اقتباس
حاول الصليبيون بعدها عدة مرات الهجوم على دولة الأسد كمشتكين ففشلوا وتعرض قادتهم الواحد تلو الآخر لهزيمة فاضحة، حتى أيقن الصليبيون في النهاية استحالة المرور إلى الشام عبر الأناضول ما دام السلاجقة والتركمان موجودين...
التاريخ الإسلامي زاخر بالسماء اللامعة التي حققت أعظم الإنجازات في كل مجالات النهوض والحضارة، من قمة هرم الأمة الإسلامية حتى قاعدته. أسماء لقادة وعلماء وساسة وأطباء وفقهاء ومحدثين ودعاة وخطباء ومجاهدين ومفكرين إلى آخر سجل الأمة الحضاري الذي لا يمكن أن يُوجد مثله قط في أمة أو حضارة سابقة أو لاحقة.
بعض هذه السماء كُتب له حظ الانتشار والشيوع وعلو الذكر بين أجيال المسلمين المتلاحقة، حتى صارت أسماؤهم مقترنة بمجالاتهم، وعلماً على فنهم ومضمار إنجازهم، فإذا ذكر العدل توجهت الأذهان إلى عمر رضي الله عنه، وإذا ذكرت الشجاعة توجهت إلى علي رضي الله، وإذا ذكرت قيادة الجيوش توجت إلى خالد رضي الله عنه، وإذا ذُكر الطب ذُكر ابن سينا، وإذا ذُكرت الرياضيات ذُكر الخوارزمي، وإذا ذُكرت الجغرافيا ذُكر الإدريسي، وإذا ذُكرت الكيماء ذُكر جابر بن حيان، وإذا ذُكر الثبات في المحن، ذُكر الإمام أحمد بن حنبل، وهكذا في كل مجال وفن عبر تاريخ الأمة.
وفي المقابل هناك أسماء أشد لمعاناً وأكثر إنجازاً وأعظم أثراً لم تنل حظها من الشهرة والمجد وعلو الذكر، بحيث لا يكاد معظم المسلمين يعرفون عنها شيئاً، وذلك لأسباب كثيرة ملاكها الابعاد المتعمد لأبناء المسلمين عن تراث أجدادهم وتاريخ عظمائهم وأمجاد أسلافهم، وتشويه هذا التراث الحضاري العظيم خاصة في شقه المتعلق بالمواجهة مع خصوم الأمة، لتبقى عيون الشباب وقلوبهم معلقة بالرموز التافهة والقدوات المزيفة، فتنشأ الأجيال في خواء وتنتقل من فشل إلى فشل، والمستفيد الوحيد من ذلك كله خصوم الأمة وأعدائها التاريخيين.
صاحبنا واحد من هذا الصنف الثاني الذي تخفى سيرته وبطولاته وإنجازاته على الغالبية العظمى من المسلمين، بل تكاد سيرته وأخباره حصراً على الأكاديميين والمتخصصين في التاريخ! على الرغم من أنه يعتبر بحق أسطورة في البطولة والقيادة والشجاعة والحنكة السياسية والحربية والاستراتيجية. إنه الأسطورة كمشتكين أحمد بن طايلو الدانشمند الذي غير مسار الحروب الصليبية وأوقفها لأكثر من نصف قرن من الزمان ودفع الصليبيون لتاريخ مسار الحملات الصليبية من البر إلى البحر بعد أن قطع المسار البري عليهم ودفعهم لتغيير تكتيكاتهم القتالية. فمن هذا البطل الهمام الذي يعتبر أول من حقق انتصاراً حاسماً على الصليبيين، وأول من أسر ملك صليبي، وذلك قبل صلاح الدين الأيوبي بقرابة التسعين سنة!!
قيامة التركمان
كانت انتصار السلاجقة على البيزنطيين في ملاذ كرد سنة 463ه أفدح خطب نزل بالدولة البيزنطية منذ قيامها حتى أن المؤرخين الأوروبيين قارنوها بمعركة اليرموك الكبرى من حيث الروعة والنتائج والآثار، فقد فتحت هذه المعركة الطريق لتدفق المسلمين في منطقة آسيا الصغرى، وانتقالها من النصرانية إلى الإسلام، فقد أقام السلاجقة دولة بالأناضول عرفت باسم سلطنة سلاجقة الروم، فقد قام ألب أرسلان بعد المعركة بتعيين ابن عمه "سليمان بن قتلمش" حاكماً على الأراضي المفتوحة بالأناضول، وأذن للقبائل التركمانية التي كانت تقاتل تحت رايته أن تستوطن هذه المنطقة وتتوسع في أراضي وأملاك الدولة البيزنطية، وستلعب هذه القبائل دوراً هاماً ومحورياً في صدّ الحملات الصليبية الأولى على العالم الإسلامي بعد ذلك بسنوات قليلة.
