اقتباس
تقع جزيرة "جربة" في الرّكن الجنوبي الغربي من الحوض الشرقي للمتوسط بخليج قابس أو ما يعرف ب "سرت الصغرى" عند القدامى، مما يجعلها منفتحة في ذات الوقت على المتوسط والصحراء. وشكلها أقرب عموما إلى المربع إذ يبلغ أقصى الامتداد بين الشمال والجنوب قرابة 29,5كم، في حين يبلغ أقصى امتداد لها من الشرق إلى الغرب 29 كم، ويبلغ طول سواحلها...
يعتبر الاستراتيجي الأمريكي "ألفريد ماهان" واحد من كبار علماء الجيوبوليتك المعاصرين، وواضع نظرية: "القوة البحرية" التي كان لها أبعد الأثر في السياسة الدولية في مطلع القرن العشرين.
"ماهان" له كتاب شهير أكد من خلاله: أن القوة البحرية هي العنصر الحاسم للهيمنة السياسية عند أي دولة تأمل في لعب دور على المستوى الدولي.
واستند في ذلك إلى دراسة متعمقة لدور البحرية في حركة التاريخ، إذ اعتبرها المفتاح الحقيقي لحسم الصراع على هيمنة أي قوة على النظام الإقليمي أو الدولي.
وكان نموذج الدولة العثمانية أحد أبرز الأمثلة التي دلل بها "ماهان" على صحة نظريته.
فالبحرية العثمانية التي شهدت نمواً مطرداً بعد وصول السلطان سليم الأول للحكم، قد وصلت لسدة المجد البحري في عهد السلطان سليمان القانوني، على الرغم من كون العثمانيين كانوا يجاهدون أوروبا الصليبية على جبهتين بحريتين مفتوحتين في آن واحد:
الأولى: في المتوسط.
والثانية: كثيرًا ما يتناساها الباحثون والمؤرخون، وهي مسرح الحروب في الخليج العربي والشاطئ الهندي.
فمنذ هزيمة الأسطول المشترك للدولة العثمانية والمماليك أمام البرتغاليين في معركة ديو البحرية، أمام ساحل الهند عام 1509 ميلادية استطاع الأوروبيون تحويل طرق التجارة عبر رأس الرجاء الصالح موجهين ضربة قاسية للدولتين الإسلاميتين.
ولم ينس العثمانيون هذا المسرح الحربي، غير أن المتوسط ظل الأولوية خلال الحقب الأولى من القرن السادس عشر.
وقد ظل منحنى القوة البحرية للدولة العثمانية في الصعود حتى بلغ ذروة سنام السيادة والهيمنة في معركة جزيرة "جربة" التي سنتحدث عنها في هذه الصفحة من صفحات المجد التاريخي المنسي.
حرب السواحل:
مع بداية القرن السادس عشر شهدت منطقة حوض البحر المتوسط صراعاً بحرياً بين الدول الأوربية المتمثلة في المسيحيين الإسبان، ومعهم البنادقة وكرسي البابوية، وبين المسلمين للسيطرة على سواحل البحر المتوسط، وبالتالي السيطرة على حركة السفن التجارية والقتالية في عموم البحر الكبير، حيث اتجهت إسبانيا بقواتها لمهاجمة موانئ شمال إفريقيا، واستولوا على المدن التالية: سبتة، طنجة، تلمسان، المرسى الكبير، وهران، بجاية، وطرابلس، سنة 1510م.
وقد حاول الأهالي الطرابلسيون الدفاع عن مدينتهم باستماته، وهذا ما ذكره الكونت: "بتر ودي فارو" قائد الحملة الإسبانية على طرابلس، في رسالته المرسلة لنائب صقلية، إذ كتب: "لقد كان الطرابلسيون يقاومون مقاومة عنيفة".
وكان لإسبانيا أسبابًا لاحتلالها لمدينة طرابلس، أبرزها: موقعها الاستراتيجي، ميناؤها الحصين، ثرواتها المتعددة التي رأى الإسبان ضرورة الاستفادة منها في تمويل جيوشهم في مواصلتهم الحرب ضد المسلمين، وكـذلك لجعلها قاعدة حربية إسبانية لصد الهجمات المتتالية من الشرق والمتمثلة في الخط المعاكس ألا وهو: "المد العثماني" الذي ظهر كقوة بحرية كبيرة في حوض البحر الأبيض المتوسط بقيادة: "خير الدين بربروس" وخليفته: "طرغوت باشا" الذي مثل خطراً حقيقياً على الوجود الإسباني فـي دويلات شمال إفريقيا.
