عناصر الخطبة
1/منزلة القلب من الإنسان 2 /علاقة القلب بالجوارح 3/القلب وعلاقته بالأعمال الظاهرة 4/علاقة الأعمال الظاهرة بالقلب.اقتباس
إنه لا تستقيم حياة رعيةٍ إلا باستقامة راعيها ومليكها, فإذا صلحَ الملك صلحت الرعية وإن فسد فسدت الرعية, وما ذلك إلا لأنهم تبع له, بأمره يأتمرون, وبقوله يعملون, وذلك هو حال قلب الإنسان مع...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
معاشر المسلمين: لا تستقيم حياة رعيةٍ إلا باستقامة راعيها ومليكها, فإذا صلحَ الملك صلحت الرعية وإن فسد فسدت الرعية, وما ذلك إلا لأنهم تبع له, بأمره يأتمرون, وبقوله يعملون, وذلك هو حال قلب الإنسان مع الجوارح.
وقد شبه النبي -صلى الله عليه وسلم- القلب بالملك وشبه الجوارح بالرعية, فإذا استقام القلب استقامت الجوارح قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ". (رواه الشيخان)؛ فإذا استقام القلب وصلح صلحت إرادته وصلحت الجوارح تبعاً لذلك؛ فيصلح البصر فلا ينظر إلا إلى خيرٍ، وإذا استقام القلب وصلح؛ فيصلح السمع فلا يسمع صاحبه إلا خيرًا, وتصلح اليد فلا تأخذ إلا خيرًا, ولا يكتب بها إلا حقًا, وإذا استقام القلب تصلح الرِّجلُ فلا تسعى إلا إلى خير, ولا يمشي صاحبها إلى شر أبدًا، وحين يصلح القلب تصلح البطن؛ فيأبى صاحبها أن يأكل حرامًا, ويصلح اللسان فيأبى أن يتكلم باطلاً, يأبى أن يغتاب أو ينم, وإذا صلح القلب تصلح جميع الجوارح؛ كما في الحديث: "إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ".
وحين يفسد القلب تفسد إرادته، وتفسد معه الجوارح كلها, وتنبعث في معاصي الله -عز وجل- وما فيه سخطه, ولم تقنع بالحلال؛ بل تسرع في الحرام بحسب هوى القلب وميله عن الحق؛ فالقلب الصالح هو القلب السليم الذي لا ينفع يوم القيامة عند الله غيره، قال تعالى: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء: 88], وهو أن يكون سليما من الشهوات والشبهات, بعيدًا عن جميع ما يكرهه الله تعالى من الرذائل والسيئات, ولا يكون فيه سوى محبة الله وإرادته.
إخوة الإسلام: إن هناك ارتباطاً وثيقاً بين القلب والأعمال الظاهرة؛ فإن الأعمال الظاهرة ناتجة عن ما في القلب وما يعتقده وما يدين به؛ ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما عند مسلم من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "فَوَ الَّذِى لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا"(متفق عليه).
قال شراح هذا الحديث: "وسبب هذا الأمر: القلب وما فيه, فلما كان هذا الذي يعمل صالحًا يعمل بعمل أهل الجنة وقلبه على غير ما يظهر عاقبه الله في نهاية الأمر, وأبدى -عز وجل- مساوئه, وفضحه فعمل بعمل أهل النار فدخلها".
إذن الدسيسة التي في القلب هي التي تظهر عند الممات؛ فإما أن يختم للإنسان بالخير وإما أن يختم له بالشر, ولذلك قال -عليه الصلاة والسلام-: " إنما الأعمال بالخواتيم"، (رواه البخاري), وجاء بيان ذلك في حديث آخر في قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهْوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهْوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ"(متفق عليه).
وكما أن الجوارح تتأثر باستقامة القلب وميله, فكذلك القلب يتأثر باستقامة الجوارح وميلها, ويدل على ذلك قوله تعالى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)[الصف:5]؛ أي فلما مالوا عن اتباع الحق وانصرفوا عنه إلى الحرام صرف الله قلوبهم إلى الضلال والغواية.
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب"، (رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني).
وقد جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- بين تأثر القلب بالظاهر وتأثر الظاهر بالقلب في قوله: " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم, ولكن ينظر إلى قلوبكم و أعمالكم"(رواه مسلم).
قال ابن القيم-رحمه الله-: "تكرر في القرآن جعل الأعمال القائمة بالقلب والجوارح سبب الهداية والإضلال، فيقوم بالقلب والجوارح أعمال تقتضي الهدى اقتضاء السبب لمسببه والمؤثر لأثره، وكذلك الضلال، فأعمال البر تثمر الهدى وكلما ازداد منها ازداد هدى، وأعمال الفجور بالضد".
