عناصر الخطبة
1/تاريخ معركة شقحب وأحداثها 2/أسباب ضعف وجود النصارى في بلاد الشام 3/مواقف تاريخية بطولية لابن تيمية في معركة شقحب4/الدروس والعبر المستفادة من معركة شقحباهداف الخطبة
اقتباس
من المعلوم: أن بلاد المسلمين قد تعرضت إلى أخطار من جهة أوروبا النصرانية التي جيّشت الجيوش، وسيّرت الحملات الصليبية تلو الحملات، وجاءت هذه القوى الباغية المعتدية إلى ديار المسلمين، فعاثت في الأرض فساداً، وأهلكت الحرث والنسل، وانتهى بها الأمر إلى أن...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله ...
أما بعد:
لا تزال حادثة سقوط بغداد سنة ست وخمسين وستمائة غُصّة في صدر كل مسلم، وشجاً في حلق كل مؤمن، إن ذِكرها ليحدث رعشة في القلب، وإن جراحاتها ما تزال تنـزف دماً في أعماق قلوبنا.
ولا يستطيع دارس أحداث هذه العصور أن ينسى الآلام والمآسي التي تجرعها المسلمون في تلك الحقبة، فيكاد يذوب قلب المسلم أسفاً وكمداً، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولكن الشخصية المسلمة كانت ما تزال متماسكة، وأركان المجتمعكانت على الأغلب قائمة على معانٍ أصيلة من الإسلام، ولذلك فسرعان ما كان الثأر واسترداد الكرامة في معركة عين جالوت التي كانت سنة 658هـ، ولم يمض وقت طويل حتى دان الغزاة بدين أهل البلاد المغلوبين -دين الإسلام-، وإن لم يتخلوا عن همجيتهم وعدوانهم وشرهم.
ثم كانت معركة انتصر فيها المسلمون انتصاراً عظيماً، وربما كانت أقل شهرة من المعارك التي سبقتها، وهي معركة شَقحَب.
في اليوم الثاني من رمضان سنة اثنتين وسبعمائة للهجرة وقعت هذه المعركة بين المسلمين والمغول.
وكان عدد الجيش المغولي الذي اشترك في هذه الموقعة كبيراً، إن معركة شَقحَب سلسلة في حلقة من الهجمات المغولية على ديار الإسلام.
لقد كان السبب الذي حرّك المغول في معاركهم واحتلالاتهم واحداً، سواء كان فيما سبق سقوط بغداد أو كان بعدها.
فمن المعلوم: أن بلاد المسلمين قد تعرضت إلى أخطار من جهة أوروبا النصرانية التي جيّشت الجيوش، وسيّرت الحملات الصليبية تلو الحملات، وجاءت هذه القوى الباغية المعتدية إلى ديار المسلمين، فعاثت في الأرض فساداً، وأهلكت الحرث والنسل، وانتهى بها الأمر إلى أن تقيم في قلب العالم الإسلامي دولاً؛ منها إمارات: الرها وأنطاكية وبيت المقدس وطرابلس، واستمر وجود الصليبيين في بلاد المسلمين قرابة قرنين، وقد أدرك المسلمون خطورة بقاء هذه الإمارات الصليبية في بلادهم، واستيقظ وعيهم، فقامت حركة الجهاد يذكيها علماء الأمة ومصلحوها، وتجاوب الناس معها، فكان توحيد الجبهة الإسلامية غرضاً مهماً، وكان لعماد الدين فضل كبير في تحقيق ذلك، ثم جاء صلاح الدين الأيوبي، فاستطاع أن يقطف ثمرة جهاد الرجل العظيم نور الدين، وانتصر في معركة حطين، واستطاع أن يطهر معظم بلاد الشام من رجس الصليبيين.
واسترد المسلمون بيت المقدس، وكل ما كان بأيدي النصارى من قلاع وحصون، ولم يبق للصليبيين إلا جيوب يسيرة في أنطاكية وطرابلس والساحل بين صور ويافا.
في هذا الوقت ظهرت حركة المغول في أقصى الشرق، بزعامة جنكيز خان.