مع تنامي التهديد العثماني على التواجد الإسباني في سواحل الشمال الأفريقي أعلن "بابا روما بولس الثالث" حرباً صليبية بحرية ضد العثمانيين، فاستجابت له العديد من الدول الأوروبية، وتكونت حملة صليبية من أسطول مكون من أكثر من 600 قطعة بحرية، منها 302 سفينة حربية كبيرة تحمل نحو ستين ألف جندي من إسبانيا والنمسا والبندقية، ويقوده قائد بحري من أعظم قادة البحر في أوروبا هو أندريا دوريا من جنوة.
أما الأسطول العثماني فتكون من 122 سفينة تحمل عشرين ألف جندي.
التقى الأسطولان في 4 جمادى الأولى 945هـ الموافق 28 سبتمبر 1538م بالقرب من ميناء "بريفيزا" غربي اليونان، وفاجأ "خير الدين بربروسا" خصمه قبل أن يستعد للقتال، فتفرقت سفنه من هول الصدمة، وهرب القائد الأوروبي من ميدان المعركة التي لم تستمر أكثر من خمس ساعات والتي حسمت لمصلحة العثمانيين.
فأثار هذا النصر الفزع والهلع في أوروبا، وأعاد للبحرية العثمانية هيبتها في البحر المتوسط، في الوقت الذي استقبل فيه السلطان سليمان القانوني أنباء النصر بفرحة غامرة، وأمر بإقامة الاحتفالات في جميع أنحاء دولته.
استغل العثمانيون حالة التفوق البحري الناجم عن انتصار معركة بروزة، فهاجموا عدة نقاط استراتيجية في سواحل البحر المتوسط، استولى "بيالي باشا" على جزر "البليار" عام 1558م، وقام بمعية "طرغوت باشا" بغارات على السواحل المتوسطية الإسبانية.
قرر الملك الإسباني "فيليب الثاني" الرد على ذلك، فدعا "البابا بولس الرابع" وحلفاءه الأوروبيين لاستعادة مدينة طرابلس، التي كانت بحوزة فرسان القديس "يوحنا" حتى أغسطس 1551م، عندما استولى عليها "طرغوت باشا"، وهو الإنجاز الذي جعل السلطان العثماني سليمان القانوني يمنحه لقب: "باي طرابلس".
تونس والدولة الحفصية:
الدولة الحفصية تنسب إلى سلالة بربرية تنحدر من قبائل مصمودة الكبرى حكمت المنطقة الممتدة بين تونس وشرق الجزائر وطرابلس ما بين 1229 - 1574م.
استمدت التسمية من أبو حفص عمر (1174 - 1195م) أحد أجداد الأسرة، ومن رجالات مدعي المهدية "ابن تومرت" مؤسس دولة الموحدين في الأندلس والمغرب.
أصبح ابنه من بعده من عمال الموحدين على تونس.
قام ابنه من بعده الأمير "أبو زكريا الحفصي" (1228 - 1249م) بالاستيلاء على السلطة، وأعلن استقلاله، واستطاع أن يؤسس دولة استخلفت الدولة الموحدية في المنطقة.
قضى ابنه المستنصر (1249 - 1277م) على الحملة الصليبية الثامنة (سنة 1270)، فاكتسب شهرة في العالم الإسلامي مكنته من اتخاذ لقب أمير المؤمنين بعد أن أعطاه أهل مكة والحجاز بيعتهم.
بعد وفاته تنازع أولاده الحكم، وجرت حروب طاحنة بينهم.
في أواخر القرن ال 13م انشق عن الأسرة فرعان، حكم أحدهما في بجاية، والآخر في قسنطينة.
في منتصف القرن ال14م استولى المرينيون على البلاد.
بعد جلاء المرينيين استعادت الدولة الحفصية حيويتها مع حكم كل من "أبو العباس أحمد" (1370 - 1394م)، "أبو فارس عبد العزيز" (1394 - 1434م) ثم "أبو عمر يحيى" (1435 - 1488م).
عرفت هذه الفترة الاستقرار وعم الأمن أرجاء الدولة.
أصبحت العاصمة تونس مركزا تجاريا مهماً.
اتخذت الدولة الحفصية موقفاً مخزياً في الصراع الإسباني العثماني، حيث دخلت في حلف الإسبان بسبب خوفها من مدّ العثمانيين نفوذها إلى بلاد تونس، فكان مثل من اختار رعي الخنازير على رعي الإبل كما جاء في تشبيه الملك الأندلسي "المعتمد بن عبادّ"، ووصل الأمر بالحفصيين: أن استغاثوا بالإمبراطور الروماني الشهير "شارل الخامس" أو "شاركان" وهو خصم السلطان العثماني سليمان القانوني اللدود.
