اقتباس

التدبر عبادة تحتاج إلى طريقة خاصة في التناول والتعاطي والمزاولة؛ فهي من أرق العبادات وأدقها؛ فهي عبادة قلبية وعقلية لا مكان فيها للجهد البدني أو عمل الجوارح، وكثير من المسلمين...

إن المتأمل في حال المسلمين مع كتاب الله هذه الأيام لا تخطئ عينه إقبال كثيرين من المسلمين على اختلاف أقطارهم وألسنتهم وألوانهم وأجناسهم؛ رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً، على كتاب الله عز وجل بالتلاوة والحفظ، فثمة نهضة قرآنية قوية تثلج الصدور وتسعد النفوس وتغيظ أعداء الإسلام.

 

فجمعيات التحفيظ منتشرة في طول البلاد وعرضها، والمساجد -قبل نازلة كورونا- تمتلئ بحلق التلاوة والتحفيظ، ودورات التحفيظ تخرّج كل عام مئات الحفظة، حتى أصبح حفاظ القرآن الكريم في بعض بلاد الإسلام الأعجمية -باكستان- أزيد من عشرة ملايين حافظ لكتاب الله!!

 

وهذه النهضة وإن دلت فتدل على حرص عموم الأمة على كتاب ربها -عز وجل-؛ توقيراً وصيانة وحفظاً؛ إلا أن المؤسف والمحزن للغاية حقيقة، أن هذا الإقبال على التلاوة والحفظ لا يصحبه إقبال يماثله أو يقرب منه في عبادة هي الأرقى والأعلى في باب علوم القرآن ولوازمه؛ ونعني بها باب التدبر والفهم، حتى صرنا نرى من يتم حفظ كتاب الله -عز وجل- ولا يُسقط منه حرفاً، ولكنه في نفس الوقت لا يعرف تفسير صغار السور أو حتى معاني بعض الكلمات الشهيرة في كتاب الله!

 

ولعلم الله -سبحانه- القديم بوجود مثل هذا التصور المنقوص في التعامل مع كتاب الله -عز وجل- والفصام النكد بين مقامي القراءة والتدبر، فقد نبهنا المولى -جلّ في علاه- عليه وحذرنا منه، بل واستخدم أبلغ أسلوب في الانكار على تارك التدبر، فقال -تعالى-: (أَفلاَ يَتَدَبَّرُوْنَ القُرْآنَ)[النساء:82].

 

إنه أسلوب الاستفهام التعجبي الاستنكاري من عدم ممارسة عبادة التدبر في القرآن الكريم مع توفره وعظيم أثره وسرعة مفعوله، فتدبر القرآن يزيل الغشاوة، ويفتح النوافذ، ويسكب النور، ويحرِّك المشاعر، ويستجيش القلوب، ويخلّص الضمائر، وينشئ حياة للروح تنبض بها وتشرق وتستنير. فتدبر القرآن من أعظم وأنفع أدوية القلوب، فالقرآن ليس بكتاب معجز فحسب، إنه أكثر من ذلك، إذا دخل في القلب تغيَّر الإنسان، وإذا تغيَّر الإنسان تغيَّر الكون والواقع مهما كانت مرارته.

 

قال ابن القيم -رحمه الله-: "وبالجملة فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر، فإنه جامع لجميع منازل السائرين وأحوال العاملين ومقامات العارفين، وهو الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والرضا والتفويض والشكر والصبر وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله، وكذلك يزجر عن جميع الصفات والأفعال المذمومة والتي بها فساد القلب وهلاكه".