إن الوجود النصراني في بلاد الشام تضعضع بتوفيق الله، ثم بسبب اليقظة التي بدأت تظهر، ثم بسبب وجود بعض العمالقة من أمثال نور الدين وصلاح الدين، ثم بسبب قيام عدد من رجال الفكر والعلم والتوجيه بواجبهم.
وانهار هذا الوجود النصراني بعد معركة حطين، وغيرها، عند ذلك فكر النصارى بأسلوب أكثر قوة وأشد عوداً وأشنع وحشية وبربرية، فلم يجدوا إلا التتار.
وقد اتجهت النصرانية نحو المغول، راغبةً في استمالتهم، وعقد أواصر الصداقة معهم؛ لكسبهم إلى النصرانية أولاً، وللاستعانة بهم ضد أعدائهم المسلمين ثانياً.
وهولاكو كانت له زوجة نصرانية، وبسببها عامل النصارى من رعاياه معاملةً حسنة، ولما فتح بغداد أعفى أهلها النصارى من القتل.
ولما فتح المغول في عهده دمشق ودخلوها، تساهلوا مع النصارى من أهلها، حتى أصبحوا نتيجة لهذا التساهل يشربون الخمر علناً في رمضان، ويرشونها على المسلمين، كما صاروا يمرون في الطرقات وهم يحملون الصلبان، ويجبرون المسلمين على احترامها وإجلالها.
لقد كان النصارى في أوروبا يأملون في أن يعتنق المغول النصرانية، وأن يتم التحالف بينهم، وأن يوجهوا ضربة قاصمةً للإسلام، غير أن هذه الآمال لم تلبث أن تبددت بفضل من الله، ثم بسبب جهود دولة المماليك في مصر والشام، وإنزال الهزيمة الساحقة بالمغول في معركة عين جالوت في رمضان 658هـ، فتحطمت الأسطورة القائلة: "إن المغول قوة لا تقهر".
إن السبب في سير هذه الحملة التي وقعت فيها معركة شقحب كان رغبة قازان في تحطيم سلطان المسلمين في مصر، واسترداد الأرض المقدسة، وتسليمها إلى النصارى، وقازان كان يريد السير بنفسه على رأس تلك الحملة، ولكن تهديد حدوده الشرقية أدى إلى أن ينيب عنه قطلوشاة، الذي تعاون مع النصارى، ولا سيما الأرمن الذين كانوا يشكلون قوة كبيرة في جيشه، وقد استولوا على عدد من مدن المسلمين، وقتلوا فيها ومثلوا ونهبوا، وفعلوا الأفاعيل البالغة في الفظاعة والشناعة.
كان الرعب الذي يرافق تحركات المغول شديداً، يملأ صدور الناس ويوهن من قواهم، فكلما سمع الناس قَصْدَهم إلى بلد فروا من مواجهتهم وقد سهّل هذا الرعب لهؤلاء الغزاة المعتدين سبيل النصر والغلبة.
وكان الخليفة المستكفي بالله والسلطان الناصر مقيمين في مصر، ويبدو أن أخبار عزم التتار على تجديد حملاتهم لدخول بلاد الشام وإزالة دولة المماليك بلغ المسؤولين في مصر، فعمل العلماء وأولو الفكر والرأي على إشراك الخليفة والسلطان في مواجهة هؤلاء الغزاة، وقام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بمهمة جسيمة في هذا المجال.
ففي شهر رجب من سنة 702هـ قويت الأخبار بعزم التتار على دخول بلاد الشام، فانزعج الناس لذلك، واشتد خوفهم جداً، كما يقول الحافظ ابن كثير، وقنت الخطيب في الصلوات، وشرع الناس في الهرب إلى الديار المصرية والكرك والحصون المنيعة، وتأخر مجيء العساكر المصرية، فاشتد لذلك الخوف.