منطقة الأناضول شهدت قيام أول مملكة مستقلة للتركمان منذ دخول التركمان في الإسلام في متصف القرن الرابع الهجري على أرجح الروايات التاريخية. وكان التركمان يعتمدون النظام القبلي القائم على الرعي والترحال من مكان لآخر لذلك لم يُعرف لهم دولة أو إمارة مستقلة، بل كانوا دائماً عناصر فاعلة في ساحة الأحداث بسبب شجاعتهم وبسالتهم في القتال والصمود في أصعب الظروف.
ظهور أسرة دانشمند
كان طايلو الدانشمند زعيم أحد القبائل التركمانية التي كانت تقاتل تحت راية السلطان السلجوقي الكبير" ألب أرسلان" وشهد معه انتصار ملاز كرد العالمي، وكان ألب أرسلان قد اعتمد على هذه القبيلة تحديداً في معرفة مكامن ضعف البيزنطيين في منطقة الأناضول، وأفضل الدروب والسكك الموصلة إلى قلاع البيزنطيين في الأناضول، حيث كانت لهم خبرة طويلة في الاحتكاك مع البيزنطيين ومحاربتهم حتى قبل ظهور السلاجقة وقيام دولتهم الكبرى قبل عشرين سنة.
ونظراً لجهود طايلو الدانشمند وقبيلته في انتصار ملاز كرد فقد كافأه السلطان ألب أرسلان بكتابة ميثاق وعهد يأذن له فيه بتملك كل البلاد التي سيفتحها التركمان في شمال ووسط الأناضول خاصة سيواس ونكسار وملطية-وكلها مدن استراتيجية وهامة عند البيزنطيين-وقد ضمن ألب أرسلان إلى طايلو أنه لن يتعرض أحد من السلاجقة لأملاك الدانشمنديين فيما بعد، فكان ذلك إيذاناً بقيام أول إمارة تركمانية مسلمة في العالم الإسلامي والتي ستكون بقدر الله وحكمته أول من تحقق انتصارات كبرى على الصليبيين، بل ستجبر الصليبيين على تغيير مسار حملاتهم الصليبية، وستكون أيضا سبباً مباشراً في تعطيل الحملات الصليبية لقرابة النصف قرن.
أسطورة الأناضول أحمد كمشتكين
ظل القائد طايلو التركماني يعمل قرابة الخمسة عشر سنة في جهاد متواصل ضد البيزنطيين واستطاع بمعاونة أبنائه وكانوا مثل أبيهم في الشجاعة والقتال، وعلى رأسهم ولده الأكبر أحمد كمشتكين من التوسع في شمال وشرق الأناضول، وأقام طايلو إمارة قوية اتخذ من مدينة نكسار الإستراتيجية عاصمة لها، ومات طايلو التركماني سنة 477 ه فخلفه ابنه الأمير أحمد كمشتكين والذي يعتبر فاتحة السعد على التركمان والمنطقة والمسلمين جميعاً لأنه جاء بقدر الله في وقت شديد الأهمية، إذ سيشهد إطلاق فتيل الحملات الصليبية الأشهر على العالم الإسلامي في القرون الوسطى.
ففي سنة 485ه توفي السلطان ملك شاه السلجوقي وكان بمثابة السد المنيع أمام خصوم الأمة في الشرق والغرب. وكانت وفاته إيذاناً بعقد مجمع كلير مونت الشهير والذي شهد إطلاق شرارة الحروب الصليبية على العالم الإسلامي. وما ساهم في تسريع وتيرة هذه الحملات الصليبية أن أبناء ملك شاه، محمد وبرك ياروق، تنازعوا على الحكم ودخلوا في حروب طاحنة ومريرة وتفرقت كلمة المسلمين وذهب ريحهم وانشغلوا بأنفسهم عن مواجهة عدوهم، فكانت النتيجة الحتمية والسنة الكونية القدرية ماضية في الأمة، "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا".
