اقتباس
لقد أدى هذا الخلل الكبير إلى تسلل أفراد إلى مواقع لا يحقّ لهم بلوغها؛ لعدم توافر شروطها فيهم، وكذلك أدّى إلى أن تخسر الدعوة طاقات ومواهب كثيرة قتلتها الفوضى الإدارية والتحاسد والتباغض والتناجش والصراع على الدنيا وزخارفها وعصبياتها.
إنَّ دراسة واقع العمل الإسلاميّ أمر هام في حياة الحركات الإسلامية، وفي حياة الأمّة المسلمة كلّها. إنَّ مثل هذه الدراسات هي التي تنمّي العمل وتساعد على تطوره وقوته.
يسمّي بعضهم هذه الدراسات والأبحاث بالنقد والنقد الذاتي، كما اشتهر في العالم الشيوعي، أو النقد عامة كما عرف في العالم الغربي. وقد انتشرت هذه اللفظة في حياتنا، ولم ينتشر نهجها المتبع لدى هؤلاء أو لدى هؤلاء. ولكن انتشرت مع اللفظة ظلال غير محببة.
أما الإسلام فقد وضع قاعدة أعظم من ذلك بكثير. وضع قاعدة النصيحة، حتى جعلها كأنها هي الدين تعبيراً عن شمولها واتساعها وأهميتها، كما جاء في حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الدين النصيحة …" الحديث.
وعندما نتتبع قواعد النصيحة وآدابها، ونهجها وأُسلوبها، نجدها تشمل كلّ خير يمكن أن يدعو إليه النقد، وتنبذ كلّ شرّ قائم فيه(1)، ذلك كلّه من خلال آيات وأحاديث، وممارسة كريمة في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وفي حياة صحابته.
ولكن النصيحة التي دعا إليها الإسلام غابت عن واقع المسلمين اليوم، والنقد الذي دعا إليه أولئك أخذنا منه التجريح والتشهير، والخصومة والعداء.
فلا بد إذن من عودة النصيحة إلى حياة المسلمين بكلّ قواعدها وآدابها، حتى تصبح النصيحة منهجاً ربانياً يُمارس عملياً في واقعنا في التربية والبناء والتدريب والإعداد والممارسة والتطبيق.
ومن هذه القاعدة نخرج بأمر هام ألا وهو ضرورة ما يمكن أن يُسمّى "وقفة المؤمن ومراجعة الحساب"، حتى تقف كلّ حركة إسلامية مع نفسها، فتدرس واقعها وتكشف أخطاءها وصوابها؛ لتعالج هذه وتستفيد من تلك.
ولقد ضرب القرآن الكريم نماذج رائعة لهذه الوقفات. فقد وقف القرآن الكريم مع غزوة بدر وأُحُد وحنين وتبوك والخندق وغيرها وقفات إيمانية رائعة، تقدّم للمسلمين نماذج يتعلمون منها أبد الدهر، ووقف كذلك مع أحداث هنا وهناك، ووقف مع سلوك أفراد، ومع حركات معادية ومناهج محاربة، وقف وقفات الدراسة والتحليل، والنصح والتوجيه، وكشف الأخطاء ومواطن الزلل، ثمّ وضع العلاج والحلول.
وحين نحاول النصح لدعوة الله وحركاتها المختلفة، فإننا نشترط أولاً على أنفسنا أن نصدق النية خالصة لوجه الله، مطهّرة من شهوات الدنيا، بعيدة عن الأحقاد والتجريح، نقول بما نعلم ونتقي الله حتى لا نجرح أو نسيء.
نؤكد هذا المعنى لمعرفتنا بما نعانيه نحن اليوم من حساسية تجاه النصيحة، حتى غلب النُفُور منها، وأحاطت الشبهة بمن يقوم بها. وكأن النصيحة لا تصدر إلا من حاقد يعصف به الحقد والغضب. كلا! إن النصيحة الصادقة الجريئة تخرج في حقيقتها وجرأتها وصدقها من قلب ملأته السكينة بالإيمان، والطمأنينة بالتقوى، والثقة بالعلم والمحبّة والموالاة.
وإذا كنتُ أتحدث في الصفحات المقبلة عن أخطاء العمل الإسلامي، عن أخطائه فقط، فلأن هذا هو موضوع المقالة. ولكنني لابدّ أن أُشير وأؤكد فضل العمل الإسلامي، مهما تكن أخطاؤه، وفضل الدعاة الصادقين كلّهم قادةً وأفراداً، داعياً الله -سبحانه وتعالى- أن يتقبّل منهم ومنا أحسن ما عملنا، وأن يغفر لنا سيّئاتنا ويتجاوز عنها إنه هو الولي الحفيظ.