ووصل التتار إلى حمص وبعلبك، وعاثوا في تلك البلاد فساداً، وقلِق الناس قلقاً عظيماً لتأخر قدوم السلطان ببقية الجيش، وخافوا خوفاً شديداً، وبدأت الأراجيف تنتشر وشرع المثبطون يوهنون من عزائم المقاتلين، ويقولون: لا طاقة للمسلمين بلقاء التتار؛ لقلة المسلمين، وكثرة التتار، وزينوا للناس التراجع والتأخر.
ولكن تأثير العلماء، ولاسيما شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كان يتصدى لهؤلاء المرجفين المثبطين، حتى استطاعوا أن يقنعوا الأمراء بالتصدي للتتار مهما كان الحال.
واجتمع الأمراء وتعاهدوا وتحالفوا على لقاء العدو، وشجعوا أنفسهم ورعاياهم ونودي بالبلد دمشق أن لا يرحل منه أحد، فسكن الناس وهدأت نفوسهم، وجلس القضاة بالجامع يشجعون الناس على القتال، وتوقدت الحماسة الشعبية، وارتفعت الروح المعنوية عند العامة والجند، وكان لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أعظم التأثير في ذلك الموقف، فلقد عمل على تهدئة النفوس، حتى كان الاستقرار الداخلي عند الناس، والشعور بالأمن ورباطة الجأش.
ثم عمل على إلهاب عواطف الأمة، وإذكاء حماستها، وتهيئتها لخوض معركة الخلاص، ثم توجه بعد ذلك ابن تيمية إلى العسكر الواصل من حماة، فاجتمع بهم فأعلمهم بما تحالف عليه الأمراء من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يَحلِف للأمراء والناس: "إنكم في هذه المرة منصورون" فيقول له الأمراء: "قل إن شاء الله" فيقول: "إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً".
وكان يتأول في ذلك أشياء من كتاب الله، منها قول الله -تعالى-: (ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ)[الحـج: 60].
وقد ظهرت عند بعضهم شبهات تفت في عضد المحاربين للتتار، من نحو قولهم كيف نقاتل هؤلاء التتار، وهم يظهرون الإسلام، وليسوا بغاة على الإمام، فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه، فرد شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- هذه الشبهة قائلاً: "هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على عليّ ومعاوية-رضي الله عنهما-، ورأوا أنهم أحق بالأمر منهما، وهؤلاء يزعمون أنهم أحق من المسلمين وهم متلبسون بالمعاصي والظلم".
فانجلى الموقف وزالت الشبهة، وتفطن العلماء والناس لذلك، ومضى يؤكد لهم هذا الموقف، قائلاً: "إذا رأيتموني في ذلك الجانب -يريد جانب العدو- وعلى رأسي مصحف فاقتلوني فتشجع الناس في قتال التتار، وقويت قلوبهم".
وامتلأت قلعة دمشق والبلد بالناس الوافدين، وازدحمت المنازل والطرق، وخرج الشيخ ابن تيمية -رحمه الله- من دمشق صبيحة يوم الخميس من باب النصر بمشقة كبيرة، وصحبته جماعة كبيرة؛ ليشهد القتال بنفسه وبمن معه، فظن بعض الرعاع أنه خرج للفرار، فقالوا: أنت منعتنا من الجفل، وها أنت ذا هارب من البلد، فلم يرد عليهم إعراضاً عنهم، وتواضعاً لله، ومضى في طريقه إلى ميدان المعركة.
وخرجت العساكر الشامية إلى ناحية قرية الكُسوة.
ووصل التتار، فانزعج الناس لذلك، وخافوا أن يكون العساكر قد هربوا، وانقطعت الآمال، وألح الناس في الدعاء والابتهال في الصلوات وفي كل حال.
وذلك في يوم الخميس التاسع والعشرين من شعبان.
فلما كان آخر هذا اليوم وصل أحد أمراء دمشق، فبشر الناس بأن السلطان قد وصل وقت اجتماع العساكر المصرية والشامية.
وتابع التتار طريقهم من الشمال إلى الجنوب، ولم يدخلوا دمشق، بل عرجوا إلى ناحية تجمع العساكر، ولم يَشغلوا أنفسهم باحتلال دمشق، وقالوا: إن غَلبنا فإن البلد لنا، وان غُلبنا فلا حاجة لنا به.
