر حياته لعداوة الدين، لذلك كان من الطبيعي أن يكون مصرعه في غمار الحرب التي خاضها طوال حياته. فقد شارك في غزوة بدر وحمل لواء قريش تقديراً لجهوده الفائقة في محاربة الإسلام ورسوله.
وفي بدر وقع النضر بن الحارث هو وقرينه في الشقاوة والعداوة عقبة بن أبي معيط في الأسر، ولما كان النضر من كبار المجرمين المتكبرين والمعاندين للنبي -صلى الله عليه وسلم- من الذين استيقنوا بها وجحدتها أنفسهم فمن مثله لا تنفع معه المواعظ والدلائل والبراهين، فكان في قتله الكثير من العبر للناس أجمعين، من أبرزها:
أن نهاية الطاغية –غالباً- ما تتوافق مع مواقفه الأكثر سوءا والأشد تأثيرا، فقد كان النضر يستخف بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ويستهزئ به ويستعلي عليه ويعرف الحق وينكره، ولا يأل جهداً في محاربة الدين وأهله والصد عن سبيل الله.
وفي طريق العودة للمدينة المنورة قُتِل النضر بالصفراء أو الأثيل (قرب المدينة) حيثُ قتله علي بن أبي طالب صبراً وقُتِل معه عقبة بن أبي معيط. وقد اعتبر علماء الإسلام والمفسرون والسلف هذا استجابة من الله لدعاء النضر لأنّه كان يدعو الله أن ينزل به العذاب لو كان الإسلام حقاً، وقال عطاء بن أبي رباح: "لقد نزل في النضر بن الحارث بضع عشرة آية فحاق به ما سأل من العذاب يوم بدر".
النضر بن الحارث أسس منهجاً متفرداً في محاربة الإسلام ورسوله ودعاته سار على دربه كل أعداء الدعوات عبر العصور، أسس منهج أهل الباطل والتشغيب والتشويش على دعاة الحق ورسالة الحق، وبأدوات مازال المبطلون يتواصون بها عبر الأجيال والعصور، فما زال الغناء والرقص والطرب والمعازف والحكايات والأساطير هي الشغل الشاغل لأبناء الأمم خاصة أمة الإسلام، ونلحظ أن قمة وذروة هذه الهجمة الإلهائية تكون في شهر رمضان المبارك؛ أعظم موسم للطاعة عند المسلمين، حيث ذلك التكدُّس الضخم للأعمال الفنية الملهية عن أي شيء جادٍّ في الحياة اليومية، والملهية عن الدين وغير الدين، في عرض مستمرٍّ على مدار الأربع والعشرين ساعة، وعلى القنوات الأرضية والفضائية التي يصعب حصرها؛ ثم يأتي التنوع غير المسبوق في المادة المقدمة، وتأتي العروض الأُول من الأفلام، والمسلسلات، والمسرحيات، والأغاني، والرياضة، والبرامج الضاحكة، إلى آخر هذا اللهو الباطل الذي حول الأمة إلى غثاء مثل غثاء السيل.
التعليقات
زائر
15-08-2023رائع