اللهم اهدنا بهداك، واجعل عملنا في رضاك.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدلله وكفى والصلاة والسلام على النبي المصطفى, وعلى آله وصحبه ومن بهديه اقتفى وبعد:
إخوة الإسلام: إن القلب ملك الجوارح, واستقامتها باستقامته, وهنا تكمن أهميته, وأهمية العناية به؛ فهو خط الدفاع الأول, إن ضعف أو فسد أو استسلم انهارت الجوارح وخارت ولم تنهض.
ولأهمية القلب؛ فقد نسب إليه القرآن الكريم أشرف الأعمال، وخُص بأمور لم تكن لغيره من الأعضاء، فالحق تبارك وتعالى خصه بوظيفة التفقه والتعقل, قال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا)[الحج: 46]، وقال -أيضاً-: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا)[الأعراف: 179]، فنسب الفقه والفهم والوعي إليه.
كما أن نزول القرآن كان على القلب, قال تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ)[الشعراء: 193-194].
ونسب الله -سبحانه وتعالى- الإيمان والهداية إليه فقال: (يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[التغابن: 11]؛ كما أن الله تعالى ألزم عبادوَمَنْ ه بقيام الحجة عليهم؛ إذا توفرت القدرة على الإدراك وعلى الفعل، فحاسب عباده بما منحهم من وسائل الإدراك قال تعالى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)[الإسراء:366].
أيها المسلمون: لقد امتن الله على عباده في غير ما آية بأنْ منحهم القدرة على الإدراك، والاستعداد؛ لقبول العلوم وفهمها وحفظها, بل واستذكارها متى ما احتاجوا إليها, فمدار الإدراك والتكليف على العقل؛ ولذلك قال ابن القيِّم -رحمه الله-: "ولما علم عدو الله إبليس أنَّ المدار على القلب والاعتماد عليه؛ أجلب عليه بالوساوس، وأقبل بوجوه الشهوات إليه، وزيَّن له من الأقوال والأعمال ما يصده عن الطريق، وأمدَّه من أسباب الغي بما يقطعه عن أسباب التوفيق، ونصب له من المصايد والحبائل ما إن سلم من الوقوع فيها لم يسلم من أن يحصل له بها التعويق".
وقد جعل الله -سبحانه وتعالى- العمى الحقيقي عمى القلوب عن الحق والانتفاع بالهدى, قال تعالى: (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)[الحج:46]، قال ابن سعدي -رحمه الله- عند تفسيره هذه الآية:" أي: هذا العمى الضار في الدين، عمى القلب عن الحق، حتى لا يشاهده, كما لا يشاهد الأعمى المرئيات، وأما عمى البصر، فغايته بلغة، ومنفعة دنيوية".
إخوة الدين: إن القلب وعاء التقوى، قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "التقوى ها هنا" (متفق عليه), وأشار إلى صدره، ليدل ذلك على أن مكان التقوى هو القلب، والقلب وحده، فليست التقوى عبرةَ خشوعٍ أو دمعةً تخرجُ من عينٍ أو إطالةَ سجدةٍ, أو غير ذلك من المظاهر الفارغة من الخشوع والروحانية، إنما التقوى معنىً قلبي, وسرٌّ مستودع في القلب لا يطلع عليه أحد إلا الله.
وهذا سيدنا عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- يبين أن الاهتمام بالقلب وأعماله, أهم من الاهتمام بالظاهر, فقال ذات يومٍ مخاطباً جموعَ التابعين المجدّين في عبادات الجوارح: "أنتم أطول صلاةً، وأكثر اجتهاداً من أصحاب رسول الله، وهم كانوا أفضل منكم"، قيل له: بأي شيء؟ قال: "إنهم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة منكم"؛ فلذلك كانت العناية بالقلب والاهتمام به أمراً عظيماً, وضرورة قائمة, فالعمل القليل تكثره النية الصالحة من القلب الصالح السليم.
معاشر المسلمين: إن القلب مركز الإيمان, و مركز الحب والبغض ومركز الطمأنينة والقلق والخوف, قال الله -عز وجل- في محكم الذكر: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ)[الأنفال:2], وقال أيضاً: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد: 28].
فلذلك كانت مكانته عالية وقيمته غالية, والسعي لهدايته وصلاحه سامية, إذ بصلاحه تصلح حياة المرء ويسعد, فهو محل نظر الرب تعالى, وهنا تكمن غاية الأهمية, فاجتهدوا -رعاكم الله- في حفظه ورعايته بالتزود من الطاعات وابعاده عن المنكرات والشهوات.
اللهم أصلحنا وأصلح فساد قلوبنا.
وصلُّوا وسلموا- على خير البرية، كما أمركم الله بذلك في كتابه؛ فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].
التعليقات
زائر
29-12-2021