وحيل بين الناس وبين خبر الجيش، وانقطعت الطرق إلى الكُسوة وظهرت الوحشة على البلد والحواضر، وليس للناس شغل غير الصعود إلى المآذن ينظرون يميناً وشمالاً، وإلى ناحية الكسوة، فتارةً يقولون: رأينا غبرة، فيخافون أن تكون من التتر، ويتعجبون من الجيش مع كثرتهم وجودة عُدّتهم وعددهم أين ذهبوا؟
فلا يدرون ما فعل الله بهم، فانقطعت الآمال، وألحّ الناس في الدعاء والابتهال، وفي الصلوات وفي كل حال، وكان الناس في خوف ورعب لا يعبر عنه، لكن كان الفرج من ذلك قريباً، ولكن أكثرهم لا يعلمون: "عجب ربك من قنوط عباده، وقرب غِيَرِه، ينظر إليكم أزلين قنطين، فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب".
وأثبت الشهر ليلة الجمعة القاضي تقي الدين الحنبلي، فعُلقت القناديل، وصليت التراويح، واستبشر الناس بشهر رمضان وبركته، وأصبح الناس يوم الجمعة في همّ شديد وخوف أكيد؛ لأنهم لا يعلمون ما خبر الناس.
أصبح الناس يوم السبت على ما كانوا عليه من الخوف وضيق الأمر، فرأوا من المآذن سواداً وغبرة من ناحية العسكر والعدو، فغلب على الظنون أن الوقعة في هذا اليوم، فابتهلوا إلى الله -عز وجل- بالدعاء في المساجد والبلد، وضج البلد ضجة عظيمة، ووقع في ذلك الوقت مطر عظيم غزير، ثم سكن الناس، فلما كان بعد الظهر قرئت بطاقة بالجامع تتضمن أن في الساعة الثانية من نهار السبت هذا اجتمعت الجيوش الشامية والمصرية مع السلطان في شقحب، وفيها طلب الدعاء من الناس والأمر بحفظ القلعة والتحرز على الأسوار، فدعا الناس في المآذن والبلد، وانقضى النهار وكان يوماً مزعجاً هائلاً.
ووقفت العساكر قريباً من قرية الكُسوة، فجاء العسكر الشامي، وطلبوا من شيخ الإسلام ابن تيمية أن يسير إلى السلطان يستحثه على السير إلى دمشق، فسار إليه، فحثه على المجيء إلى دمشق بعد أن كاد يرجع إلى مصر، فجاء هو وإياه جميعاً، فسأله السلطان أن يقف في معركة القتال، فقال له الشيخ ابن تيمية: السنة أن يقف الرجل تحت راية قومه، ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معهم.
وحرّض السلطان على القتال، وبشره بالنصر، وجعل يحلف بالله الذي لا إله إلا هو: إنكم منصورون عليهم في هذه المرة، فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً.
وأفتى الناس بالفطر مدة قتالهم، وأفطر هو أيضاً، وكان يدور على الأجناد والأمراء، فيأكل من شيء معه في يده، ليُعلمهم أن إفطارهم ليتقووا به على القتال أفضل من صيامهم.
ونظم المسلمون جيشهم أحسن تنظيم في سهل شقحب، وكان السلطان الناصر في القلب، ومعه الخليفة المستكفي بالله والقضاة والأمراء.
وقبل بدء القتال اتُخذت الاحتياطات اللازمة، فمر السلطان ومعه الخليفة والقرّاء بين صفوف جيشه، بقصد تشجيعهم على القتال، وبث روح الحماسة فيهم.
وكانوا يقرؤون آيات القرآن التي تحض على الجهاد والاستشهاد.
ولما اصطفت العساكر والتحم القتال، ثبت السلطان ثباتاً عظيماً وأمر بجوادهفقُيّد حتى لا يهرب، وبايع الله -تعالى- في ذلك الموقف يريد إحدى الحسنيين، إما النصر وإما الشهادة في سبيل الله، وصدق الله فصَدَقَه الله.
