اقتباس
غنم المسلمون غنائم ضخمة، وبلغ عدد الأسرى باثنين وعشرين ألفًا، وسار ليو الطرابلسي بأسطوله المتخم بالغنائم، متجهًا إلى مياه مصر والشام، ثم اتجه منها إلى طرسوس، التي كانت قاعدة للفداء أو استبدال الأسرى بين المسلمين والبيزنطيين.
يعتبر القرن الثالث الهجري – التاسع الميلادي، هو عصر السيادة الإسلامية على البحر المتوسط، أو بحر الروم، والذي أصبح اسمه في هذا العصر، بحر العرب، بسبب السيطرة الإسلامية الحربية على منافذ، ومضايق، وسواحل وموانئ هذا البحر الكبير، وخلال هذا العصر الذهبي؛ برزت عدة أسماء لامعة في سماء البحرية الإسلامية كانوا بمثابة النجوم والرموز في العمل الجهادي البحري، ومن أبرز تلك الأسماء، والأبطال الذين ظهروا في هذا العهد، القائد الكبير، والمغامر البحري الخطير؛ (ليو الطرابلسي)، فمن هذا البطل؟ وكيف كانت نشأته؟
ولد ليو الطرابلسي لأبوين نصرانيين في أتاليا في جنوب شرقي آسيا الصغرى (تقع الآن في تركيا)، وكان منذ نعومة أظافره محبًا لركوب البحر، وقد دخل الإيمان قلبه وهو ولد صغير، فأعلن إسلامه وفر من أبويه، وركب سفن غزاة البحر المسلمين، وانضم معهم في غزواتهم البحرية، وتعلم الكثير من فنون البحر، ثم استقر في مدينة طرابلس الساحلية في الشام، ومنها عرف باسم ليو الطرابلسي.
بعد فترة من الوقت انتقل ليو الطرابلسي إلى ثغر طرسوس (بأقصى شمال الشام)، وكانت مركزًا متقدمًا لتجمع غزاة البحر المسلمين، وأهل طرسوس من أشجع الناس في غزو الروم، وركوب البحر.
في طرسوس قام ليو الطرابلسي بتكوين أسطوله البحري، ولشهرته وسمعته في الغزو، والجهاد، وركوب البحر؛ انضم إليه أمهر وأشجع البحارة المسلمين في هذا العصر، واتخذ ليو من طرسوس قاعدة لأسطوله، منها ينطلق لغزو بحر الأرخبيل وتهديد الدولة البيزنطية بأسرها.
معركة تسالونيكا:
ذاع صيت ليو الطرابلسي ورجاله في مجال الغزو البحري، وقاد رجاله لعشرات الغزوات الناجحة في بحر الأرخبيل، غير أن أعظم غزواته وأشهرها وأشدها تأثيرًا كانت غزوة تسالونيكا في سنة 291هـ -904م.
تسالونيكا (هي الآن ثغر سلانيك الحديث)، وكان يقع في أملاك الدولة العثمانية لفترة طويلة من الوقت، ثم أصبح الآن من أهم موانئ اليونان، وبه جالية يهودية كبيرة، وكانت في وقت المعركة من أغنى ثغور الدولة البيزنطية وأكثرها ثراءً وسكانًا، وكانت تتميز بموقع استراتيجي منيع، فقد كانت تقع على هضاب أولمبوس، وتشرف على رأس خليج ضيق، كما تتميز بجانب تلك التحصينات الطبيعية، بتحصينات من صنع البشر من سور ضخم على مدخل الثغر عند رأس الخليج، وقلاع قوية شيدت على آكام مرتفعة، تلك التحصينات القوية جعلت المدينة الثرية في مأمن من غارات الطامعين مثل الصقالية والنورمان، الذين حاولوا -عدة مرات- فتح المدينة فلم ينجحوا.
خرج القائد ليو الطرابلسي في أربع وخمسين سفينة، في كل واحدة منها نحو مائتي مقاتل، وقد انطلق من طرسوس في أواسط سنة 291هـ، وقد جعل هدفه المباشر ثغر تسالونيكا، وفي مسيره؛ انضم إليه الكثير من غزاة البحر المشهورين في الحوض الشرقي للبحر المتوسط، واهتزت الدولة البيزنطية؛ لخروج أسطول ليو الطرابلسي، فأرسل الإمبراطور ليون السادس أسطولاً كبيرًا؛ لحماية ثغور الدولة من هجمات المسلمين، ولكن لشهرة الطرابلسي ومن معه؛ أحجم الأسطول البيزنطي عن التصدي لهم، وارتد إلى ضفاف الدردنيل، تاركًا بحر الأرخبيل (إيجه) مفتوحًا أمام الأسطول الإسلامي.
