اقتباس
وذلك في ضوء المتغيرات الحادثة، زعما منهم أن ذلك يمكن الشريعة من مواكبة التطورات الجارية، وهم يطالبون تحت هذا المسمى البراق الذي يظن سامعه أنه فتح لباب الاجتهاد، بعدم استفراد علماء الدين وحدهم بتفسير نصوص الشريعة، ويطالبون بلجنة من الخبراء في كل العلوم مثل الاقتصاد والاجتماع والسياسة والتاريخ والتكنولوجيا وغير ذلك من العلوم والفنون، وأيضا من المسلمين وغير المسلمين أيضا، من أجل المساهمة...
يشهد المعترك الفكري في واقعنا المعاصر، وخصوصا مع دخول الألفية الثالثة موجة عاتية من الهجوم على الإسلام ومنابذة أحكامه وعقائده ومبادئه وشريعته بالعداء السافر، فلقد تخندق كل الكارهين لهذا الدين وشريعته في خندق العداوة والكراهية، وانتهاج كل السبل من أجل النيل منه، بالتهييج على دعاته، وحملة شريعته، والمطالبين بتطبيقه، حتى المتعاطفين مع كل هؤلاء، في تواطؤ غير مسبوق، وتظاهر مع سبق إصرار وترصد. فأجلبوا بخيلهم ورجلهم، وتواصوا وتنادوا بالحرب الكونية الجديدة على الدين وأهله، وشنوا الغارة تلو الأخرى على محكمات الدين من الكتاب والسنّة وما انعقد عليه إجماع الأمة.
والغارة على الدين بدأت بالتشكيك في حملة الشريعة ونقلة العلم ورموز الدين، بدءاً بالسادات والأكابر من أولياء الله الصالحين من الصحابة والتابعين، انتهاء بأئمة التجديد والبعث الإسلامي ورموز الدعوة لوقتنا الحالي. هذه الحرب الكونية تشارك فيها كل موتور على الإسلام، وكاره لشريعته، وشانئ لتاريخه، سواء أكانوا من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، أم كانوا من أبناء الملل والحضارات الأخرى، أم كانوا من الملاحدة والزنادقة الذين لا دين لهم، ولا معبود لهم سوى أهوائهم، لا يؤلف بينهم إلا الحقد المستمر على الدين وأهله، والعداوة السرمدية على الشريعة الإسلامية. لقد تعامل هؤلاء مع التراث الإسلامي بأسوأ مما يتصور، فلم يقعوا منه إلا على العقر، ولم يقفوا منه إلا على الزلات، ولم يطلعوا منه إلا على الشبهات والأغلوطات، فكفروا به وطووا قلوبهم على مقت شديد له.
وفي هذا الإطار انطلقت عدة دعوات مشبوهة دشنها غلاة العلمانيين والليبراليين في محيطنا الإسلامي والعربي، ظاهرها فيها رحمة والإصلاح، وباطنها فيها العذاب والدمار، دعوات قال عنها أصحابها أنها من أجل رفع شأن الأمة وإحيائها والمحافظة على دينها واستمرار فاعليته، ولكنها في الحقيقة من أجل تحطيم كل الرموز المحترمة في نفوس جماهير الأمة، وتسريب مفهوم خبيث آثم لها بأنها كانت مخدوعة طيلة 14 قرنا من الزمان في احترامها لهذه الرموز.
والإسلام لم يعول كثيرا على الادعاء والقول إذا لم يصحبه يقين قلبي يصدقه، فيظل أثره محصورا على مجرد اللفظ ما دام قد عري من هذا اليقين، قال تعالى: ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم ) [ الحجرات: 14]، فليدع الغيرة على الإسلام من يدع، وليملأ الدنيا ضجيجا أنه يرفع لواء الدين ويحمي حماه، فالعبرة بالأعمال والتصرفات، فمن قصر قلمه على هدم معالم الدين معلما معلما، وانتقاص أحكامه حكما حكما، فهل تغني عنه داعوه في شيء ؟!. ومن أبرز المعالم التي يسلكها الطاعنون في التراث والدين والراغبين في تحطيم رموز الإسلام وأئمة الدين ما يلي:
أولا: تفريغ القرآن الكريم من محتواه
وذلك عن طريق تجريد القرآن مما وصفوه بالأمور غير الجوهرية من الدين مما أسموه بالأمور المحلية والظروف المكانية التي روعيت عند نزوله بين العرب، ويقولون أن هذه الطريقة منهم هي مهمة الفصل الجوهري الخالد الصالح لكل زمان ومكان، عن العرضي الزائل الذي يثقل الكواهل، ويقيد الخطوات، ويعمي عن الطريق، واعتبروا أن الإسلام لا يمكن أن يحقق انتشاره وعالميته إذا أصر أهله على التمسك بالموروث والتاريخي والمحلي الذي نزل في عهده الرسالة. وعند تنزيل هذا الكلام على الواقع لتقريب المراد منه، تجدهم يدللون على عدم صلاحية قبول الحدود لوحشيتها وعدم ملائمتها للعصر الحديث، وكذلك شهادة المرآة ونصيبها في الإرث وهكذا.