وجرت خطوب عظيمة، وقتل جماعة من سادات الأمراء يومئذ.
واحتدمت المعركة، وحمي الوطيس، واستحر القتل، واستطاع المغول في بادئ الأمر أن يُنـزلوا بالمسلمين خسارةً عظيمة، فقُتل من قُتل من الأمراء، ولكن الحال لم يلبث أن تحول بفضل الله -عز وجل-، وثبت المسلمون أمام المغول، وقَتلوا منهم مقتلة عظيمة، وتغيّر وجه المعركة وأصبحت الغلبة للمسلمين، وبقوا هناك طوال الليل، ولما طلع النهار نزلوا يبغون الفرار بعد أن ترك المسلمون ثغرة في الميسرة ليمروا منها، وقد تتبعهم الجنود المسلمون وقتلوا منهم عدداً كبيراً، كما أنهم مروا بأرض موحلة، وهلك الكثيرون منهم فيها، وقُبض على بعضهم.
قال ابن كثير -رحمه الله-: "فلما جاء الليل لجأ التتار إلى اقتحام التلول والجبال والآكام، فأحاط بهم المسلمون يحرسونهم من الهرب، ويرمونهم عن قوس واحد إلى وقت الفجر، فقَتلوا منهم ما لا يعلم عدده إلا الله -عز وجل-، وجعلوا يجيئون بهم من الجبال فتضرب أعناقهم".
ثم لحق المسلمون أثر المنهزمين يقتلون منهم ويأسرون ووصل التتار إلى الفرات وهو في قوة زيادته، فلم يقدروا على العبور، والذي عبر فيه هلك، فساروا على جانبه إلى بغداد، فانقطع أكثرهم على شاطئ الفرات وأخذ أهل العراق منهم جماعة كثيرة.
وفي يوم الاثنين الرابع من رمضان رجع الناس من الكُسوة إلى دمشق، فبشروا الناس بالنصر، وفيه دخل شيخ الإسلام ابن تيمية البلد ومعه أصحابه من المجاهدين، ففرح الناس به، ودعوا له، وهنؤوه بما يسر الله على يديه من الخير.
وفي يوم الثلاثاء الخامس من رمضان دخل السلطان إلى دمشق، وبين يديه الخليفة، وزُيّنت البلد، وبقيا في دمشق إلى ثالث شوال إذ عادوا بعدها إلى الديار المصرية.
وكان فرح السلطان الناصر محمد بن قلاوون والمسلمين بهذه المعركة فرحاً كبيراً، ودخل مصر دخول الظافر المنتصر، يتقدم موكبه الأسرى المغول يَحملون في أعناقهم رؤوس زملائهم القتلى، واستُقبل استقبال الفاتحين.
وقد كان لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- مواقف بطولية عظيمة في هذه المعركة، قال ابن عبد الهادي: "قال حاجب أمير، وكان ذا دين متين، قال: قال لي الشيخ يوم اللقاء وقد تراءى الجمعان يا فلان! أوقفني موقف الموت، قال: فسقته إلى مقابلة العدو وهم منحدرون كالسيل تلوح أسلحتهم من تحت الغبار المنعقد عليهم، ثم قلت له: يا سيدي هذا موقف الموت، وهذا العدو قد أقبل تحت هذه الغبرة المنعقدة، فدونك ما تريد.
قال: فرفع طَرْفَه إلى السماء، وأشخص بصره، وحرك شفتيه طويلاً، ثم انبعث وأقدم على القتال، يقول: وأمّا أنا فخُيّل إليّ أنه دعا عليهم، وأن دعاءه أستجيب منه في تلك الساعة، ثم حال القتال بيننا والالتحام، وما عدت رأيته حتى فتح الله".
ودخل جيش الإسلام المنصور إلى دمشق، والشيخ في أصحابه شاكياً سلاحه، عاليةً كلمته، قائمة حجته، ظاهرةً ولايته، مقبولة شفاعته، مجابة دعوته، مكرماً معظماً، ذا سلطان وكلمة نافذة، وهو مع ذلك يقول للمدّاحين: أنا رجل ملة لا رجل دولة.