 

قال السعدي -رحمه الله-: "تدبر كتاب الله مفتاح للعلوم والمعارف، وبه يستنتج كل خير، وتستخرج منه جميع العلوم، وبه يزداد الإيمان في القلب وترسخ شجرته. فإنه يعرِّف بالرب المعبود، وما له من صفات الكمال وما ينزه عنه من سمات النقص، ويعرِّف الطريق الموصلة إليه وصفة أهلها، وما لهم عند القدوم عليه، ويعرِّف العدو الذي هو العدو على الحقيقة، والطريق الموصلة إلى العذاب، وصفة أهلها، وما لهم عند وجود أسباب العقاب. وكلما ازداد العبد تأملاً فيه ازداد علماً وعملاً وبصيرة".

 

ومن ألطف الإشارات لعبادة التدبر وفضلها؛ أن الله -عز وجل- لم يذكر كتابه الحكيم إلا مقروناً بالدعوة والندب إلى التدبر والتفكر في آياته، وذلك بصيغ مختلفة لبيان الأهمية، ليقف الناس بقلوبهم وعقولهم عند ماهية هذه العبادة الراقية الرقيقة العميقة.

 

فقد دعا الله عز وجل عباده إلى التدبر فيما أنزله إليهم من آيات كتابه العزيز بصور متعددة؛ فبين أن هذا التدبر هو المقصود بإنزال القرآن بقوله: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)[ص:29]، وأنكر على من أعرض عن تدبره كما في قوله: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ)[المؤمنون:68]، وقوله: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)[النساء 82]، وقوله: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرءان أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)[محمد:24].

 

والله -عز وجل- جعل التدبر علّة قراءة القرآن بهدوء وروية وتمهل، فقال -تعالى-: (وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا)[المزمل:4]؛ أي بتمهل وترسل، قال ابن كثير -رحمه الله-: "فإنه يكون عوناً على فهم القرآن وتدبره"، فجعل الفهم والتدبر علة للأمر بقراءته مرتلاً، وقال الشوكاني -رحمه الله-: "أي: اقرأه على مهل مع تدبر"، فجعل التدبر داخلاً في معنى الترتيل.

 

ولبعض المفسرين -الطاهر بن عاشور- تأويل مخوف شديد لقوله -تعالى-: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ)[البقرة: 78] فقال -رحمه الله-: "قيل: الأماني القراءة، أي لا يعلمون الكتاب إلا كلمات يحفظونها ويدرسونها لا يفقهون منها معنىً، كما هو عادة الأمم الضالة؛ إذ تقتصر من الكتب على السرد دون فهم".

 

ملَح التدبر

التدبر عبادة تحتاج إلى طريقة خاصة في التناول والتعاطي والمزاولة؛ فهي من أرق العبادات وأدقها؛ فهي عبادة قلبية وعقلية لا مكان فيها للجهد البدني أو عمل الجوارح، وكثير من المسلمين يفهمون عبادات الجوارح، وأعمال اللسان، ويسهل عليهم استيعاب أعمال اللسان وعباداته، وكذلك الشعائر التعبدية التي تقوم بها الأعضاء، لكنهم يصعب عليهم فهم أعمال القلب، ثم إذا فهموا ذلك فقليل منهم من يعمل به، من ثم كانت الحاجة ماسة لبيان كيفية تذوق العبادة ومعرفة القدر المناسب من الملح الذي يلزم لتناول عبادة التدبر مثل الوجبة الدسمة اللذيذة التي يقبل عليها ويحبها الجميع. وكما أخرج عبد الرزاق في مصنفه وابن حجر في المطالب العلية والسيوطي في الجامع الصغير، من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مثل أصحابي مثل الملح في الطعام، لا يصلح الطعام إلا بالملح"، أيضا عبادة التدبر لابد لها من وجود هذا الملح وإلا لن يستفاد القارئ لكتاب الله من تلاوته حتى لو حاول التدبر في آياته.

 

من هذا الملَح:

1- الفهم الفهم: لو أردت أن تضع كلمة واحدة تعرّف بها عبادة التدبر فلن تجد أجمع ولا أدق من تعريفها بالفهم. فتدبر القرآن هو تحديق القلب في معانيه، وإمعان العقل في مراميه، وجمع الفكر على معرفته وتفهمه، وذوبان هذه المعارف والمعاني في الروح فتسري في الدم إلى القلب فتشفيه، وإلى العقل فتهديه، وهو الغرض من إنزاله. قال تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)[ص:29].

