اقتباس
إن منبر الجمعة مرتبط بروح خطيب الجمعة وموهبته وعلمه وتقواه، يَقْوى بقوته، ويضعف بضعفه، ومن ثمّ لا يصحّ أن يعتلي منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا رجلٌ توافرت فيه شروط ثلاثة: العلم، والتقوى، والموهبة الخطابية.
تهتم الدول في العصر الحديث بوسائل الثقافة والإرشاد، فتقيم النوادي والقاعات الكبيرة، وتنظم الندوات الفكريَّة، وتدعو إلى سماع المحاضرات في شتى الموضوعات، بغية توعية الناس، وتوجيههم.
ومع ما تبذله الحكومات من جهود في دعوة الناس إلى سماع تلك المحاضرات وفي تهيئة الجو الهادئ الأنيق المريح الجذَّاب الذي تُلْقى فيه المحاضرة، فإنَّ عدد الملبيّن تلك المحاضراتِ قليلٌ، إذا قيس بالجهود المبذولة لجمعهم وترغيبهم بالحضور.
وخُطبة الجمعة في الإسلام محاضرة أسبوعية، يحضرها الآلاف من المسلمين، بل الملايين، بملء إرادتهم طائعين راغبين، فيجلسون على الأرض منصتين بآذانهم وقلوبهم إلى كل كلمة يقولها الخطيب.
ذلك أن خطبة الجمعة شَعيرة دينية، شُرِعت لبحث قضايا الساعة في حياة المسلمين، ولتفقيههم بدينهم الذي جاء مُنظِّماً شؤون الدنيا والآخرة. وكان حريّاً بهذه الخطبة الأسبوعية الراتبة المقدّسة أن تفعل الأعاجيب في حياة المسلمين، فتفتّحَ أذهانهم على الحق، وتحرّرَ نفوسهم من الذل، وتسمو بأرواحهم إلى الآفاق العليا التي دعا إليها الدين الحنيف.
ولكن المتأمل أوضاع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ليقطع بأن منبر الجمعة لا يؤدي رسالته، وأن خطبة الجمعة لا تحقق غايتها. ولو أدّى منبر الجمعة رسالته، وحققت خطبته الغاية منها، لكان شأن المسلمين غير شأنهم اليوم.
ولقد سبق أن أدى هذا المنبر رسالته ذات يوم، فصنع من المسلمين خير أمة أُخرجت للناس، تأمرُ بالمعروف وتنْهَى عن المنكر، وتؤمنُ بالله. وقد فعلت هذا كله في واقع الحياة والناس، لا في بطون الكتب والأسفار والنظريات.
فكيف يستطيع المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها أن يعيدوا لمنبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخطبةِ الجمعة الحيوية والقوةَ والتأثيرَ في عصر قائم على العلم والتخطيط والاختصاص؟
إن منبر الجمعة مرتبط بروح خطيب الجمعة وموهبته وعلمه وتقواه، يَقْوى بقوته، ويضعف بضعفه، ومن ثمّ لا يصحّ أن يعتلي منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا رجلٌ توافرت فيه شروط ثلاثة: العلم، والتقوى، والموهبة الخطابية.
وإن إنشاء خطيب الجمعة، القويِّ في علمه، الموهوبِ في خطابته، التقيِّ في دينه وخُلقه، ضرورةٌ كبرى مصيريَّة في حياة المسلمين، وشرطٌ أساسيّ من شروط نهضتهم، واستعادةِ عزَّتهم، واسترداد شخصيتهم.
فالعلم: لابدَّ منه لخطيب الجمعة، ليكون قادراً على العطاء، وتفقيه الناس بدينهم في شتى أحكام الشريعة ومسائلها. ومن ثمَّ وَجَب أن يكون خطيب الجمعة عالما كبيراً.
والتقوى: شرط أساسيٌّ لابدَّ منه أيضاً لخطيب الجمعة، ليكون أميناً على رسالة الإسلام وقيمه، يعرضها على الأسماع من غير مُجَاملة ولا تزييف، فيصدع دوماً بكلمة الحق، مبتغياً بها وَجْهَ الله، لا يحول دون جهره حائل مهما كان.
والموهبة الخطابية: شرط هام جداً من شروط الخطيب الناجح المؤثر، الذي يعرف كيف يستميل القلوب بحُسن حديثه، ويستولي على النفوس بأسلوبه الحار المتدفّق الأخّاذ، فَيُحدث فيها التأثير المرجو، ويسمو بها إلى آفاق الحق والهداية والاستقامة.
ومثلُ هذا الخطيب حريُّ بأن يُعطي الحرية كاملةً فيما يقول للناس ولا ضير من إعطائه الحرية، لأنه أوتيَ من رجاحة العقل، ورشاد المنطق، وسداد التفكير، ما يجعله في عصمة من الانزلاق والتهوّر، وإساءة استعمال حق الحرية الممنوح له. فهو يدعو دوماً إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وينصح للمسلمين في كل ما يقول، إذ الدين النصيحة. ومن كان من أُولي الأحلام والنُّهى لا يُعجزه أن يجهر بالحق والنصيحة في آن.
ومثلُ هذا الخطيب ينبغي أن يكون متفرِّغاً لمهمته العلمية التوجيهية الجليلة، لا يشغله عنها شاغل من شواغل العيش، مستقلاً، بعيداً عن المؤثرات والتيارات السياسية التي تستغل المنابر في كثير من البلاد الإسلامية. فمنبر الإسلام ينبغي ألا يسخَّر إلا لدعوة الله : (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)[الجن: 18].
إن مثل هذا الخطيب لا يمكن أن ينشأ اعتباطاً وبمحض المصادفات، ولكن لابدَّ لإيجاده من إنشاء المعاهد العالية الراقية، التي تنتقي أصحاب المواهب الأتقياء، لتصنع منهم خطباء جمعة، فَتُخْضِعَهم لشروط علمية وتربوية صارمة، بحيث لا يُؤهَّلُ لهذا المنصب الخطير إلا العلماء العقلاء الموهوبون الأتقياء، ويُمنحون بعد التخرج المرتبة المعاشية اللائقة بجلال العلم، وكرامة التوجيه، وعزّةِ الموهبة.
ويوم يتنبه المسلمون في شتى أصقاعهم إلى خطورة منبر الجمعة في حياتهم، ويعملون مخلصين على إيجاد هذا الخطيب الصالح التقي الحرّ الموهوب، يكونون قد بدأوا منعطفاً جديداً في حياتهم نحو الوعي والعزة والسؤدّد، وساروا في الطريق التي جعلت منهم ذات يوم خيرَ أمةٍ أخرجت للناس.
المصدر: رابطة العلماء السوريين
التعليقات