وهكذا انتهت هذه المعركة بهزيمة التتار وانتصار المسلمين.
وجدير بالذكر أن نشير إلى أن هذه الحملة الثالثة من حملات التتار كانت هي آخر الحملات الكبرى، التي قام بها هؤلاء المتوحشون، ينقضون على بلاد الإسلام الآمنة المطمئنة.
ثم إن المغول دخلوا في دين الله العظيم، وكانت هذه معجزة للإسلام، وأصبح هؤلاء القوم بعد إسلامهم مدداً لقوة الإسلام وتياره المستمر.
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
إن الحمد لله...
أما بعد:
ولنا مع هذه المعركة عدة وقفات:
أولاً: دور العلماء في قيادة الأمة في أزماتها، فقد كان دور شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- واضحاً في هذه المعركة، والدور العظيم الذي قام به لوحده مع انهزام الجميع من حوله في البداية، ودوره في لم شمل المسلمين وتقوية قلوبهم بالثبات، وثقته الكبيرة والقوية بالله في مسألة النصر.
إن حركات الإصلاح في حياة الأمة لابد أن يتولاها، ويأخذ بيدها العلماء، ولو تأملنا مراحل التغيير وحركات الإصلاح في العالم الإسلامي لرأينا أن العلماء الربانيين المخلصين كانوا في مقدمتها، خصوصاً في الدول الإسلامية التي وقعت في فترة من فتراتها تحت ظل الاستعمار الغربي، وتجد أن الذي قاوم الاستعمار، وأن الذي أيقظ وألهب روح الجهاد وتحرير البلاد هم العلماء العاملون.
نعم، قد يكون هناك من له دور بارز في جانب معين ويؤثر في الناس، كقائد عسكري مثلاً ينتقل بالأمة من انتصار إلى آخر، أو خطيب مفوه يؤثر في مستمعيه ويفيدهم، كل هذا وارد لكن الانقلاب في حياة الأمة، والتغيير الشامل الكامل من حال المرض إلى الصحة، ومن الضعف إلى القوة، ومن الذلة والتدهور، إلى العزة والتقدم، هذه الحالة، وهذا التغيير لا يمكن أن يكون في مقدمته، خطيب أو داعية أو قائد جيش، بل لا بد أن يكون الرأس فيه عالماً من علماء الشريعة.
إن علماء أية أمة وأيّ مجتمع، لابد أن يكونوا هم في مقدمة الناس، يوجهونهم ويرشدونهم، ويبثون الوعي فيهم، ولا يمكن لأيّ مجتمع ولا لأيّ واقع، أن يتخلص من سيطرة أعدائه عليه، وأن يحصل إصلاح عام بين الناس، إذا تخلى العلماء عن دورهم.
ثانياً: معركة شقحب كانت في رمضان، ورمضان كما نعلم أنه شهر الفتوحات والانتصارات، والسبب في ذلك هو قرب الناس من الله في هذا الشهر وبعدهم عن المعاصي.
فلا يمكن للأمة أن تنتصر وهي غارقة في أوحال المعصية.
المعاصي سببُ كل عناء، وطريق كل تعاسة وشقاء ما حلت في ديار إلا أهلكتها، ولا فشت في مجتمعات إلا دمرتها وأزالتها، وما أهلك الله -تعالى- أمة إلا بذنب، وما نجا من نجا وفاز من فاز إلا بتوبة وطاعة، قال الله -تعالى-: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[الروم: 41].
وكتاب الله -تعالى- خير شاهد، فقد عمّ قوم نوح الغرق، وأهلكت عاداً الريح العقيم وأخذت ثمود الصيحة، وقُلبت قرى قوم لوط عليهم: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)[العنكبوت: 40].
