عناصر الخطبة
1/الجوال من نعم الله على خلقه 2/اختلاف الناس في استخدام الجوال 3/آداب وإرشادات في استخدام الجوال 4/وسائل التواصل ما لها وما عليها 5/نصائح لاستخدام وسائل التواصل 6/من مضار وسائل التواصل.اقتباس
والداهية الدهياء حينما ينشغل الولد-ابنًا أو بنتًا- بجواله عن والديه، فقد يزورهما أو يزورانه، ليرياه ويسمعا منه، لكنه يعطيهما هامة رأسه ساجداً على صفحة جواله متخذاً له أبًا بدل أبيه، وأمًا بدل أمه!؛ لأنه هائم بمعشوقيه: الفيسبوك والواتساب...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسوله محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: ما زالت نعمُ الله -تعالى- بعباده متصلة، وسحائب آلائه إليهم مرسلة، تعمّ الأفراد منهم والمجموعات، وأهل الطاعات وذوي المعصيات؛ رحمة من الخالق لا باستحقاق المخلوق.
فلعل تلك العطايا السنية ترشد أصحاب القلوب الحية إلى شكر رب البرية، فيفردوه بالعبودية، وهم لم يزالوا يرون نعمه تطوقهم من كل جانب حتى عجزوا عن عدها، وإيقاف إقبال مَدّها، قال الكريم الرزاق: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)[إبراهيم: 34].
عباد الله: لقد كان الناس -إلى زمن قريب- يتواصلون فيما بينهم عند البعد بإرسال رسل ورسائل مكتوبة أو ملفوظة، مهنّين بها أو معزّين، أو مخبرين أو طالبين، أو معلّمين أو متعلّمين، أو آمرين أو ناهين، وغير ذلك من الحاجات التي قامت بها الرسائل والرسل مقام المرسل والمستقبل، فتقضى بذلك المآرب، وتتحقق بها المطالب، لكن التأخر والضياع والمشقات ظلّت مرافقة لتلك الوسيلة من التواصل.
ومع مرور الأيام، وكثرة الأنام، وتطور العلوم والمعارف، وعظم الحاجة للتواصل ألهم الله بعضَ عباده رحمة بهم، وإنعامًا عليهم إلى اكتشاف بعض الوسائل الجديدة التي تسهل لهم التواصل فيما بينهم، وتخفّف عنهم العناء الذي كان ملازمًا لهم، فكان من تلك الوسائل: اختراع الهاتف، الذي قرّب البعيد، وقلل الخسارة، وساعد في الإسراع إلى إنجاز الأعمال، والوصول إلى الآمال.
ومازالت هذه الوسيلة الاتصالية في تطور حتى وصلت إلى صناعة الهاتف الشخصي الذي يجول به الإنسان حيثما كان؛ ولذلك سمي بالجوال، فكان بهذا المصنوع تخفيفٌ كبير من مشقات الهاتف الثابت، فالحمد لله الذي علّم الإنسانَ ما لم يعلم.
أيها الأحبة الفضلاء: إن النعمة -أياً كانت- لا يستعملها الناس استعمالاً واحداً، بل يختلفون في استعمالها؛ فمنهم من يستعملها في الحلال، ومنهم من يستعملها في الحرام، ومن ذلك الجوال، فقد استخدمه بعض الناس في التوصل إلى الحرام من كفر أو قتل أو أخذ مال محظور، أو هتك عرض، أو تجسس على مسلم بريء، أو غير ذلك مما يوصل إلى الحرام.
ومن الناس من استخدمه في قضاء حاجاته المباحة، وصلة أرحامه وأقاربه وأصدقائه، وإن ترقّى في معارج الخير سخره في النصيحة والدعوة إلى الله -تعالى- والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعلم والتعليم النافعين، ونحو ذلك من مجالات الخير التي يساعد عليها الهاتفُ الثابت أو الهاتف الجوال, قال -تعالى-: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)[القصص: 77].
عباد الله: إنه لما عظمت الحاجة إلى هذه الوسيلة في حياتنا قلّ أن يوجد شخص لا يستعملها ولا يستفيد منها؛ لهذا كان لابد من التذكير ببعض الآداب الشرعية والتنبيهات الأخلاقية المحمودة التي توصل إلى الاستخدام الجيد، والاستفادة غير المضرة بالنفس أو بالآخرين, والحاجة إلى ذلك حاجة عامة، ولزوم هذه الآداب مما يهم المسلم المستخدم لهذه الوسيلة في حياته اليومية.
