عناصر الخطبة
1/فرار هوازن من المعركة واتجاههم للطائف 2/جيش المسلمين يحاصر الطائف 3/عودة الرسول من حصار الطائف وتوزيع الغنائم 4/موقف الأنصار من توزيع الغنائم ومعالجة النبي للأمر 5/ قدوم وفد هوازن مسلماً وإسلام مالك بن عوف.اقتباس
كانت الأنصار ممن حرموا أعطية حنين، وبادئ الأمر لم يفهم بعضهم المقصود من ذلك فوجدوا في أنفسهم، روى ابن إسحاق عن أبي سعيد الخدري قال: "لما أعطى رسول الله ما أعطى من تلك العطايا في قريش وقبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء وجدوا في أنفسهم وكثرت فيهم القالة". وكلمات الأسف لم تكن من عامة الأنصار، وإنما كانت من بعض شبابهم...
الخطبة الأولى:
الحمد لله هدى من شاء بمنه وكرمه, وأضل من شاء بحكمته وعدله, أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له في حكمه وأمره وملكه, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله ربه هادياً ومبشراً ونذيراً, وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً, صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
عباد الله: تناولنا في الخطبة الماضية ما منيت به هوازن من هزيمة في معركة حنين, وبعدها فر المقاتلون منهم إلى الطائف، ومعهم زعيمهم مالك بن عوف, فأخذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- معظم الجيش في إثرهم، وترك توزيع الغنائم حتى يعود.
سار الرسول -عليه الصلاة والسلام- بجيشه الضخم متجهاً إلى الطائف، وياسبحان الله!, تأملوا الفرق بين الأمس واليوم, بين هذا المسير المهيب للطائف بهذا العدد الضخم، وبين مسيره -صلى الله عليه وسلم- إليها قبل إحدى عشرة سنة ماشياً على قدميه, وحيداً ليس معه إلا غلامه زيد بن حارثة -رضي الله عنه-, وهو في أشد حالات الحزن والضيق، بالأمس رفضت الطائف دعوة الرسول –عليه الصلاة والسلام- وحاربته, فخرج مطروداً وصاحبه زيد وقد رموهم بالحجارة.
بالأمس يغادر الرسول -صلى الله عليه وسلم- الطائف متجهاً إلى مكة حزيناً مهموماً, وقد بَعَثَ الله إليه مَلَكَ الجبالِ قائلاً له: "يا محمدُ! إنْ شئتَ أنْ أُطْبِقَ عليهِم الأخْشَبَيْنِ"، فقالَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "بل أرجو أن يُخْرِجَ اللهُ مِن أصْلابِهِم مَن يعبُدُ اللهَ وحدَهُ لا يُشْرِكُ بهِ شيئاً"
وأما اليوم افيغير الله -عز وجل- الأحوال، فها هو النبي -صلى الله عليه وسلم- يجيء بعد إحدى عشرة سنة عزيزاً منتصراً رافعاً رأسه، محاطاً بجيش جرار، وليتحقق ما تمناه -صلى الله عليه وسلم- يوم أن قال بالأمس لصاحبه زيد بن حارثة -رضي الله عنه- بعد عودتهم من الطائف: "يا زيد! إن الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه". ها هي السنوات تمر وها هو الفرج ونصر الله يأتي.
أيها المؤمنون: وصل جيش المسلمين إلى الطائف، واحتمى المشركون بحصونهم دون قتال، فياله من خزي كبير وذل عظيم ليس بعده ذل؛ فنساء وأولاد وأموال هوازن كلها في يد المسلمين، ورجالهم فضلوا ألا يخرجوا لاستنقاذها من أيدي المسلمين، ولذا فقد قرر الرسول ضرب الحصار على حصون الطائف المنيعة؛ لعلهم يخرجون للقتال أو يجد المسلمون فجوة يدخلوا إليهم لكن دون جدوى, واستمر الحصار أربعين يوما ثم قرر النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يرجع إلى مكة؛ نظراً لاستعداد أهل الطائف بالطعام والمؤنة لسنة كاملة في حصونهم.