انطلقت أولى الحملات الصليبية على الشام بصورة عشوائية لذلك أُطلق عليها اسم حملة العامة أو الرعاع، فسلكت الطريق البري للوصول إلى بيت المقدس والشام عبر منطقة الأناضول، فاصطدمت مع قوات سلاجقة الروم وقائدهم "سليمان بن قتلمش" فأباد الحملة الصليبية عن بكرة أبيها على أبواب قونية.
بعد هذا الانتصار الساحق للسلاجقة زاد ضغطهم وضغط أحمد كمشتكين على أملاك البيزنطيين في الأناضول، ووصلت جيوشه إلى مناطق أقصى شمال الأناضول حتى ساحل البحر الأسود، وبينما الأمير كمشتكين يوسع إمارته ويرسى دعائمها على حساب البيزنطيين في تلك المناطق، إذ فوجئ بمجيء الحملة الصليبية النظامية الأولى التي جاءت بتنسيق ودعم كبير من الإمبراطور البيزنطي أليكسوس كومنين لتخفيف ضغط سلاجقة الروم والدانشمنديين على دولته.
دوريليوم الأولى والهزيمة الطارئة
الحملة الصليبية النظامية الأولى (1096-1099م) كانت ضخمة وبلغ تعدادها قرابة المليون مقاتل، واشترك فيها عدة أمراء وكونتات من فرنسا وألمانيا وانجلترا وغيرهم ، وكانت أكثر دربة وتنظيما وخبرة من الحملة السابقة، حيث أجبرت سلاجقة الروم على الانسحاب من غرب الأناضول بعد هزيمتهم الطارئة في معركة دوريليوم قرب منطقة إسكي شهير فأعاد البيزنطيون الاستيلاء عليها، واتجه قادة الصليبيين جنوبا فاستولوا على أنطاكية والرُّها وطرابلس الشام وغيرها من مناطق الساحل الشامي، وانتهى بهم المطاف بالاستيلاء على بيت المقدس في قلب فلسطين بعد ارتكاب أفظع مذبحة عرفها المسلمون وقتها، وراح فيها سبعون ألفا من سكان المدينة، وذلك سنة 492هـ/1099م.
ومن أبرز تداعيات الحملة الصليبية الأولى على بلاد الشام بعد سقوط بيت المقدس؛ ظهور شخصية صليبية خطيرة تفيض عداوة وتضطرم انتقاماً وكراهية على الإسلام والمسلمين، وهو الأمير الإيطالي" بوهمند الأول" والذي قاد انتصار الصليبيين على السلاجقة في دوريليوم، وأصبح أميراً على إمارة أنطاكية الصليبية.
كان هذا الأمير الصليبي مسكوناً بهواجس وأكاذيب اضطهاد المسلمين للنصارى، مشحوناً حتى الثمالة بمواعظ البابا الداعية لمحاربة المسلمين وقتلهم أينما وجدوا، كما أنه كان مهووساً بالسلطة وعنده مشاريع توسعية وأحلام تكوين إمبراطورية صليبية نورماندية على غرار الدولة البيزنطية، وقد ورث هذه الأحلام عن أبيه دوق نورمانديا، واشترك معه في حروب طاحنة ضد البيزنطيين وأجبرهم على التنازل عن العديد من املاكهم في اليونان، ولم يتوقف القتال بينه وبين البيزنطيين إلا بواسطة البابا" أوربان الثاني" وذلك من أجل توحيد الصف للحملات الصليبية الشهيرة.
شرع هذا الأمير الصليبي الخطير في توسيع نفوذ إمارته الصليبية بالعدوان على المناطق الإسلامية المحيطة به، وكان يطمع في السيطرة على مدينة حلب القريبة والكبيرة، وهي المدينة التي تعتبر معقل شمال الشام، وباستيلاء الصليبيين عليها ستصبح كامل بلاد الشام في الشمال والجنوب حتى دمشق في قبضته.