فمن تلك الآداب: أن تكون حيازة الجوال من مال حلال، كشراء أو مقابل عمل، أو هدية، أو وراثة، أو نحو ذلك، فلا يجوز استعمال جوال جاء من مصدر حرام، كسرقة أو نهب أو اختلاس أو رشوة أو لقطة غير معرَّفة, قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه"(رواه أبو داود).
ومن الآداب: استعمال تحية الإسلام -السلام عليكم ورحمة الله- عند الاتصال، ولدى الانتهاء منه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم، فإذا أراد أن يقوم فليسلم؛ فليست الأولى بأحق من الآخرة"(رواه أبو داود والترمذي وابن حبان), والجواب على المتصل بحرف: "نعم", لا "ألو" إذا كان الاتصال باللغة العربية.
ومن الآداب: اختيار النغمة المباحة، والهادئة؛ لأن نغمة الجوال تعبر عن شخصية صاحبه.
ومن الآداب: اختيار الأوقات المناسبة للاتصال، فالاتصال كالاستئذان له أوقات محددة لا تتجاوز، ومن الأوقات التي لا ينبغي الاتصال فيها: أوقات الصلوات، عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: كنا نسلم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في الصلاة فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه، فلم يرد علينا، وقال: "إن في الصلاة لشغلا"(رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه)، ومما يكره الاتصال فيه الساعات المتأخرة من الليل، وأوقات القيلولة، وكل وقت لا يحب المتصَل به استقبال المكالمات فيه، إلا في القضايا المهمة التي لا تحتمل التأخير والانتظار.
ومن الآداب: إغلاق الجوالات أو جعلها على الصامت عند دخول المساجد، أو الأماكن التي يكره عرفًا الانشغال فيها بالجوال اتصالاً ورداً.
ومن الآداب: التماس الأعذار للمتصَل به، إذا لم يستقبل المهاتفة؛ فقد يكون في حال تمنعه من الجواب، أو ظرف لا يحب معه الاستقبال للمكالمة، فالتماس الأعذار من شيم الكبار.
ومن الآداب: عدم كثرة الرنين على المتصَل به، فإن أجاب سريعًا وإلا فليكفّ المتصل عن ذلك، فهذا قد يدخل تحت قوله -تعالى-: (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)[النور: 28].
ومن الآداب: الحذر من استعماله في البحث عن النساء وملاحقتهن بالمكالمات أو الرسائل، فمن يفعل ذلك أو تسول له نفسه سلوك هذه السبيل المعوجة فليتذكر أن الله يراه، وليعلم أن خدش حرمات الناس دَين قد يستوفى من عرضه، ومن دقّ باب الناس دقوا بابه، وكما تدين تدان، والجزاء من جنس العمل.
عباد الله: فهذه جملة من الآداب للذكور والإناث بمنطوقها أو مفهومها، وهي تدل على غيرها من الآداب، ويضاف للمرأة خاصة: أن تتقي الله في اتصالها أو جوابها فلا ترقق صوتها أو تلينه؛ طلبًا لإعجاب الرجال وفتنهم، قال -تعالى-: (يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا)[الأحزاب: 32].
أيها المسلمون: وما برحت نعمة الجوال في تقدم من خدمة إلى خدمة، ومن تيسير إلى تيسير، حتى اكتشاف ما يسمى بالـ "فيسبوك" الذي يعمل على الحواسيب في ظل توفر الشبكة العنكبوتية، ثم أضيف بعد ذلك خدمةً في الجوالات الحديثة، ثم ما هي إلا مدة يسيرة حتى جاءت خدمة أخرى أضيفت للجوالات ألا وهي ما يعرف بالـ "الواتساب", وهاتان الخدمتان فيهما منافع كثيرة لمن يحسن استخدامهما في الخير، فهما من أعظم الوسائل الحديثة في الدعوة إلى الله -تعالى-، وبث الوعي الصحيح، والدفاع عن الحق وأهله، ومحاربة الأفكار المنحرفة.
وهما من الوسائل المهمة في التواصل مع الناس من أقارب وأصدقاء وزملاء وغيرهم, وهما من المنابع الغنية لتلقي المعلومات والمعارف المتعددة، بالضوابط العلمية والشرعية, وهما من السبل المعينة على البحث عن الأعمال والوظائف والدراسة، ونشر الخبرات والاستفادة منها، وترويج البضائع والمبيعات، وغير ذلك.