وهنا يظهر موقف في من الرقي والرحمة لنبي الرحمة -صلى الله عليه وسلم-, إذ وهو يغادر الطائف، قال له بعض الصحابة: "يا رسول الله! ادع الله على ثقيف"، فقال: "اللهم أهد ثقيفاً وائت بهم". فما غابت عنه أبداً رسالته في الحياة، رسالته أن يصل بدعوته إلى الناس لا أن يقتلهم، حتى وإن رفض أهل الطائف الإيمان واستكبروا عنه وآذوه في المرة الأولى, ثم قاتلوه في المرة الثانية، فهو ما زال يرجو إسلامهم ويتمناه, كما رجاه بالأمس في المرة الأولى.
وهذا دأبه -عليه الصلاة والسلام-, فعل ذلك مع قريش بعد أن قتلت سبعين من خيار أصحابه في أحد، رغم ذلك دعا لهم: "اللهم أهدِ قومي فإنهم لا يعلمون", وكذلك فعل ذلك مع قبيلة دوس لما رفضوا الإسلام, ودعا لهم: "اللهم أهد دوساً، وائت بهم", وها هو اليوم يدعو لهذه القبيلة المعاندة المستكبرة: "اللهم أهد ثقيفاً وائت بهم", وصدق الله العظيم إذ يقول في وصفه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107].
عباد الله: لقد كانت غنائم حنين كبيرة جدا؛ بلغ السبي ستة آلاف، والإبل أربعة وعشرون ألفًا، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة, وأربعة آلاف أوقية فضة، فأمر -عليه الصلاة والسلام- أن تجمع بموضع يسمى الجِعْرَانةِ، ولما عاد من حصار الطائف مكث بالجِعْرَانةِ بضع عشرة ليلة لا يقسم الغنائم ويتأنى؛ يبتغي أن يقدم عليه وفد هوازن مسلمين تائبين، فيحرزوا ما فقدوا ولكنه لم يجئه أحد فبدأ بقسمة المال.
أغدق النبي -عليه الصلاة والسلام- على المؤلفة قلوبهم ممن أسلم حديثا؛ فأعطى أبا سفيان أربعين أوقية ومائة من الإبل, وأعطى ابنه يزيد مثلها, وكذلك ابنه معاوية، وأعطى حكيم بن حزام مائتين من الإبل، وأعطى مثلها لصفوان بن أمية, وكذلك أعطى رجالاً مائة مائة, وآخرين خمسين خمسين، وأربعين أربعين؛ حتى شاع في الناس أن محمدًا يعطي عطاء من لا يخاف الفقر، فازدحم عليه الأعراب يطلبون المال واضطروه إلى شجرة، فانتزعت رداءه, فقال: "أيها الناس! ردوا عليّ ردائي، فوالذي نفسي بيده لو كان عندي شجر تهامة نعمًا لقسمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلاً ولا جبانًا ولا كذابًا".
أيها المؤمنون: كانت الأنصار ممن حرموا أعطية حنين، وبادئ الأمر لم يفهم بعضهم المقصود من ذلك فوجدوا في أنفسهم، روى ابن إسحاق عن أبي سعيد الخدري قال: "لما أعطى رسول الله ما أعطى من تلك العطايا في قريش وقبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء وجدوا في أنفسهم وكثرت فيهم القالة".
وكلمات الأسف لم تكن من عامة الأنصار، وإنما كانت من بعض شبابهم، ففي الصحيحين عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سأل عن الذي اعترض، فقال فقهاء الأنصار وسابقوهم: "أما ذوي رأينا -يا رسول الله- فلم يقولوا شيئاً، وأما أناس حديثة أسنانهم قالوا: يغفر الله لرسول الله يعطي قريشاً ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم".
وكان سعد بن عبادة -رضي الله عنه- مائلاً إلى هذا القول، ففي رواية الإمام أحمد قال سعد بن عبادة -رضي الله عنه- لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا رسول الله! إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء", قال: "فأين أنت من ذلك يا سعد؟", فقال سعد: "يا رسول الله! ما أنا إلا من قومي". يعني: أنني أشعر بما يشعرون به, وأتأثر بما يقول قومي.