 

ولن يتحقق الفهم إلا بالبدء في معرفة معاني كلمات القرآن وأسباب نزول الآيات ومطالعة كتب التفسير، والبدء بأيسر التفاسير وأخصرها قبل الشروع في بحر التفاسير الزاخر والغوص في بحوره العميقة، لاستخراج الدرّ الكامن في بطونها. لذلك كان الغزالي بارعاً وهو يصف التلاوة الحقة لكتاب الله، فقال: "وتلاوة القرآن حق تلاوته هو أن يشترك فيه اللسان والعقل والقلب، فحظُّ اللسان تصحيح الحروف بالترتيل، وحظُّ العقل تفسير المعاني، وحظُّ القلب الاتعاظ والتأثر بالانزجار والائتمار، فاللسان يُرتِّل والعقل يترجم والقلب يتعظ".

 

2- المعايشة: بالدخول في أجواء السورة، واستحضار مناسبة وأسباب نزولها، وتمثل حال الصحابة عند سماعهم هذه الآيات وهي تتلى عليهم أول مرة، قال سيد قطب -رحمه الله-: "ولا يفهم النصوص القرآنية حق الفهم إلا من يواجه مثل هذه الظروف التي واجهتها أول مرة؛ هنا تتفتح النصوص عن رصيدها المذخور، وتتفتح القلوب لإدراك مضامينها الكاملة، وهنا تتحول تلك النصوص من كلمات وسطور إلى قوى وطاقات، وتنتفض الأحداث والوقائع المصورة فيها؛ تنتفض خلائق حية موحية، دافعة، دافقة، تعمل في واقع الحياة، وتدفع بها إلى حركة حقيقية في عالم الواقع وعالم الضمير".

 

فالقرآن لا يُجنى جناه دون معرفة معناه والعيش في أجوائه ومعرفة أسباب نزول آياته، فكم من الناس يقرأ ولا يزيد إيمانا ولا يتغير سلوكا ولا ينصلح بمقدار ذرة، مع أن الآية الواحدة كانت سبباً في إسلام بعضهم، وتوبة البعض الآخر، وتغير حياة آخر، وهكذا.

 

3- قطع الشواغل: فالتدبر مثل الزوجة الغيور؛ تريدك وحدك بكلك لها، فإذا انصرفت أو التفت عنها لغيرها، ولّت عنك وغضبت وأدارت لك ظهرها. فثمرات التدبر لا تتحقق في الأجواء المقلقة، ولا مع كثرة الشواغل والملهيات، التدبر يحتاج للانفراد والخلوة واستجماع النفس وتركيز العقل، فمن يقرأ بين الناس أو في المواصلات أو حتى في المسجد وسط آخرين لا يتحقق له مقام التدبر على الوجه الأكمل، وكأن القرآن يصيح فيك ويقول: فرِّغ قلبك من غيري أسكنه.

 

4- نفسية ثابت بن قيس: ثابت بن قيس -رضي الله عنه- كان من كبار الصحابة وله منزلة خاصة عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد كان خطيب النبي -صلى الله عليه وسلم- وشهد معه المشاهد كلها إلا بدراً، وله من السابقة والفضيلة الشيء الكثير، ومع ذلك كان ذو نفسية خاصة رقيقة وقلب مرهف، يسمع آيات القرآن فينزلها على نفسه، ويشعر بأنه المخاطب وحده دون كل الناس بهذه الآيات، خاصة إذا كانت آيات وعيد وتهديد.