غير أن هذه الخطوة ما لبثت أن أساءت إلى الحفصيين في نظر مواطنيهم، وكذلك مناصريهم الإسبان، فحطت من هيبتهم, وبلغت ذروة التجائهم بالإسبان حين قرر أحد ولاتهم وهو والي "وهران" تقديم بيعته إلى للعثمانيين, فما كان منهم إلا أن التجئوا بالإسبان مرة أخرى, فهب هؤلاء إلى نجدتهم غير أنهم عبثوا ببلادهم، واستهانوا بحرمات الدين الإسلامي.
وفي نهاية المطاف كانت الدولة الحفصية قد استنفذت كل ما لديها للبقاء، فسقطت أراضيها عام (982هـ - 1574م)، وأصبحت جزءًا من الدولة العثمانية.
معركة جزيرة جربة:
تقع جزيرة "جربة" في الرّكن الجنوبيّ الغربيّ من الحوض الشّرقي للمتوسّط بخليج قابس أو ما يعرف ب "سرت الصّغرى" عند القدامى ممّا يجعلها منفتحة في ذات الوقت على المتوسّط والصّحراء.
وشكلها أقرب عموما إلى المربّع إذ يبلغ أقصى الامتداد بين الشّمال والجنوب قرابة 29,5 كم، في حين يبلغ أقصى امتداد لها من الشّرق إلى الغرب 29 كم، ويبلغ طول سواحلها 125كم.
أمّا مساحتها فتبلغ 514كم2.
وتتميّز تضاريسها البحريّة بوجود حزام من القيعان الضّحلة والمصطبات البحريّة يطوّقها من أغلب الجهات.
وقد وفّر لها على مدى قرون حصانة طبيعيّة تمنع السّفن الحربيّة من الوصول إلى سواحلها، ولكن لم يمنع ذلك الجزيرة من تعرضها لحملات أوروبية صليبية متكررة طيلة قرنين من الزمان بداية من سنة 1039 ميلادية، مما أبقى أهلها في حالة رباط وجهاد مستمر طوال تلك الفترة.
"جربة" كانت الجزيرة الاسلامية الوحيدة التي تقع في الحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط، والتي تصلح أن تكون مأوى للغزاة، وممشى لهم، وسوقا لبيع غنائمهم، وشراء ما يحتاجون إليه من المؤونة والعتاد بفضل ثراء الجزيرة، ونشاط سكانها، وميناء آمنا لإرساء سفنهم وتنظيفها، وإصلاح المعطوب منها، وصنع سفن جديدة، ومعقلا عند الاقتضاء لقوة شكيمة أهل جربة وعشقهم للحرية واستعدادهم الدائم للجهاد.
عندما استقرّ "طرغوت باشا" في ولاية "بطرابلس" بذل أقصى جهده في توسيع منطقة النفوذ العثمانيّ، فاحتلّ مدينة "ڤفصة"، وبسط نفوذه على جزيرة "جربة" ومدينة "صفاقس" في سنة 963هـ / 1556م.
واستولى على مدينة "القيروان" في سنة 964هـ / 1557م، وأجبر حاكمها محمد بن أبي الطيب الشابي على الفرار.
كل هذه التوسعات البحرية استفزت أوروبا الصليبية، وبتحشيد وتحريض من بابا روما تم التجهيز لحملة صليبية كبرى لاستعادة طرابلس وجربة.
وفي سنة 967هـ / 1560م امتحن "طرغوت" بمواجهة حملة إسبانية ذات طابع دولي مسيحيّ شبيهة في حجمها وجنسيات جنودها بحملتي الإمبراطور "شارل الخامس" على حلق الوادي وتونس (942هـ / 1535م)، وعلى مدينة الجزائر (948هـ / 1541م) حيث كانت تلك الحملة التي وجهت إلى طرابلس الغرب ثم "جربة" تعتمد مائة سفينة بين أغربة (بارجة حربية)، وسفن حمل للجند والعتاد، وثلاثين ألف مقاتل من إسبانيا ونابولي وصقلية وألمانيا ومالطة.
نظّمت هذه الحملة البحرية إثر مساع حثيثة لدى ملك إسبانيا "فيليب الثاني" ابن الإمبراطور "شارل الخامس"، وقام بها فرسان مالطة لاسترجاع مدينة "طرابلس الغرب" التي أطردوا منها منذ تسع سنوات.
جُمع الأسطول الإسباني في "مالطة" نفسها، وأسهم الفرسان في الحملة بخمسة أغربة، وأربعمائة فارس، وخمسمائة من المشاة الحاملين للبنادق، وجميعهم من سكان الجزيرة.
أقلع الأسطول الصليبي المشترك من "مالطة" في شهر فبراير من سنة 1560م في اتجاه مدينة "طرابلس"، وكان القصد مفاجأة العثمانيين شتاءً.