لكن هذه الفوائد والمنافع وغيرها مما لم يذكر هنا تخرج من بين فرث ودم؛ ولذلك كان لابد من التحصن بحصن آداب وأخلاق يتدرع بها المسلم من سهام مضار الفيسبوك والواتساب, فإليك أيها المستخدم لهاتين الخدمتين جملةَ آدابٍ تزينك عند الله -تعالى- وعند الناس, فمن ذلك:
عليك أن تتذكر أن كل كلمة تكتبها، وكل صورة تنشرها، وكل مقطع تبثه عبر جوالك إلى غيرك، أنها تصل إلى الله قبل أن تصل إلى الخلق، فانظر ماذا تكتب إلى الله، وماذا ترسل إلى الله؟ قال -تعالى-: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ)[الانفطار: 10 - 12].
وقال الشاعر:
وما من كاتب إلا ستبقى*** كِتابتهُ وإن فنيت يدَاهُ
فلا تكتب بكفِّك غير شيء *** يَسرّك في القِيامة أن تَراهُ
ومن الآداب: تثبّتْ قبل أن ترسِل، وتبّينْ قبل أن تنشر، فلا ترسل منشوراً، ولا صورة، ولا مقطعًا، إلا وتعلم صدقه، وصحة نسبته، ومن ذلك أخبار الصراعات السياسية، "فما آفة الأخبار إلا رواتها"! قال الله -تعالى-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)[الحجرات: 6].
وأعظم شيء يُتثبت فيه: النصوص الشرعية في الحلال والحرام، ومن ذلك الأحاديث، فخذها من المصادر العلمية الموثوقة، أو فاسأل أهل العلم العارفين عنها قبل أن تنشرها، فما أكثر الأحاديث المكذوبة المتداولة على الفيسبوك والواتساب، فاحذر أن يكون عملك "قص ولصق" من غير قراءة ومعرفة صحة المحتوى.
ومن الآداب: لا ترسل الروابط غير المعنونة؛ فقد يكون في باطنها شر وأنت لا تدري، أو قد يكون عنوان الرابط خلاف محتواه، فلا ترسل رابطًا إلا وقد فتحته وعرفت ما فيه.
ومن الآداب: أن يكون استعمالك هاتين الخدمتين كاستعمال الدواء في وقت الحاجة، فإياك من الإكثار والإسراف؛ لأن ذلك سيلهيك عن كثير من واجباتك الدينية والدنيوية.
ومن الآداب: البعد عن تقمص الشخصيات، خصوصًا تقمص الرجل شخصية امرأة، أو المرأة شخصية رجل؛ فإن هذا تشبه، وقد "لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال"(متفق عليه).
ومن الآداب: أن تحسن اختيار الصورة والحالة في جوالك وصفحتك؛ لأن ذلك يعبر عن شخصيتك وفكرك وميولك.
ومن الآداب: أحسن اختيارك أصدقائك؛ فإنهم جلساء, والجليس إما أن يكون جليس خير، وإما أن يكون جليس شر، وكلٌّ متأثر بجليسه، قال رسول -صلى الله عليه وسلم-: "المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل"(رواه أبو داود والترمذي).
ومن الآداب: كنْ حسنَ التعامل مع الناس، في خطابك وجوابك ورسائلك، قال -تعالى-: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)[البقرة: 83].
ومن الآداب: الحذر من تداول الرسائل التي فيها إلزام بعبادة من العبادات غير الواردة والتي تذيل بقولهم: "إن من لم ينشرها فسيحصل له كذا وكذا مما يكره، أو أنه ليس من محبي الرسول"..., بصيغ متعددة تدل على هذه النتيجة.
ومن الآداب: لا بأس بالمزاح المباحة، والمشاركة بالطرائف الصادقة التي ليس فيها طعن في الشرع، ولا أذية لأحد، وفي المباح المضحك ما يغني عن المكذوب المحظور، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قالوا: يا رسول الله ! إنك تداعبنا؟ قال: "إني لا أقول إلا حقاً"(رواه البخاري في الأدب المفرد والترمذي), وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب، ويل له ويل له"(متفق عليه).
أيها المسلمون: هناك قضية جزئية مهمة في هذا الموضوع تتعلق بإنشاء المجموعات في الواتساب والمشاركة فيها، فهذه لابد أن يكون فيها آداب على منوال ما سبق، فمن آدابها:
أولاً: أن على مدير المجموعة أن يعلم أنه مسؤول أمام الله -تعالى- عما يُنشر في مجموعته، قال رسول الله -عليه الصلاة والسلام-: "كلكم راع, وكلم مسؤول عن رعيته"(رواه أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي والبيهقي), فعليه أن يحسن اختيار الأعضاء، وعليه أيضًا أن يراقب ما ينشر في مجموعته، فينكر المنكر، ومن تجاوز الحدود الشرعية والمسارات الأخلاقية فلينصحه، فإن استمر في نشر الباطل فليخرجه بأدب ولطف.