 

قال يوماً: "يا رسول الله، إني أخشى أن أكون قد هلكت، ينهانا الله أن نحب أن نحمد بما لا نفعل، وأجدني أحب الحمد. وينهانا الله عن الخيلاء، وإني امرؤ أحب الجمال، وينهانا الله أن نرفع أصواتنا فوق صوتك، وأنا رجل رفيع الصوت، فقال: يا ثابت، أما ترضى أن تعيش حميدا، وتقتل شهيدا، وتدخل الجنة؟ وفي رواية: لما نزلت لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي الآية، قال ثابت بن قيس: أنا كنت أرفع صوتي فوق صوته، فأنا من أهل النار. فقعد في بيته، فتفقده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكر ما أقعده فقال: بل هو من أهل الجنة. فقتل شهيداً في قتال المرتدين يوم اليمامة.

 

والمتدبر في آيات الله عندما يستشعر أنها لم تنزل إلا فيه، وأنه وحده المخاطب بها، زاد اهتمامه بمعرفة معانيها وآثارها وأغراضها وما يُراد منه بتلك الآيات، عندما يستشعر أن الله -تعالى- اختصه من دون الخلق برسالة، زاد انتباهه واستيقظ قلبه واشرأبت نفسه، واستعدت جوارحه كلها لتلقي الرسالة الإلهية والعمل بها.

 

5- هدأة الليل: إن الخلوة مع كتاب الله-عز وجل- في أعماق الليل، حيث السكون والهدأة التامة، منبع سعادة لا يوصف للعبد، ووسيلة لرحمة ومغفرة ولطف ورضا إلهي لا حدود له، وأفضل سبل تحقيق التدبر لآيات الله والشعور معانيها وتذوق حلاوتها. قال -تعالى-: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)[السجدة:16].

 

فإن الأسرار والحكم والفيوض التي أودعها الله -تعالى- في اللَّيل يعاينها المرء على حسب استعداد قلبه وروحه، ومن أظهر الدلائل على أهمية هذا الوقت المبارك ما تحقق فيه من اللطائف الإلهية كالمعراج ونزول الوحي. ولذا تعد الليالي وخاصة أوقات الأسحار فرصا استثنائية للمؤمنين العازمين على التقرب من الله، لسكون أعماقها وامتلائها بالمنح الإلهية.

 

في هدأة الليل تنفتح المغاليق، وتنزل الحجب، ويرى العبد ببصيرته لا ببصره، ويقرأ بقلبه لا بلسانه، ويسمع بروحه لا بأذنه، يقول عمرو بن عبسة -رضي الله عنه- : "قلت: يا رسول الله هل من ساعة أقرب من الأخرى؟ أو هل من ساعة يبتغى ذكرها؟ قال: "نعم، إن أقرب ما يكون الرب عزّ وجّل من العبد جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله عزّ وجّل في تلك الساعة فكن، فإن الصلاة محضورة مشهودة إلى طلوع الشمس".

 

6- التفاعل: من ملَح التدبر الذي يغفل عنه الكثيرون؛ التفاعل مع الآيات حسب مناسبتها، فيدعو ويؤمن ويستغفر ويستهدي ويتعوذ ويرجو حسب سياق الآيات، فذلك كله يعين على حضور القلب عند التلاوة، والتدبر والاستيقاظ من الغفلة. وهكذا كان هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد وصف حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه: "يقرأ مترسلاً، إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبّح، وغذا مرّ بسؤال سأل، وإذا مرّ بتعوذ تعوذ"(رواه مسلم).

 

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "من قرأ منكم (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) فانتهى إلى آخرها: (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) فليقل: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين. ومن قرأ (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) فانتهى إلى قوله (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى)، فليقل: بلى، ومن قرأ (وَالْمُرْسَلاَتِ)، فبلغ (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ)، فليقل: آمنا بالله"(رواه أبو داود والبيهقي في السنن الكبرى).

 

وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه، فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا فقال: "لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردودا منكم، كنت كلما أتيت على قوله فبأي آلاء ربكما تكذبان قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد". رواه الترمذي وحسنه.