لقد فشا الربا في مجتمعات المسلمين، وكثر الزنا، وشربت الخمور والمسكرات، وأدمنت المخدرات، وكثر أكل الحرام، وتنوعت فيه الحيل، شهادات باطلة، وأيمان فاجرة، وخصومات ظالمة، ارتفعت أصوات المعازف والمزامير، ودخل الغناء أغلب البيوت، وتربى الصغار والكبار على ما تبثه وسائل الإعلام، وتساهل الناس في شأن القنوات الفضائية، وفشت رذائل الأخلاق، ومستقبح العادات في البنين والبنات، وتسكعت النساء في الشوارع والأسواق، وكثرت المغازلات والمعاكسات، وتساهل البعض حتى في شأن الصلوات، إلى غير ذلك من المنكرات والمخالفات، التي لا عد لها ولا حصر.
فإلى متى الغفلة عن سنن الله؟
ونعوذ بالله من الأمن من مكر الله.
إن المجتمعات حين تغفل عن سنن الله، فتغرق في شهواتها، وتضل طريقها، وتتنكب شريعة ربها.
إنها لا تلوم بعد ذلك إلا نفسها، إنها سنة الله، حين تفشو المنكرات، وتقوم الحياة على الذنوب والآثام.
إن الانحلال الخلقي وفشو الدعارة، وسلوك مسالك اللهو والترف، طريق إلى عواقب السوء، إذ تترهل النفوس، وترتع في الفسق والمجون، وتستهتر بالقيم، وتهين الكرامات.
فتنتشر الفواحش، وترخص القيم العالية فتتحلل الأمة، وتسترخي وتفقد قوتها وعناصر بقائها، فتهلك وتُطوى صفحتها.
نعم، إن الاستمرار في محادّة أمر الله وشرعه، والاستمرار على الذنوب والخطايا، وعدم الإقلاع، يهدم الأركان، ويقوض الأساس، ويزيل النعم، وينقص المال، وترتفع الأسعار، وتحل الهزائم الحربية، وقبلها الهزائم المعنوية.
ولقد أصابنا من ذلك الشيء الكثير.
إن الحق أبلج، والدين واضح، وسنن الله لن تتغير ولن تتبدل، قال الله -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ* أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ)[الأعراف: 94-99].
ثالثاً: خطورة النصارى وحقدهم على المسلمين، والمحاولة بعد المحاولة في الاستيلاء على بلاد المسلمين واستعمارها، ونهب خيراتها.
إن من سنن الله الثابتة في هذا الكون، ديمومة صراعنا نحن المسلمين مع النصارى، وأنه سيستمر إلى نهاية العالم، وقد ورد ما يشير إلى بقاء هذا الصراع في الكتاب الذي بعثه الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل بطريق غير مباشر، حيث قال: فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين.
والأصرح منه قول الله -تعالى-: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ)[المائدة: 14]
إذاً، صراع الإسلام والنصرانية سيستمر إلى قيام الساعة وهو فتنة، ابتلى الله بها المسلمون، وهذا قَدَرُهم وما عليهم إلا الصبر والمواجهة.
وانطلاقاً من إيماننا بالغيب، وثقة بما أخبر به الرسول -صلى الله عليه وسلم- فنحن على موعد مع النصارى في ملحمة عظيمة، وسيتحقق ما أخبر به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وسترفرف رايات المجاهدين فوق دول النصارى، وسيطأ المسلمون بأقدامهم عاصمة الفاتيكان الحالية روما، وستلتحم هذه الأمة مع أعدائها، ويكون الغلبة لها، وستقع المعركة الفاصلة مع النصارى، وسيُكسر الصليب فوق رؤوس أصحابه، وستكون معركة شديدة قوية، وسيكون قتلاها عدد كبير من الطرفين: (قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا)[الإسراء: 51].
رابعاً: ما أشبه الليلة بالبارحة، إن من يتأمل على ضوء أحداث الماضي أحوال المسلمين وكيف تتعرض بلادهم إلى الاحتلال والتقسيم، ليجد عبرة عظمى وموعظة بليغة في معركة شقحب: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)[ق: 37].
اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك الصالحين...
اللهم عليك باليهود والنصارى...
اللهم رحمة اهد بها قلوبنا...
التعليقات