وثانيًا: أن يعلم المضافون أن المجموعات كالمجالس لها آداب المجالس، فالمجموعة التي يكثر فيها السوء ينكر على من أساء فيها بآدب إنكار المنكر، فإن لم يُستجب لدعوة الإنكار الصحيح فالخروج هو طريق السلامة، قال -تعالى-: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[الأنعام: 68].
وثالثًا: التماس الأعذار للمخطئين، وحسن معالجة الأخطاء، فليس من الخلق الرفيع علاج الخطأ بخطأ أكبر منه، كالسباب والشتم واللعن والطعن والبهت.
رابعًا: الحذر من الاختلاط بين الجنسين؛ لأن ذلك له مضار كثيرة، ولو بعد حين، والطريق الصحيح أن تكون النساء مع النساء، والرجال مع الرجال، إلا في المجموعات العائلية الخاصة.
وخامسًا: على جميع الأعضاء أن يتحلوا بآداب الحديث والنقاش عند الحوار والاختلاف، وهذا من أهم الآداب في المجموعات، فالقول الحسن، وحسن الظن، وطيب الخطاب، والكلام بعلم، واحترام الآخرين ولو خالفوا في الرأي عنوان الشخصية الحوارية المؤثرة, قال -تعالى-: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)[النحل: 125]. وقال: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)[فصلت: 34].
وسادسًا: أن تنسب المنشورات إلى أهلها، وهذا أسلم للدين والعرض، فلا يجوز نسبة ذلك إلى النفس تصريحًا بكتابة الاسم، أو تلميحًا بعدم ذكر اسم صاحبه, فإذا لم يعرف صاحبه فيذيل بقول: "منقول" أو نحو ذلك, قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور"(متفق عليه).
وسابعًا: مشاركة الأعضاء في أفراحهم وأتراحهم، والحياة معهم بالمشاعر الحية، وتفقد منقطعهم، والسؤال عن غائبهم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد, إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"(رواه مسلم).
وثامنًا: حسن تسمية المجموعات, فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهى عن الأسماء القبيحة في الناس ويغيرها، ويأمر بالأسماء الحسنة ويثني عليها، كما عند ابن ماجه بمعناه، وعند أبي داود -وكلها صحيحة- كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل قرية سأل عن اسمها، فإن أعجبه اسمها فرح ورئي بشر ذلك في وجهه، وإن كره اسمها رئي كراهية ذلك في وجهه.
وثامنًا: إذا عرضت مسألة علمية في المجموعة فلا يخوض فيها من ليس لديه معرفة، وإنما تحال إلى أهل الاختصاص، فالطب للأطباء، والمسائل الشرعية لأهلها، ورحم الله رجلاً عرف قدر نفسه، وقد علم كل أناس مشربهم، فدع العجين لخبازها، وأعط القوس باريها.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
أيها المسلمون: تلك هي الصفحة الناصعة لخدمتي الفيسبوك والواتساب حينما يتمسك أهلهما بتلك الآداب النافعة، وتجتنى منهما تلك الثمار السابقة اليانعة, ولكن في الصفحة المقابلة نجد هاتين الخدمتين قد جرّت على من أساء استعمالهما المضرات والحسرات، والويلات والندامات على الأفراد وعلى الأسر وعلى المجتمعات, حتى صارتا تخدشان أو تهدمان جدران المعتقدات الصحيحة، وتنحرفان بالأخلاق المستقيمة، وتنشران الفساد بين الناس نشراً ذريعًا، وتسوقان إلى الرذيلة سوقًا شديدا.
فمن مضارهما الكثيرة: الوصول بمعاول الهدم إلى الفكر الصحيح، والسلوك القويم، فكم من إنسان اعوج معتقده، ومالت أعماله وآدابه الصافية إلى مهاوي مردية آسنة، سواء كانوا صغاراً أم كباراً، ذكوراً أم إناثًا.
ومن مضارهما: انتشار الزندقة والمجاهرة بها حتى لم يعد تتمعر وجوه بعض الناس لذلك؛ لكثرة ما ينشر من هذا الخبث والنتن.