 

7- التكرار: فتكرار الآيات عدة مرات يورث القلوب الإيمان والخشوع والتدبر، فالتكرار يهزّ النفوس ويحرك القلوب ويُدمع العيون، ففي التكرار تقرير للمعاني في النفس، وتثبيت لها في الصدر، وسكينة وطمأنينة للقلب، وكان هذا التكرار من سمات قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام.

 

فعن أَبي ذَرٍّ أن النَّبِيَّ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ قَامَ بِآيَةٍ يُرَدِّدُهَا حَتَّى أَصْبَحَ وهي قوله تعالى: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ"(رواه النسائي وابن ماجه).

 

وكانت هذه عادة السلف يُردِّد أحدهم الآية إلى الصبح، فيقرأ القرآن بتفكُّر حتى إذا مرَّ بآية وهو محتاج إلي تدبرها، كررها ولو مائة مرة، بل ولو استغرق الأمر معك الصلاة كلها، فقراءة آية بتفكُّر وتفهم خير من ختم القرآن كله بغير ذلك. فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة بلا قلب". وقام تميم الداريّ -رضي الله عنه- في ليلة بهذه الآية: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) ما تخطاها حتى أصبح. وقال محمد بن كعب: "لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح بـ"إذا زلزلت" والقارعة لا أزيد عليهما وأتردد فيهما وأتفكر أحب إليَّ من أن أهذ القرآن ليلتي هذه هذاً أو أنثره نثراً".

 

8- التمهل: الاستعجال عدو التدبر، هما نقيضان لا يجتمعان، ولا يرتفعان، وآفة قراءة الكثيرين الاستعجال والنظر إلى أواخر السورة، فيمضي في قراءته كسهم الخوارج الذي يمرق من رمية التدبر، يقرأون لا يتدبرون!!، وابن القيم -رحمه الله- يصف قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- فيقول: "كان له حزب يقرؤه ولا يُخِل به، وكانت قراءته ترتيلا لا هذَّا ولا عجلة، بل قراءة مفسرة حرفا حرفا، وكان يقطع قراءته آية آية، وكان يمد عند حروف المد فيمد الرحمن ويمد الرحيم".

 

وما كان رسول الله يقرأ بهذه القراءة المفسرة التدبرية إلا تنفيذاً لأمر ربه -جل وعلا-: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ)[الإسراء:106]؛ أي مهل وتؤدة وتأن، فإنه أيسر للحفظ، وأعون على الفهم.

 

ومن حبائل الشيطان الدقيقة؛ شغل العبد بالمفضول عن الفاضل؛ فالقراءة باستعجال تمنح العبد لاشك حسنات كثيرة، ولكنها تفقده ما هو أعلى وأغلى وأقيم؛ التدبر عند القراءة على مهل وتأني. إنها قراءة المتعجِّلين، يريد الشيطان منك أن تمر على الآية بسرعة فيفوتك خيرها، وتُحرِم بركتها، ولا تقطف ثمرتها، فلا تزيد بها إيمانا، أو تبكي وجلا، أو تُمضي عملا، أو تقدِّم جهاداً.

 

وأخيراً، من المهم جداً أن تتحول عبادة التدبر إلى عبادة جماعية، يقوم بها عموم المسلمين ويتدربون عليها، وهذا هو واجب خطباء المساجد الذي يملكون المنابر المباشرة للتحدث مع الجماهير مرة على الأقل أسبوعياً؛ فيا حبذا لو تبنى عموم خطباء الأمة هذه القضية الملحة وخصصوا لها العديد من الخطب التي تحض على هذه العبادة الراقية، وذلك من عدة زوايا، وفي شتى المناسبات؛ فالقرآن حياة الأمة وسبب قوتها وصمودها وبقائها، وهو أيضا حجتها ومعجزتها ودستورها إلى يوم الدين.

التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life