ونزل الجيش الإسباني بزوارة وشرع في حصار طرابلس.
ونشبت المعارك تحت أسوار المدينة، ودعم "طرغوت باشا" تحصيناته، وأبدى المدافعون عن المدينة شجاعة نادرة جعلت الجيش الصليبي يوقن أنّ طرابلس يستحيل احتلالها عنوة، فقرر قائد الحملة وهو نائب الملك بصقلية الانسحاب، وحتى لا تنتهي الحملة بالخسران، وحتى لا يحرم الجنود من الغنائم، وجه قائد الحملة السفن إلى جزيرة "جربة" وأنزل بها الجيش.
حاول سكّان الجزيرة الدفاع عن أنفسهم، وقاوموا الأعداء، ولكن تفاوت القوى المتقابلة أرغمهم على الخضوع للإسبان، فأبرمت بين الإسبان وشيخ الجزيرة "مسعود بن سمومن" معاهدة تتضمن اعتراف سكان "جربة" بسيادة إسبانيا، وقبول دفع الجزية لها.
وسلّم شيخ الجزيرة للجيش الإسباني قلعة حومة السوق المسماة: "البرج الكبير".
وانتشر الجنود الإسبان والإيطاليون والألمان في الجزيرة ينهبون خيراتها من زيت وصوف وأنسجة مختلفة، شحنوا بها السفن، وأركبوا حتى الحيوانات كالخيل والجمال، وكان العساكر والضباط يعتزمون بيع ما نهبوه عندما يعودون إلى صقلية، والحصول على أرباح طائلة.
وكان قادة الحملة ينوون مغادرة الجزيرة وترك حامية في البرج الكبير قبل قدوم العمارة العثمانية في وقتها المعتاد، أي في بداية الصيف.
في تلك الفترة كان "طرغوت باشا" قد أرسل برسائل نجدة للسلطان العثماني "سليمان القانوني" الذي جاءت استجابته سريعة إذ أرسل الأسطول الرئيسي للدولة العثمانية بقيادة "بيالي باشا" لنجدة "جربة" و "طرابلس"، هذا الأسطول استطاع الوصول سريعا إلى شواطئ "جربة" في مطلع شهر مايو سنة 1560 ميلادية، وعندما لاحت أشرعة سفن العمارة العثمانية في عرض البحر استولى الرعب على قلوب الملاحين، والجنود الإسبان، وعمّت الفوضى.
ما كان يفكّر أحد في مواجهة الأسطول القادم بل كان جميعهم يفكّرون في الفرار.
وحتى تخفّ السفن أفرغوها مما كان يثقلها مما نهبوه في الجزيرة من مؤن وخيل وإبل ورموها في البحر.
وانقضّ الأسطول العثماني على سفن الأعداء في 14مايو 1560/ رمضان 967ه، وقد عمّت الفوضى بينهم فأغرق بعضها، واستولى على بعضها الآخر، والتحق بالسفن التي استطاعت أن تفرّ في عرض البحر أمام "صفاقس".
ودارت معركة انتهت بهزيمة نكراء ولم يلتحق ب "صقلية" من ذلك الأسطول الإسباني الذي كان يعدّ قرابة مائة سفينة إلا ثلاث سفن.
لقد استولى العثمانيون على ثمانية وعشرين غرابا وسبعة وعشرين سفينة شاحنة، وأسروا خمسة آلاف منهم القائد الأعلى للحملة، وقائد الأسطول.
وغرق أو قتل ثمانية عشر ألفا من الجنود والملاّحين النصارى.
بقي "البرج الكبير" تقيم به حامية إسبانية تتألّف أكثر من ألفي مقاتل، فحاصره "بيالي باشا" بجند العمارة وملاحيها.
ودعا "طرغوت باشا" للاشتراك في الحصار، فأتاه مع ألفي مقاتل من "طرابلس"، وعدد من المدافع ألحقت بالمدافع التي أنزلها الأسطول.
وضُرب حصار على "البرج الكبير"، وقد شارك فيه إضافة إلى جنود الأتراك ألف وخمسمائة فارس من "جربة"، وعدد كثير من المتطوعين.
دام الحصار شهرين من 11 مايو إلى 31 يوليو 1560م، وقتل جميع جنود الحامية الإسبانية.
وبأمر من "طرغوت باشا" بني هرم بجماجم القتلى الإسبان قريبا من "البرج الكبير" تخليدا لذلك الانتصار.
وقد بقي الهرم قائما مدة ثلاثة قرون تقريبا شاهداً على قوة وعظمة الدولة العثمانية، وبسالة جنود الإسلام في الذود عن حياضهم، ورد كيد عدوهم.
التعليقات