فأمر النبي -عليه الصلاة والسلام- سعدا أن يجمع الأنصار فأتاهم رسول الله، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "يا معشر الأنصار! مقالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها علي في أنفسكم، ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟". قالوا: "بلى الله ورسوله أمن وأفضل". ثم قال: "ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟", قالوا: "بماذا نجيبك يا رسول الله، لله ولرسوله المن والفضل"، قال: "أما والله لو شئتم لقلتم، فلصَدقتم ولصُدقتم، أتيتنا مُكذبًا فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلاً فآسيناك.
أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قومًا ليسلموا، ووكلتم إلى إسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم، فوالذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبًا، وسلكت الأنصار شعبًا؛ لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار". فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: "رضينا برسول الله قسمًا وحظًا".
فياله من فضل عظيم يناله الأنصار أعظم من مال حنين، بل أعظم من الدنيا وما فيها، حين يعود الناس بالشاة والبعير ويعود الأنصار بخير البشر، وقد دعا لهم ولذريتهم بالرحمة: "اللهم ارحم الأنصار, وأبناء الأنصار, وأبناء أبناء الأنصار".
(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 100].
أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، وصلى الله على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا, وبعد:
عباد الله: بعد انتهاء توزيع غنائم حنين بكاملها حدثت مفاجأة غير متوقعة، إذ جاء وفد قبيلة هوازن يعلن إسلامه بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان الوفد مكوناً من أربعة عشر نفراً، يمثلون بطون هوازن المختلفة, وجلس الوفد مع الرسول -عليه الصلاة والسلام- ثم قالوا: "يا رسول الله! إنا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك، فامنن علينا منّ الله عليك", ثم قام خطيبهم زهير بن صرد فقال: "يا رسول الله! إنما في الحظائر من السبايا خالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك -يعني منهم بنو سعد الذين أرضعوا الرسول-".
وهنا خيرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- إحدى الطائفتين: إما السبي وإما المال، فقالوا: "يا رسول الله! خيرتنا بين أموالنا وأحسابنا، فلترد إلينا نساءنا وأبناءنا، فهو أحب إلينا".
ولما صلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- الظهر بالمسلمين، قام وفد هوازن يستشفع برسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المسلمين، فقام -صلى الله عليه سلم- وقال: "أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم", فلما رأى المسلمون ذلك من نبيهم, تتابع الناس برد سبيهم اقتداءً بفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
أيها المؤمنون: اكتشف النبي -صلى الله عليه وسلم- أن مالك بن عوف الذي جمع الجموع للحرب، وأرد أن يستأصل المسلمين، بأنه ليس موجوداً مع وفد هوازن، فسأل عنه، فقالوا له: "إنه في الطائف في حصون ثقيف يخشى على نفسه من القتل"، فقام -صلى الله عليه وسلم- في موقف رائع لا يقل عن المواقف الكريمة السابقة فقال: "أخبروا مالكاً أنه إن أتاني مسلماً رددت عليه أهله وماله وأعطيته مائة من الإبل".
وصل الخبر إلى مالك في الطائف، فلم يتردد لحظة بل أسرع من فوره إلى لقاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأعلن إسلامه بين يديه.
فهل ترون كم هو عظيم نبيكم -صلى الله عليه وسلم-؟! لقد كان الهدف الأسمى في حياة الرسول -عليه الصلاة والسلام- هداية الناس لرب العالمين -سبحانه وتعالى-، بغض النظر عن تاريخهم وعداوتهم السابقة له وللمسلمين, فهدايتهم ودخولهم في الإسلام وفي رحمة الله أحب إلى رسول الله من قتلهم وقتالهم.
اعلموا أن الله أمرَكم بالصلاةِ والسلامِ على نبيِّه، فقال في مُحكَم التنزيل: (إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا) [الأحزاب: 56].
التعليقات