أيقن أهل تسالونيكا أن ثغرهم الكبير هو الهدف الأول لحملة ليو الطرابلسي؛ فدب فيهم الفزع والرعب، وأخذ قائد الحامية البيزنطية (بتروناس) في ترتيب دفاعات المدينة، وتحصين قلاعها، وألقى في مداخل الثغر المائية مقادير كبيرة من الصخور الضخمة، وفي نفس الوقت هرع سكان المدينة للاستنجاد والاستغاثة بقبر (ديمتروس) وكانوا يعتقدون فيه القداسة، فراحوا يتوسلون بقبره، ويطوفون حوله، في مشاهد وثنية، وشركية، ما زالت آثارها قائمة حتى الآن، وقد امتدت حتى إلى بلاد الإسلام، ولاحظ التشابه بين ذلك المشهد، وبين ما يحدث عند قبور الصالحين والأولياء والأضرحة في بلاد الإسلام اليوم.
وصل الأسطول الإسلامي إلى خليج تسالونيكا في أواخر يوليو سنة 904م، فتأهب أهل المدينة للدفاع عنها، وهرعوا إلى كنيسة القديس (ديمتروس)، وانهمكوا في الدعاء، والتضرع له؛ لينجدهم، فلا جرم أن خذلهم الله -عز وجل-بعد أن تركوا سؤاله، وتوجهوا لعبد مثلهم، يطلبون منه النصر والغوث، وصل ليو الطرابلسي إلى خليج تسالونيكا، فأخذ يستطلع مدخل المدينة وحصونها ودفاعاتها، ثم قام بهجوم صغير؛ ليختبر به مدى قوة دفاعات المدينة، ومدى استعداد أهلها وكفاءتهم القتالية.
الخطة البارعة:
كما قلنا -من قبل-: إن ليو الطرابلسي كان من أبرز بحارة الإسلام، وأعظم بحار في القرن الثالث الهجري، والتاسع الميلادي، قد استطاع من خلال الهجوم الأول على المدينة؛ أن يحدد نقاط الضعف فيها، ويبني خطته على هذا الأساس.
بنى ليو الطرابلسي خطته على فكرة الهجوم العنيف على أهداف معينة في دفاعات المدينة؛ لشغل المدافعين عن الهدف الحقيقي والنقطة الأساسية في الهجوم، إذ هاجم بكل قواته على المدينة من ناحية الغرب، وحاولوا اقتحام الأسوار بالسلالم المعلقة، وضرب المجانيق، وتصدى البيزنطيون للهجوم الإسلامي بكل شجاعة، ثم أرسل ليو الطرابلسي سرية من جنوده؛ لإحراق أبواب المدينة من ناحية الشرق أيضًا، وبالفعل انهارت الأبواب بفعل النار اللاهبة، ولكن البيزنطيين قد سدوا الممرات التي تلي الأبواب بالبناء المحكم، وكان ليو الطرابلسي يرمي لهدف آخر، وإنما أراد أن يحول قوة المدافعين عن غايته الحقيقية.
ليو من خلال دراسته لدفاعات المدينة؛ حدد مواضع بعينها، وبمنتهى البراعة والسرعة؛ أمر بربط عدة سفن كل اثنين معًا، ربطًا وثيقًا محكمًا، وأقيم فوق كل اثنين برج خشبي مرتفع، ومع أول ضوء لفجر اليوم التالي للهجوم الأول؛ دفعت هذه الأبراج نحو المواضع التي حددها، وكانت تلك الأبراج مشحونة بصفوة المجاهدين؛ فنشبت معركة طاحنة بين المهاجمين والمدافعين، وكان بحارة مجاهدي الإسكندرية أول من اقتحم الأسوار، ثم فتحوا أبواب المدينة، فدخل بقية الجيش الإسلامي إلى قلب المدينة، وفر البيزنطيون والصقالية من أمامهم.
غنم المسلمون غنائم ضخمة، وبلغ عدد الأسرى باثنين وعشرين ألفًا، وسار ليو الطرابلسي بأسطوله المتخم بالغنائم، متجهًا إلى مياه مصر والشام، ثم اتجه منها إلى طرسوس، التي كانت قاعدة للفداء أو استبدال الأسرى بين المسلمين والبيزنطيين، فلم تكن تلك الغزوة البحرية ولا غيرها من الغزوات؛ إلا لاستخدام أسرى البيزنطيين وغيرهم في فداء المسلمين الأسرى بيد الأعداء، فهو جهاد خالص في سبيل الله، لم يكن للدنيا فيه نصيب؛ إلا ما يقيم حياتهم، ويضمن لهم استمرار مهمتهم الجهادية في سبيل الله -عز وجل.
التعليقات