وهذه النظرية ليست بنظرية جديدة فقد سبقهم إليها الأوروبيون فيما سمي بعصر التنوير، عندما ثار المثقفون والعقلاء على تعاليم الكنيسة المحرفة المصادمة للفطرة السوية والعقول السليمة، وينقلون نقلا حرفيا هذه الأفكار، ويريدون تطبيقها على المعصوم والمنزه من الخطأ والخلل، فمونتسيكيو الفيلسوف الفرنسي الشهير أنكر أن تكون الحقيقة واحدة مطلقة وعالمية النطاق، وقال إن الشرائع لا تصح إلا متى أخذت في الاعتبار اختلاف المجتمعات وتباينها، وعكست التطورات فيها، قبلت بمبدأ ضرورة تعديلها على ضوء ما يطرأ على كل مجتمع من تغييرات.
أيضا من محاولات تفريغ القرآن من محتواه، قصر آي القرآن على مناسبة النزول فقط، وحصرها في هذا الإطار الضيق لتتحول آيات القرآن من عالميتها وخلودها إلى مواقف ومناسبات خاصة لا تتجاوزها، ومن ضمن أهم قواعد التفسير المتفق عليها بين أهل العلم؛ قاعدة " العبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السبب " وهي القاعدة التي ضمنت عالمية القرآن وعموميته وحيويته وصلاحه وإصلاحه لكل زمان ومكان.
ثانيا: الاستخفاف بالسنّة النبوية
وذلك بالطعن في صحتها، وإثارة الشبهات والأباطيل عنها، ومعايرة نصوصها بالمعايير المادية أو العلمية المجردة، وجعلها حاكمة على السنّة ؛ تصحيحا وقبولا وعملا، وترويج القول بأنها السنّة النبوية ظهرت في ظروف تاريخية معينة، وأنها بنت بيئتها، ومتأثرة بأجواء نزولها.وعند تطبيق هذا الكلام يدخلون معظم السنن القولية والفعلية في هذا الإطار، فيتندرون ويسخرون مثلا من الأكل باليمين، وتشميت العاطس، وكراهية التثاؤب، والتيامن في التنعل، وغسل الإناء الذي ولغ الكلب فيه سبعا أولهن أو إحداهن بالتراب، وهذا باب كبير تناوله المرجفون بكثير من الطعن والعبث والاستهزاء، حتى صار من علاماتهم وأماراتهم المميزة ؛ الطعن في السنّة. ومعلوم أن إقرار محاكمة السنّة النبوية لقواعد المنطق والعقل من أعظم أبواب رد السنة والطعن في الدين، فالسنّة هي الأصل الثاني من أصول الدين، والطعن فيه هو طعن في الدين كله.
ثالثا: الطعن في الصحابة والخلفاء الراشدين وخير القرون
بالادعاء بأنها خالفوا نهج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبدلوا الدين وحرفوه وغيروا أحكام القرآن، ويستدلون على حادثة إيقاف سهم المؤلفة قلوبهم في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والتركيز على فترة الفتنة التي أدت لمقتل عثمان -رضي الله عنه-، والصراع الذي وقع بين علي ومعاوية -رضي الله عنهما-، واستحضار كل الأكاذيب والأباطيل التي روجها الشيعة الرافضة عن الصحابة في هذه الفترة، وبثها في كتبهم ومحاضراتهم للتدليل على فساد الصحابة، وكما هو معلوم فإن للصحابة منزلة ومكانة خاصة في الإسلام وفي قلوب المسلمين، فهم صحبة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وجنده ورجاله، وهم حملة الدين، ونقلة السنّة النبوية، ووسائط الشريعة بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وعموم الأمة، لذلك أثنى عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم في عشرات الأحاديث، بيّن فضلهم ومكانتهم وأثرهم. والطعن فيهم إنما هو طعن في الدين، وطعن في كل ما نقلوه عن رسول الله، كما أنه يفتح بابا واسعا للتشكيك والطعن في الإسلام والقرآن والسنّة، إذ أنهم الذين نقلوا لنا كل ذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
رابعا: المطالبة بإعادة تفسير الشريعة
وذلك في ضوء المتغيرات الحادثة، زعما منهم أن ذلك يمكن الشريعة من مواكبة التطورات الجارية، وهم يطالبون تحت هذا المسمى البراق الذي يظن سامعه أنه فتح لباب الاجتهاد، بعدم استفراد علماء الدين وحدهم بتفسير نصوص الشريعة، ويطالبون بلجنة من الخبراء في كل العلوم مثل الاقتصاد والاجتماع والسياسة والتاريخ والتكنولوجيا وغير ذلك من العلوم والفنون، وأيضا من المسلمين وغير المسلمين أيضا، من أجل المساهمة بمداولاتهم ونتائج نقاشهم في الوصول إلى فهم جديد وصياغات جديدة لنصوص الشريعة ! وعند تطبيق هذا الكلام على نصوص الشريعة نجدهم يطالبون مثلا بمناقشة شهادة المرأة ولماذا هي على النصف من شهادة الرجل، وكذلك الميراث ؟ وهل من المصلحة وفي ظل الظروف الاقتصادية القائمة إعادة النظر فيها ؟ ويطالبون برأي الطب في تأثير الصوم على نمو الصبيان وصحة الشيوخ، ويطالبون الاقتصاديين بدراسة جدوى عن حجم الإنتاج في شهر رمضان، وتأثير الصوم على الاقتصاد ككل، وقس على ذلك كل أصول الدين وفروعه.
