عناصر الخطبة
1/ حقيقة الإسلام الاستلام لله 2/ أهمية الحديث عن مفهوم الحرية 3/ الحرية المقبولة والمرفوضة في الإسلام 4/ خطر معارضة الكتاب والسنة بأقوال الرجال 5/ وجوب الخضوع لأمر الله ونهيهاهداف الخطبة
اقتباس
إن الحرية في مفهوم الغربيين وإن كانت مقبولة في بعض ما تدعو إليه فيما لا يتعارض مع الدين، ولا يعتدي على حقوق الآخرين، إلا إن الحرية التي تسمح بالفكر الإباحي والإلحادي، وبالتمرد على الشرائع والعادات الحسنة حرية يرفضها الإسلام؛ لأن الإسلام...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70 - 71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
مفهوم الحرية الدارج بين الخلق في زماننا المعاصر يستدعي بعض التحليل والتفصيل؛ لأننا بصفتنا مسلمين نحتكم لا إلى عقولنا وشهواتنا فحسب، بل قبل ذلك نحتكم إلى ديننا، هل يبيح الشيء أما لا؟
وعندما ندرك أن من أهم معاني دين الإسلام هو: الاستسلام لله فيجب حينها أن تختلف مواقفنا وقراراتنا عما هو دارج في البيئات غير المسلمة، أو تلك البيئات المسلمة التي لا تأخذ من الإسلام إلا ما يوافق أهوائها فقط، يقول سبحانه وتعالى: (فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) [الحج: 34] قال: (فَلَهُ أَسْلِمُوا) ولم يقل فأسلموا له، قدم الجار والمجرور (فَلَهُ) للحصر والقصر، فلا إخبات ولا خضوع يتعدى إخباتك وخضوعك لله -تعالى-.
وذكرت الآيات الإسلام والإخبات: (فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ)، فالإسلام هو الاستسلام لله بالخضوع والطاعة والخلوص من الشرك، والإخبات هو الخشوع والخضوع والتواضع، يقال: أخبت لله، أي خشع وتواضع.
قال أبو مسلم: "حقيقة المخبت من صار في خبت من الأرض والخبت هو المطمئن من الأرض"، قال تعالى: (وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [هود: 23]، (وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ) أي خضعوا له واستكانوا لعظمته، وذلوا لسلطانه، وأنابوا إليه بمحبته وخوفه ورجائه.
المسلم إذا صح إسلامه تراه مخبتا إلى الله مستسلما خاضعا لأحكامه، وبهذا الاستسلام يكون العبد حرا، حرا من ماذا؟ حرا من أغلال الشهوة والشيطان.
الإنسان اثنان: عبدا لله أو عبدا لغيره من أنواع الآلهة الحسية والمعنوية، ولا يتحرر العبد إلا برفض العبودية لغير الله، ولذلك قال يوسف -عليه السلام- للفتيان: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) [يوسف: 39] لا مناص إما أن يكون الإنسان عبدا لله أو يكون عبدا لغير الله لا مناص، ولذلك قال تعالى بصيغة الاستفهام الإنكاري: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) [الفرقان: 43] حرية المسلم يحكمها دينه، والإسلام بحكمته وعدله يضبط الحرية بما ينتفع به الإنسان على الحقيقة في حياته الدنيا وفي الآخرة، ولذا فإن من الإيمان أن تؤمن بأن منهج الإسلام في الحياة هو المنهج القويم، يقول سبحانه: (وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [آل عمران: 101] منهج الإسلام هو الصراط المستقيم.
وقال تعالى: (وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) [مريم: 36]، ويقول سبحانه: (وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الأنعام: 39]، ويقول سبحانه: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الحج: 54].
معاشر الإخوة: الكلام في هذا الموضوع مهم لأن مفهوم الغربيين للحرية بدأ يتسلل في بعض جوانبه الخاطئة إلى عقول شبابنا وبناتنا، فإن الحرية في مفهوم الغربيين وإن كانت مقبولة في بعض ما تدعو إليه فيما لا يتعارض مع الدين ولا يعتدي على حقوق الآخرين، إلا إن الحرية التي تسمح بالفكر الإباحي والإلحادي وبالتمرد على الشرائع والعادات الحسنة حرية يرفضها الإسلام؛ لأن الإسلام كما ذكرنا آنفا لا يخضع للأهواء المجردة ولا للاختيارات الشهوانية، لا بل يخضع لاختيار الله -سبحانه وتعالى- هو اللطيف الخبير؛ كما قال سبحانه: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [القصص: 68].
