عناصر الخطبة
1/نماذج رائعة في التوكل على الله في الرزق 2/علاقة التوكل بالرزق والمفهوم الحقيقي للتوكُّل 3/من مفاتيح الرزق: تفرُّغ القلب اثناء القيام بالعبادةاقتباس
اعلم -يا عبد الله- أن النفع والضر بيد الله، فلا تتذلَّل لمخلوق، وتبيع دينك بعَرَضٍ من الدنيا قليل، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا تحسد أحدًا على ما أعطاه الله، إنكم يا أهل الحسد أتعبتم أنفسَكم، ولا يكون إلا ما قدَّره الله، وإذا كنت واثقًا بالله متوكلًا عليه فلا...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شُرورِ أنفسِنا ومن سيئات أعمالنا، من يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِلِ الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا رسول الله. نحمدُك ربَّنا على ما أنعمتَ به علينا من نِعَمِكَ العظيمة، وآلائك الجسيمة؛ حيث أرسلتَ إلينا أفضلَ رُسلِكَ، وأنزلتَ علينا خيرَ كتبِكَ، وشرعتَ لنا أفضلَ شرائعِ دينِكَ. فاللهُمَّ لكَ الحمدُ حتى ترضى، ولك الحمدُ إذا رضيتَ، ولك الحمدُ بعد الرضا.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون: قد سبق الحديث في الخطبة الماضية عن مفاتيح الرزق، وتحدَّثنا عن مِفْتاح التوبة والاستغفار، ومِفْتاح تقوى الله -جل وعلا-، ومِفْتاح التوكُّل على الله، ولا يزال الحديثُ عن مفاتيح جديدة للرزق في خطبتنا اليوم.
تتمة مِفْتاح التوكُّل على الله: بعدما سبق الحديث عن قصة شقيق البلخي، هناك نماذج أخرى للمتوكِّلين من السَّلَف الصالح، ومنهم: عامر بن قيس قال: ثلاث آيات من كتاب الله استغنيتُ بهِنَّ على ما أنا فيه: قرأت قول الله -تعالى-: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[الأنعام: 17]، فعلمتُ وأيقنتُ أن الله إذا أراد بي ضرًّا لم يقدر أحدٌ على وجه الأرض أن يدفعه عني، وإن أراد أن يعطيني شيئًا لم يقدر أحدٌ أن يأخذه مني.
ما علاقة هذا بالرزق؟
اعلم أن النفع والضر بيد الله فلا تتذلَّل لمخلوق، وتبيع دينك بعَرَضٍ من الدنيا قليل، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا تحسد أحدًا على ما أعطاه الله، إنكم يا أهل الحسد أتعبتم أنفسَكم، ولا يكون إلا ما قدَّره الله، قال تعالى: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)[النساء: 54]، وقال: وقرأت قوله تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ)[البقرة: 152]، فاشتغلت بذكره جل وعلا عمَّا سواه.
لم يشتغل بالمسلسلات والجلوس في المقاهي يتبع الغادين والرائحين، رجل عمَّر وقتَه بذكر الله.
وقرأت قوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[هود: 6]، فعلمت وأيقنت وازددتُ ثقةً بأن رزقي لن يأخذه أحدٌ غيري.
إذا كنت واثقًا بالله متوكلًا عليه، فلا تخشَ أيَّ شيءٍ، ولا تخشَ أيَّ شخصٍ مهما كان مركزه أو حجمه، الثقة بالله تفويض الأمر لله، وهي: خلاصة التوكل على الله.
إذن، عنده مشكلة النفع والضر، ومشكلة الفراغ، ومشكلة الرزق وَجَدَ لها حلولًا بثلاث آيات من كتاب الله.
يا صاحبَ الهمِّ إنَّ الهمَّ مُنْفَرِجٌ *** أَبْشِرْ بخيرٍ فإنَّ الفارجَ اللهُ
اليأسُ يَقْطَعُ أحيانًا بصاحِبِهِ *** لا تَيْأسَنَّ فإنَّ الكافيَ اللهُ
اللهُ يُحْدِثُ بعدَ العُسْرِ مَيْسَرَةً *** لا تَجْزَعَنَّ فإنَّ القاسمَ اللهُ
إذا بُلِيتَ فثقْ باللهِ، وارْضَ بهِ *** إنَّ الذي يَكْشِفُ البَلْوَى هو اللهُ
واللهِ مَا لَكَ غيرُ اللهِ مِن أحَدٍ *** فحَسْبُك اللهُ في كلٍّ لكَ اللهُ
(حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)[آل عمران: 173] كلمة قالها إبراهيم -عليه السلام- لمَّا أُلْقِي في النار، فكانت النار بردًا وسلامًا عليه، وقالها أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة حمراء الأسد بعد غزوة أُحُد لمَّا: (قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)[آل عمران: 173]، قال أحد السلف: عجبتُ لمن ابتُلي بخوف كيف يغفل عن قول تعالى: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)، والله يقول بعدها: (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)[آل عمران: 174]، فها هو الحل لمن كَثُر عنده الخوف، ثم قال: وعجبت لمن ابتُلي بمكر الناس كيف يغفل عن قول تعالى: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)[غافر: 44]؟ والله يقول بعدها: (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا)[غافر: 45].
يعلِّمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خرجنا من المنزل أن نقول: "بسمِ اللهِ توكَّلتُ على اللهِ لا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا باللهِ، يُقالُ له: كُفِيتَ ووُقِيتَ وتنحَّى عنه الشَّيطانُ"(رواه البخاري)، فيكفيك الله ما أهمَّك من الرزق.
أيها الإخوة المؤمنون: من اعتمد على ماله قَلَّ، ومن اعتمد على عقله ضَلَّ، ومن اعتمد على جاهه ذَلَّ، ومن اعتمد على الله فلا ضَلَّ، ولا ذَلَّ، ولا قَلَّ.
اعلموا -عباد الله- أن المفهوم الحقيقي للتوكُّل هو الحركة والأخذ بالأسباب، سيدنا عمر -رضي الله عنه -رأى إبِلًا قد فشا فيها الجَرَبُ، فسأل صاحبَها عن إهماله لعلاجها، فقال: عندنا عجوز تدعو لها بالشفاء، فقال له: هلا جعلت مع الدعاء شيئًا من القَطِران؟ وكذلك نحن ندعو الله أن يرزقنا، ولكن لابد من ابتغاء الرزق، والسعي فيه.
فاللهمَّ إنا نسألك علمًا نافعًا ورزقًا طيبًا، وعملًا متقبلًا، وآخرُ دعوانا الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ وكفى، وصلى اللهُ وسلَّم على عبده المصطفى، وآله وصَحْبِه ومن اقتفى.
أما بعد: من مفاتيح الرزق: المفتاح الرابع: التفرُّغ لعبادة الله: ورُبَّ سائل يسأل: قبل قليلٍ طلبتَ منا أن ننطلق في الأخذ بأسباب الرِّزق، والآن تطلب منا التفرُّغ لعبادة الله، فكيف نُوفِّق بين الأمرين؟ قال تعالى في الحديث القدسي: "يقولُ الله ابْنَ آدَمَ! تَفَرَّغْ لعبادَتي؛ أمْلأْ صَدْرَك غِنًى، وأسُدَّ فَقْرَكَ، وإلا تَفْعَلْ؛ ملأْتُ صدرَك شُغْلًا، ولَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ"(صحيح الترغيب والترهيب)، وفي رواية: "إنَّ ربَّكُم -عزَّ وجلَّ- يقولُ: يا بنَ آدمَ تفرَّغْ لعبادتي أملأْ قلبَكَ غنًى، وأملأْ يدَك رزقًا، لا تتباعَدْ منِّي فأملأَ قلبَكَ فقرًا، وأملأ يدك شُغلًا"(السلسلة الصحيحة)، وليس معنى الحديث تركُ طلب الرزق، وإنما المُراد أنك في حال العبادة أفرغ قلبك لله، وتجرَّد من الدنيا، وأقْبِل على ربِّك يفتح لك أبوابَ الرِّزق؛ كما قال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)[طه: 132]، قال ابن كثير: يعني إذا أقمت الصلاةَ أتاك الرِّزقُ من حيث لا تحتسب، وهو كقوله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[الطلاق: 2-3].
ولكن إذا قضيت الصلاة وأفرغت قلبَك لله فيها كما أمِرتَ فانطلق للسعي في رزقك؛ كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[الجمعة: 9-10]، فالسعي لذكر الله عبادة، وترك البيع تفرُّغ للعبادة، وتركُ كل ما يشغل عنها، والانتشار في الأرض دِلالة على طلب الرزق.
فلا تجعل الدنيا أكبرَ همِّك، قال صلى الله عليه وسلم: "مَن كانت همَّه الآخرةُ جَمَع اللهُ له شَمْلَه، وجعل غِناهُ في قلبِه، وأَتَتْه الدنيا راغمةً، ومَن كانت همَّه الدنيا فَرَّق اللهُ عليه أمرَه، وجعل فقرَه بين عَيْنَيْهِ، ولم يَأْتِهِ من الدنيا إلا ما كتب اللهُ له"(صحيح الجامع).
فاللهُمَّ لا تجعل الدنيا أكبرَ همِّنا، ولا مبلغَ علمِنا، ولا غايةَ رغبتِنا، ولا إلى النار مصيرنا، ولا تُسلِّط علينا بذنوبنا مَنْ لا يخافُك ولا يرحمُنا.
التعليقات