اقتباس
ينبغي أن يجعل العبد من حياته الخاصة كلها عبادة لله؛ أفراحه وطعامه وشرابه ونومه ونكاحه ونزهته إذا مارس ذلك وفق الضوابط الشرعية، ومتى ما خالف فيها الضوابط الشرعية لم تكن ساعته تلك لا لقلبه ولا لربه؛ بل كانت لهواه وشيطانه؛ لارتكابه...
خلق الله -تعالى- الإنسان حراً، ثم بصره بما يورثه الحرية التامة والتي بها يرفرف في سماء حرية العبودية لله؛ فشرفه بعبادة ربه وخالقه -سبحانه- دون سواه؛ لأن من صار لله عبدًا تحرر من عبودية البشر والمخلوقات الأغنياء والأقوياء الذين يرتجى نفعهم أو يخشى بطشهم، ومن عبد الله أيقن أن الخلق كلهم أضعف من أن يضروه أو ينفعوه؛ فعن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف" (الترمذي).
ولا ريب أن من الأهمية بمكان بيان حقيقة العبودية الحقة بمفهومها الشامل، كما عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، فقال: "هي اسم جامع لكل ما يحبه الله -تعالى- ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة المتضمنة لغاية الذل والحب، وهذا المدلول الشامل للعبادة في الإسلام هو مضمون دعوة الرسل -عليهم الصلاة والسلام- جميعا وهو ثابت من ثوابت رسالاتهم عبر التاريخ؛ فما من نبي إلا أمر قومه بالعبادة، قال الله -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)[الأنبياء: 25].
ومن هذا المفهوم يتجلى لنا أن الحياة كلها ميدان للعبادة ما دام غايتها إرضاء الله -تعالى- بفعل الطاعات والكف عن السيئات، وتحويل الأعمال التي لم تصبغ بصيغة تعبدية بحتة وإصلاح النية لله -تعالى- وابتغاء مرضاته بذلك الفعل؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين اثنين صدقة ويعين الرجل في دابته؛ فيحمله أو يرفع له عليها متاعه صدقة والكلمة الطيبة صدقة وكل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة ويميط الأذى عن الطريق صدقة"، وكذا العيش في كنفه سبحانه وتحت ظلال محبوباته وسلامه ورضاه.
أيها الفضلاء: يمكن للعبد أن يجعل من حياته كلها عبادة؛ فالصحابة لما رأوا رجلا وقد عجبوا من جلده ونشاطه، فقالوا لو كان هذا في سبيل الله، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان"(رواه الطبراني).
ومن تعبد لله حق التعبد تحرر من الأُنس بالبشر إلى الأُنس برب البشر -جل وعلا- واستخف بجفائهم وهجرانهم بل وباضطهادهم وجورهم؛ فهم في عينه ضعفاء معوزين لا يملكون لأنفسهم فكيف يملكون له! رحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية لم سجنه أعداؤه أطلقها كلمات تتجلى فيها من ثمرات الحرية أو قل: العبودية، حيث قال: "ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة" (الوابل الصيب لابن القيم).
فهو يرى ويشعر أنه في أسره حر، وفي قتله حر، وفي نفيه حر، فكل شيء يحدث له مع الله حرية؛ فمن حقق العبودية تحققت له الحرية وإن حصروا جسده بين قضبان الحديد؛ فإن روحه تحلق عاليًا بين السماوات الطباق.
ومن عَبَد الله -تعالى- تحرر من عبوديات شتى كثيرة؛ تحرر من عبودية الشهوات وعبودية المال وعبودية المناصب والجاه والسلطان وعبودية الشهرة وعبودية المظاهر؛ لأن مقتضى العبودية لله تحطيم كل هذه العبوديات.
وإنك -أيها العبد الحر- كلما ازددت لله عبودية كلما ازددت في دنياك عزا وحرية؛ قال الله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا)[فاطر: 10]، وبقدر بُعدك وإخلالك بمقتضى عبوديتك لله يكون وقوعك في الرق والذل والهوان؛ قال الله: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ)[الأعراف: 152].
فما عزَّ قوم إلا بتمام عبوديتهم لله -تعالى- وإسلام الظاهر والباطن له، وهاكم نموذج ناصع على ذلك، فهذا ربعي بن عامر صاحب المقولة الشهيرة لرستم قائد الفرس: "الله ابتعثنا وجاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله -تعالى-، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبله قبلنا ذلك منه، ورجعنا عنه وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبى قاتلناه أبدًا، حتى نفضى إلى موعود الله، قال: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقى".
إنها كلمات تقطر عزة وشرفًا لا تنبع إلا من قلب ممتلأٍ عبودية لله ومن ثَم حرية وقوة وجسارة وفتوة... وهكذا تصنع عبودية الله في القلوب.
لكن أناسًا أبوا إلا أن يرتهنوا في قيود الرق وأن يكتووا بذل العبودية للمخلوقين؛ فعبدوا غير الله -سبحانه- ولذلك صور عديدة ومظاهر كثيرة، منها:
عبادة الشمس والقمر والنجوم، قال تعالى: (لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)[فصلت: 37].
وعبادة الشيطان، رغم تحذير الله من ذلك قائلًا: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ)[يس: 60-62]، وقد حمل كثير من المفسرين عبادة الشيطان هنا على طاعته فيما يوسوس ويزين من المعاصي، وحملها بعضهم على عبادة الأصنام وقالوا: "عبادة الشيطان عبادة الصنم، وجعل عبادة الصنم عبادته لأنه الآمر به الداعي إليه".