والله -تعالى- هو الذي يأذن بالشيء، ولذلك جاء في سورة الشورى التي تدعو إلى التشاور والمشاركة في الرأي والقرار جاء في السورة ذاتها بالرغم من ثنائها على الشورى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) جاء تقييد المشاركة في الآراء والقرارات بحدود الدين بحدود الشرع، وذلك في قوله تعالى في سورة الشورى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [الشورى: 21].
هذه الآية وردت في سورة الشورى كما ذكرت، ولذلك فإن الإسلام لا ينتظر قبول الناس لقبول ما ولا لقرار ما، ولو اجتمعوا عليه كي يسمح لهم بممارسته من باب الحرية، لا.
جاء في مجمع الزوائد عن أبي أمامة الباهلي بإسناد صحيح: أن فتى من قريش أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا؟! فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه، فقال صلى الله عليه وسلم: "أدنه"، فدنا منه قريبا، قال: فجلس، قال: "أتحبه لأمك؟" قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: "ولا الناس يحبونه لأمهاتهم"، قال: "أفتحبه لابنتك؟" قال: لا واللَّه يا رسول اللَّه جعلني اللَّه فداك، قال: "ولا الناس يحبونه لبناتهم"، قال: "أفتحبه لأختك؟" قال: لا واللَّه جعلني اللَّه فداك، قال: "ولا الناس يحبونه لأخواتهم"، قال: "أفتحبه لعمتك؟" قال: لا واللَّه جعلني اللَّه فداك، قال: "ولا الناس يحبونه لعماتهم"، قال: "أفتحبه لخالتك؟" قال: لا واللَّه جعلني اللَّه فداك، قال: "ولا الناس يحبونه لخالاتهم" قال: فوضع يده عليه، وقال: "اللَّهمّ اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحَصِّنْ فرْجَه"، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء.
هذا مثال يبين أن الفتى يريد شيئا يهواه قلبه مهما كان ذاك الشيء زنا خمر ربا معازف، أي منكر كان، المهم أنه يريد أن يكون اختياره لذلك المنكر مسموحا به شرعا، يريد حالة استثنائية له هو، ولذلك جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يدرك أن الزنا محرم ولكنه يريد حالة استثنائية له: يا رسول الله ائذن لي بالزنا؟ هو يدرك أن الزنا محرم لكنه يشتهيه ونفسه تميل إليه، ويرى أنه لا يقدر أنه يقاوم تلك الرغبة ربما غيره يقدر على المقاومة لكن هو لا يقدر هكذا يظن.
ولذلك خصص في طلبه غيره يستطيع أن يقاوم الزنا لكن هو لا، خصص في طلبه فقال: ائذن لي؟ ولم يقل: ائذن في الزنا على الإطلاق، لا، فقط لي أنا، أما غيري فيلزمه ما هو فيه من البعد عن الفاحشة.
وهنا يتجلى دين الإسلام في ضبطه للحريات في حفظه للعرض؛ لأن الضروريات التي تسعى الشريعة لحفظها خمس الدين والنفس والعقل والعرض والمال، فأي سلوك أو طلب يجرح أحداً من هذه الضروريات ممنوع ولا ينتظر المشورة ولا قبول الناس ولا استطلاع آرائهم هذا هو ديننا دين الإسلام دين الاستسلام دين الرشاد.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكن من كل ذنب...
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد:
فما أعظم قول من إذا حاججته وقلت له قال رسول الله، قال: لكن الإمام فلان قال كذا وكذا، والمذهب يقول كذا وكذا.
فهذه عظيمة إذ لا يحل لأحد أن يعارض قول النبي -صلى الله عليه وسلم- بقول أحد من المخلوقين كائنا من كان، فلا خيار بعد اختيار الشرع، ولذا نرى ابن عباس -رضي الله عنهما- لما عارضوه بما توهموه على أبي بكر وعمر، قال له: "يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله وتقولون قال أبوبكر وعمر؟!".
أيها الإخوة: لا استطلاع على محرم ولا رأي فيما هو ممنوع شرعا فنحن أمة التوحيد، أمة لا إله إلا الله، أمة تخضع لأمر الله -تعالى- ونهيه، ولا ترمي بهم عرض الحائط، حتى ولو كان الأمر صعبا على النفس.
ولقد أخرج مسلم عن أبي هريرة أنه قال لما نزلت: (وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ) [البقرة: 284] شدد ذلك على الصحابة فذكر الحديث في شكواهم ذلك الأمر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقوله صلى الله عليه وسلم: "تريدون أن تقولوا سمعنا أو مثل ما قال أهل الكتاب سمعنا وعصينا! قولوا: سمعنا واطعنا"، فقالوا: سمعنا وأطعنا، نزلت بعد ذلك: (آمَنَ الرَّسُولُ) [البقرة: 285] آخر السورة.
أسأل الله أن يصلح حالنا، وأن يثبتنا على طاعته...
التعليقات