وبينما يستعد الصليبيون لإطباق حصارهم على حلب، جاءت استغاثة عاجلة من أمير مدينة ملَطية الأرمني في الأناضول يطلب النجدة العاجلة من حليفه بوهمند، كي يخلصه من حصار الأمير كمشتكين ويعلمه أنه إذا لم تأت له النجدة العاجلة ستسقط المدينة، وكانت مدينة ملطية بالغة الأهمية بالنسبة للصليبيين؛ ذلك لأنها تقع في شمال حلب وأنطاكية والرها، وباستيلاء الأمير أحمد التركماني عليها سيتمكن المسلمون من تطويق إمارة أنطاكية الصليبية.
ضربة الأسد كمشتكين
لم يكن مقام كمشتكين في المنطقة وجهاده ضد البيزنطيين طيلة ثلاثين سنة بالشيء الهين واليسير، بل جاء نتيجة تعب وصبر وثبات وحكمة وشجاعة وحنكة صقلتها التجارب وخبرة راكمتها السنون والحوادث. لذلك لم يكن خافياً على كمشتكين تحركات الصليبيين في أنطاكية وطموحات بوهمند التوسعية ومشاريعه ضد حلب، لذلك ضغط منذ البداية على مدينة ملطية لتطويق أنطاكية، واستعد جيداً لكل الاحتمالات الناجمة عن هذا العمل العسكري الذكي والجريء. فبث عيونه وجواسيسه في المنطقة فنقلت له أخبار تحرك بوهمند الصليبي، فأسرع بقواته وكمن في التلال الواقعة بين ملطية ووادي إميتسو أو إكسو -أحد الفروع العليا لنهر الفرات-وانتظر وصول الصليبيين للانقضاض عليهم وهم غارون.
وفي شهر رمضان سنة 493هـ/أغسطس/ 1100م، من أعالي التلال، انقض كمشتكين برجاله على القوات الصليبية وسرعان ما طوقها، وسنحت الفرصة لأول مرة للمسلمين للانتقام مما فعله الصليبيون بمسلمي بيت المقدس، فأنزل المسلمون سيوفهم في رقاب الصليبيين فحصدوهم حصدا، وقتلوهم بمن فيهم أسقفا أنطاكية، ووقع بوهمند وابن عمه ريتشارد وكبار الفرسان الصليبيون في أسر الأمير كمشتكين.
كان هذا أول انتصار يحققه المسلمون على الصليبيين على الإطلاق، وزيادة على ذلك تم أسر أكبر أمير صليبي وأكثرهم خطورة وضرر، مما أدى لحدوث رنة شديدة في العالم الصليبي، في حين وللأسف الشديد لم يلق نفس الأثر في العالم الإسلامي ولا حتى في المراجع التاريخية بسبب التركيز في تلك الفترة على الصراع الدامي بين أبناء السلطان ملك شاه على الحكم.
معركة مرسيفان الملحمية
الصدمة كانت شديدة على الصليبيين في الشام وإخوانهم في أوروبا فسارع البابا "باسكال الثاني" بالدعوة لحملة صليبية جديدة لإنقاذ الوجود الصليبي بالشام والذي تعرض لضربة موجعة من الأسد كمشتكين التركماني، فحشد الصليبيون قرابة الثلاثمائة ألف مقاتل وسار بالطريق البري لإنقاذ الوجود الصليبي الوليد بالشام، وانطلقت هذه الجموع العسكرية الهادرة شرقي بحر مرمرة في يونيو 1101م / 494هـ، ومع الوقت غلب عليها الطابع الشخصي وطلب الثأر من الأسد كمشتكين واستنقاذ بوهمند من أسره، غير أن كثيرا من قادة الحملة والإمبراطور البيزنطي نفسه رأوا أن الدخول في صدام مع الأمير كمشتكين والتوغل في الأناضول أمر محفوف بالمخاطر، لكن الطليان -عشيرة بوهمند- لم يسمعوا، وقرروا بكل حماسة المضي قدما نحو مدينة نكسار عاصمة دولة الأمير كمشتكين حيث معتقل الأمير بوهمند الصليبي وكان قرارا عسكريا غير مدروس دفعوا ثمنه غالياً جداً.
فقد وضع الأمير كمشتكين خطة عسكرية بارعة استطاع من خلالها ببضعة آلاف من المسلمين الانتصار على هذا الجيش الصليبي الجرار باستدراجه نحو كمين تم نصبه ببراعة وإحكام بعيداً عن المدن المسلمة لتجنب الخسائر البشرية في جانب المسلمين وخوفاً من تكرار مذبحة بيت المقدس، خاصة وأن الطليان اللمبارديين متعطشين للدماء وفي غاية الوحشية والبربرية.