ومن مضارهما: ترويج الفاحشة، وتسهيل طريق الوصول إليها، فكم من ضحايا من الرجال والنساء قادهم إلى أوحال الخطيئة الاستعمالُ السيئ لهاتين الخدمتين، وتمنوا أنهم ما عرفوهما.
ومن مضارهما: انتشار الطعن في أعراض الناس بالظلم والكذب، وإيذاؤهم والتشهير بهم.
ومن مضارهما: قطع الصلات بين الناس، فبدل أن تكونا وسيلتي اتصال صارتا سببي انفصال؛ لسوء التعامل، وجفاف المشاعر، فكم من أقارب بهما تباعدوا، وكم من أصدقاء بهما تعادوا، وكم من أحباب بهما تباغضوا.
ومن مضارهما: ذهاب رونق الاجتماع الأسري، فالأسرة كانت من قبل إذا اجتمعت تبادل أفرادها حلوَ الكلام، ولذة اللقاء، وكؤوس الابتسامات المترعة، وأنِسَ الوالدان بأولادهما، والأولاد بوالديهم، ولكن ماذا يجري الآن؟! تأملوا في المجالس التي تجمع الأقارب والأصدقاء! يصبح كل إنسان -ذكراً أو أنثى- غالبًا- ينظر إلى عالمه الصغير، ورفيقه الحبيب إلى جواله الذي يجول معه متناسيًا ما حوله، حتى يغدو المجتمعون كما قال الله -تعالى-: (فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)[الأنبياء: 33].
والداهية الدهياء حينما ينشغل الولد-ابنًا أو بنتًا- بجواله عن والديه، فقد يزورهما أو يزورانه، ليرياه ويسمعا منه، لكنه يعطيهما هامة رأسه ساجداً على صفحة جواله متخذاً له أبًا بدل أبيه، وأمًا بدل أمه!!؛ لأنه هائم بمعشوقيه: الفيسبوك والواتساب.
ومن مضارهما: تعكير العلاقات الزوجية، فعلى أقل سوء أنهما يشغلان كل شريك عن شريكه، حتى يصبح جوال الزوج ضرة للزوجة، وجوال الزوجة وظيفة لها تشغلها عن مهام بيتها وأولادها وزوجها, وعلى أكثر السوء أنهما أوصلا بعض الأزواج والزوجات إلى الخيانات الزوجية.
ومن مضارهما: أنهما أديا إلى تضييع الأعمال، وتفويت بعض المصالح، وشغلا عن الأمور الأكثر نفعًا.
ومن مضارهما: الإصابة بمرض الإدمان لدى بعض المستخدمين، فقد صاروا لا يقدرون على العيش بدونهما، ولا يطيب يومهم ولا ليلهم دون سجود طويل في محرابيهما.
فهذه الأضرا ر-معشر المسلمين- غيض من فيض، ونزر من كثر، وعينة من بضاعة زاخرة بالسيئات الكثيرة.
وفي الختام أقول: إنني لا أدعو إلى هجر هاتين الخدمتين وإخلاء الجو للفجرة والفسقة؛ لنشر الباطل من غير مدافع عن الحق يبين بطلان الباطل، ولكنني أدعو إلى الاستخدام الجيد، وصرف هذه النعمة في الخير.
فعلى من يحب ولوج بحار الفسبكة والواتسبة أن يدخلها بدِين متين يحثه على نشر الخير، ودفعِ الشر، وليكون له طوقَ نجاة إذا هاجت تلك البحار وتلاطمت أمواجها بالشر.
وأن يخوضها بعقل حصيف يميز له السمين من المهين، والضياء من الظلماء، والدُّر من الحجر, وأن يلجها بخلق كريم يحجزه عن القول الذميم، ويبقيه على الصراط المستقيم عند هبوب رياح التغيير للنهج القويم.
فمن وجد في نفسه ضعفًا وطبعًا اسنفجيًا فلا يسبح في هذه البحور، وليبقَ بعيداً عنها، فالسلامة لا يعدلها شيء.
ألا فليعلم واردُ هذه الموارد أنها سوق يربح فيها من يعرف البضاعة، وكيفيةَ المعاملة، ويخسر فيها الأعمى والأعشى والأحمق والباغي والجاهل والغافل والمدلس والمطفف, فما أعظم خسارة الخاسرين، (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)[الشعراء: 227].
هذا وصلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين, إمام المتقين, وقائد الغرِّ المحجلين وعلى ألهِ وصحابته أجمعين.
التعليقات