خامسا: الطعن في أهل العلم
بالاستخفاف بمقامهم وتشويه صورتهم والطعن في نزاهتهم، فهم يشوهون صورة الفقهاء ويصورنهم على أنهم قوم لا خلاق لهم، لا يعلمون إلا لخدمة أهواء السلطان، وأنهم يختلقون الأحاديث ويغلقون باب الاجتهاد، ويقفون عائقا أمام التطور، كأن ليس في سجل العلماء الزاخر بالأسماء اللامعة إلا نماذج السوء من علماء باعوا دينهم لدنياهم، وصاروا نعالا للسلاطين والطغاة، وهم يربطون عمدا بين علماء الإسلام الكبار وأئمته العظام، وبين كهنوت المسيحية من أجل التبرير لظهور طبقة العلمانية في بلاد الإسلام كما ظهرت في أوروبا ردا على ضلال وطغيان رجال الدين هناك.
أيضا هم يشوهون صورة المحدثين ويطعنون في الأئمة الكبار أمثال البخاري ومسلم والترمذي، ويتهمونهم باختلاق الأحاديث ونسبتها للنبي صلى الله عليه وسلم، وخلط أقوال وآثار السابقين في كتب السنّة للتمويه على الناس، كما يتهمونهم بدس أخبار مكذوبة عن مجريات الأمور في الدولة الإسلامية وما سيقع من فتن وأمور عظام في أواخر الأمة، وذلك لقطع الطريق على استخدام هذه النصوص الثابتة في مواجهة ضلالاتهم وأباطيلهم الكثيرة.
أيضا عملوا على تحطيم سمعة المفسرين، والترويج لاتهامهم بأنهم قد أدخلوا المفاهيم الفارسية القديمة في نصوص الشريعة، بتفسير الآيات الخاصة بالحجاب ووضع المرآة في الإسلام وفقا لهذه المفاهيم الدخيلة، ويقول قائلهم: " وهكذا نجح فقهاء الفرس ثم الأتراك من بعدهم ومن تابعهم من المفسرين العرب في إيهام عامة المسلمين بأن تفسيرهم المنبثق عن التقاليد الفارسية أو التركية القديمة أو عن مصلحة رجال العرب جزء لا يتجزأ من الإسلام، ومنبثق عن القرآن " ( حسين أحمد أمين في كتاب المسلم الحزين ص 75)
سادسا: إعلاء شأن الثقافة الغربية
وهو من أبرز معالم العلمانيين في هدم منار الدين، فهم ينظرون إلى الثقافة والحضارة والفكر الغربي بإجلال واحترام لا نظير له، بل يفوق احترامهم للقرآن والسنّة، فتجد الواحد منهم في حالة انبهار غير عادي بكل منتجات الغرب الثقافية والفكرية، وهم يدعون المسلمين إلى وجوب الأخذ بها وتقديمها على ما عداها، لذلك نجد كتب العلمانيين زاخرة بالأسماء الغربية من المفكرين والأدباء والمثقفين، ولا تكاد ترى اسم عربيا أو مسلما واحدا على الرغم من إقرار الغرب بفضل العرب والمسلمين في تقدمهم وتفوقهم، بل إنهم يتخذون من أقوال روسو وهوبز وكنت وملتون وكولبريدج وغيرهم مفكري الغرب ومنظري العلمانية في أوروبا، أدلة وشواهد عند مناقشة الأفكار الإسلامية وتفسير نصوص الشريعة، وذلك هو الضلال المبين.
التعليقات