ومن هنا نهي المسلم أن يصلي في أوقات شروق الشمس وغروبها؛ ففي الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال عند حديثه عن الأوقات المنهي عن الصلاة فيها: "ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس؛ فإنها تغرب بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار"(رواه مسلم)؛ فإنما يسجد الكفار للشمس لا للشيطان؛ فيأتي الشيطان فـيدني رأسه إلى الشمس في هذا الوقت؛ ليكون الساجدون للشمس من الكفار في هذا الوقت كالساجدين له.
ومن يعبد الأحجار والأبقار وغيرها من المعبودات التي لا تملك لمن يعبدها نفعا ولا ضرا؛ قال سبحانه: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ)[يونس: 18]، قال الله: (أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ)[الأعراف:191]؛ فسبحان المعبود الأوحد بحق لا إله إلا هو -تعالى- عما يشركون.
وكثير من خلق الله من يعبد الهوى؛ قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)[الجاثية: 23].
وعبَّاد الدنيا كثير دينارها ودرهما ومصالحها، قال صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار، والدرهم، والقطيفة، والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض" (رواه البخاري).
وعبادة الأحبار والرهبان ومن على شاكلتهم: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)[التوبة: 31]، وذلك طاعتهم فيما يرون ويشرِّعون في غير مرضات الله.
أيها المؤمنون: العاقل من جعل أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته ومحياه ومماته في عبادة الله -عز وجل- ومرضاته القائل: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ)[الأنعام:162 - 164].
وهذه هي العبودية الحقة؛ وليس كما اشتهر على ألسنة بعض الناس؛ "حيث يقولون: "ساعة لك وساعة لربك"، وهذا صحيح؛ لكنه ليس على حسب فهمهم وظنهم؛ فهم يقصدون بساعة القلب المرح والتفسخ غير المنضبط بالضوابط الشرعية، حيث يتخلون في ساعتهم تلك عن الأخلاق والقيم أحيانا وعن الأحكام الشرعية أحيانا أخرى وعن الأنظمة والعادات أخرى.
ينبغي أن يجعل العبد من حياته الخاصة كلها عبادة لله؛ أفراحه وطعامه وشرابه ونومه ونكاحه ونزهته إذا مارس ذلك وفق الضوابط الشرعية، ومتى ما خالف فيها الضوابط الشرعية لم تكن ساعته تلك لا لقلبه ولا لربه؛ بل كانت لهواه وشيطانه؛ لارتكابه المحاذير الشرعية فيها؛ ولهذا لما تعجب الصحابة من مزح النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ قال كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- : "إنِّي لا أقولُ إلَّا حقًّا فقال مَن حولَه إنَّكَ تُداعِبُنا يا رسولَ اللهِ قال إنِّي لا أقولُ إلَّا حقًّا" (رواه الطبراني).
فلنكن من عباد الله الذين تخلصوا من كل معبود سوى الله، وعمروا حياتهم بعبادة الله وطاعته وشكره؛ إذ أنه المستحق وحده لجميع أنواع العبادة؛ سواء العبادة القلبية كالحب والخوف الرجاء والرغبة والرهبة والخشوع والتوكل والإنابة وغير ذلك، أو العبادة البدنية، كالصلاة والنحر والنذر والحج والجهاد، وغيرها، أو العبادة القولية، كالنطق بالشهادتين والدعاء والذكر وقراءة القرآن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو العبادة المالية، كالزكاة والصدقات ككفالة الأيتام وإطعام الفقراء والمساكين وغير ذلك من الصور والأمثلة، وهذه العبادات بلا أدنى شك تزيد العبد عزا في الدنيا ومقاما في الآخرة، فيحيا معها بشرف وكرامة واعتزاز، وصدق من قال:
ومما زادني شرفًا و تيهًا *** وكدت بأخمصي أطأ الثريـا
دخولي تحت قولك يا عبادي *** و أن صيَّرت أحمد لي نبيـا
وختاما: لقد حاولنا أن يحتوي هذا الملف العلمي على معنى العبادة وحقيقتها وغايتها ودرجاتها وأقسامها وثمارها من خلال جمع الخطب والكتب والمقالات والدراسات والبحوث وغيرها، وفق المحاور التالية:
المحور الأول: معنى العبودية الشامل وأهميتها وغاياتها.
- تعريف العبودية لغة وشرعا.
- مكانة العبودية في الإسلام ومنزلة أهلها.
- غاية العبودية ومقصودها.
- درجات العبودية.
- الفرق بين العبودية والعبادة.
المحور الثاني: أقسام العبودية ومجالاتها.
- أقسام العبودية (عامة، خاصة).
- مجالات العبودية.
- عوائق في طريق العبادة.
- مفاسد ضعف العبادة.
المحور الثالث: ثمار العبودية لله ومساوئ عبودية غيره.
- ثمار العبودية الحقة.
- مساوئ عبودية غير الله.
- نماذج للعبودية الحقة ونماذج للمستكبرين عنها.
المحور الرابع: إحالات ومراجع وكتب.
التعليقات
لمسيباك عبداللطيف
22-06-2018السلام عليكم ورحمة الله وبركاته روابط المحاور لا تعمل بارك الله فيكم بتصحيح العطب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
سعد الجميري
31-07-2018الملفات الأخرى ليس لها محاور ولا روابط