أمر الأمير كمشتكين بإجلاء المسلمين عن طريقهم، وحرق الزروع والثمار وطم الآبار كي لا يستفيدوا بأي منها، فيصيبهم التعب والعطش في أيام الصيف الحارقة، ونصب لهم الكمائن على طول الطريق، فأصابت هجمات قواته الخاطفة وقتلت الكثير من الصليبيين، ورغم ذلك استطاع الصليبيون بسبب حشودهم الهادرة من الاستيلاء على أنقرة وكانت ضمن أملاك سلطان سلاجقة الروم، وقتلوا أهلها، وأعادوها لسلطة البيزنطيين كم هو متفق بين الفريقين.
اتجه الصليبيون بعد ذلك صوب أملاك كمشتكين في شمال ووسط وشرق الأناضول، وكان هدفهم الأكبر الاستيلاء على نكسار عاصمة بني دانشمند، وكان الوقت حينذاك شديد القيظ والحرارة في شهر يوليو، وقد أشرفت الأقوات على النفاد بسبب عدم قدرتهم على الإمداد والتمويل؛ بسبب خطة كمشتكين الذكية التي حرمتهم من نهب خيرات المسلمين، فقرر الصليبيون العودة إلى القسطنطينية؛ عاصمة البيزنطيين للتزود والاستراحة وإعادة الكرة في الربيع.
في طريق العودة إلى القسطنطينية ثار الفرسان اللمبارد مرة أخرى وقرروا الهجوم على مدينة نكسار لتحرير زعيمهم بوهمند والانتقام لهزيمته وأسره على يد المسلمين، وخالفوا أوامر قادة الحملة وعادوا أدراجهم للهجوم على المدينة. وهنا أدرك كمشتكين أن ثمة معركة فاصلة لا بد منها، فقرر الاستنجاد بالقادة السلاجقة في حلب وقونية وحران، وكلهم دعّموه بالعساكر اللازمة، فقد كانت معركة مصيرية لهم جميعا، وأخيرا وفي شوال سنة 494هـ/أغسطس1101م، وصلت هذه الحشود الصليبية إلى منطقة مرسيفان -في تركيا اليوم- وبعد مناوشات جانبية لمدة يومين التحم الجيشان الإسلامي والصليبي -رغم التفاوت الضخم- بينهما في قتال دومي بالغ الضراوة ظهر فيه صدق معدن المسلمين، حيث البسالة والشجاعة والصمود وقيم الإيمان وعدالة القضية وسلامة العقيدة، فأنزل المسلمون بقيادة الأمير كمشتكين هزيمة ساحقة بمقدمة الجيش من قوات اللمبارديين الطليان الذين ولوا الأدبار، فانفرط عقد الصليبيين، ثم هاجم قوات الألمان فسحقوهم واستطاع من بقي منهم الفرار بأعجوبة، لكن المسلمون تعقبوهم وحاصروهم وأبادوهم عن بكرتهم، ثم تقدموا صوب المعسكر الصليبي فحصدوا المشاة الصليبيين بعدما قتلوا جميع الفرسان، وغنموا كل ما بقي في معسكر الصليبيين، وكانت هزيمة مزلزلة قاسية لاقت أصداءها في أوروبا؛ بسبب ضخامة أعداد الصليبيين التي سقطت في أرض المعركة والتي قُدّرت بـ 90% من كامل القوات الصليبية.
حاول الصليبيون بعدها عدة مرات الهجوم على دولة الأسد كمشتكين ففشلوا وتعرض قادتهم الواحد تلو الآخر لهزيمة فاضحة، حتى أيقن الصليبيون في النهاية استحالة المرور إلى الشام عبر الأناضول ما دام السلاجقة والتركمان موجودين، وتوقفت الحملات الصليبية لأكثر من خمسين سنة؛ لعدم قدرة الصليبيين على الهجوم البري بسبب السلاجقة والتركمان، وعدم استعدادهم البحري لسلوك الطريق البحري، حتى أن الحملة الصليبية التالية كانت سنة 542ه أي بعد مرور حوالي خمسين سنة من هزيمة مرسيفان القاسية.
التعليقات