إننا نعرض هنا ما نعتقد أنها مواطن خطأ وضعف، يجب على كلّ حركة أن تعود لنفسها، وتدرس مسيرتها؛ لتكشف هي بنفسها أخطاءها دون خوف أو وجل أو تردُّد. فهذا مصدر قوة ونماء وحياة، وبتركه نفقد قوّة ونعطّل نماء، إنها كلمات نصح خالص لله -سبحانه وتعالى-، نقدّمه للحركات الإسلامية كلّها، مهما اختلفت أسماؤها ومواقعها لا نقصد حركة معيّنة بذاتها، ولا نستطيع هنا أن نقدِّم دراسة موسعة للعمل وواقعه، ولكننا نقدِّم موجزاً سريعاً لأهمّ القضايا التي تحتاج إلى دراسة وبحث، ووقفة ونصح، حسب ما نعتقد:
1-التصوُّر الإيماني والتوحيد: (2)
إن عدم التركيز على قضيّة التصوّر الإيماني والتوحيد في الدعوة والتربية والبناء والتدريب؛ ليكونا القضيّة الأولى في حياة الإنسان، والحقيقة الكبرى في الكون، وليؤديا دورهما الحقّ في صياغة الفكر والنهج والسلوك والمواقف، إن عدم التركيز على هذه القضيّة أدّى إلى اضطراب في واقع العمل الإسلامي، وربّما كان أهم الأسباب لما يعانيه العمل الإسلامي من خلافات وانشقاقات، واضطراب في المواقف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. كما أن عدم التركيز على هذه القضيّة الأولى جعل القضيّة الأولى في الميدان العملي هي دعوة الناس إلى تكتلات وأحزاب، وإلى أفكار هذه التكتلات والأحزاب، فتضعف الجهود المبذولة لبناء التصوّر الذي يعرضه منهاج الله للإيمان والتوحيد، وتضعف بعد ذلك نواح عديدة في واقع العمل الإسلامي، وينتج عن ذلك ضعف الجهود في طرح المناهج وبناء التخطيط ورسم الدرب، حين تنشغل الطاقات في ميادين الخلافات الفكرية.
لذلك نعتبر هذه القضيّة هي القضيّة الأولى في العمل الإسلامي، والهدف الثابت الأول من أهدافه، لبناء التصور الحقّ للإيمان والتوحيد، ولتصحيح التصورات المضطربة لدى بعض الناس، ولترسيخ التصوّر القرآني للإيمان والتوحيد، وترسيخ مبادئهما وقواعدهما، كما وردت في كتاب الله وسنّة رسوله -صلى الله عليه وسلم-. ولكننا في الوقت نفسه لا نرى أنه يمكن فصلهما عن سائر قضايا الدعوة، فعلى العكس من ذلك فإننا نراها مرتبطة مع سائر قضايا الدعوة، متداخلة معها، سواء في الناحية النظرية الفكرية أو العملية التطبيقية، حتى يأخذ الولاء صورته الأمينة، والعهد معناه الحقّ، وحتى تمضي الممارسة الإيمانية أقرب للتقوى.
لقد أصاب التصوّر الإيماني في واقعنا اليوم خلل كبير، امتدّ أثره إلى مختلف نواحي الممارسة الإيمانية في حياة الناس. لقد طغت بعض العادات والأعراف على نصوص الدين، ودخلت البدع في بعض نواحي السلوك، وتخلّى الكثيرون من المسلمين عن الشعائر كلّها أو بعضها، ومارس بعضهم أشكالاً من الفسق، ومع ذلك ظلّوا في واقع العالم الإسلامي طبقة "عائمة" تائهة، تحتلُّ مراكز ومواقع، قد يستغلها كثير من المجرمين والمفسدين في الأرض.
التصوّر الإيماني الحقّ يرسمه الله منهاج الله قرآناً وسنّة. فمن أجل هذه الحقيقة الكونيّة الكبرى بعث الله النبيين والمرسلين، وأنزل الكتب السماوية، ومن أجلها بعث الله محمداً -صلى الله عليه وسلم- خاتم الأنبياء والمرسلين، وأنزل عليه الكتاب ليبلغه للناس كافّةً بشيراً ونذيراً، فجاء منهاج الله -قرآناً وسنّة- باللغة العربية؛ ليفصّل هذه القضيّة الكبرى والحقيقة الكبرى تفصيلاً خاتماً جامعاً لا يترك لأحد العذر في التفلّت إلا أن تقوم عليه الحجة.
2-هجر الكثيرين لمنهاج الله وغيابه عن أداء دوره الحقيقي: (3)
قرون طويلة غاب منهاج الله فيها عن واقع المسلمين. وكادت اللغة العربية، نفسها تغيب في موجات اللغات العامية واللغات الأجنبية، فزاد الجهل باللغة من الجهل بكتاب الله وسنّة رسوله، حتى عجمت الألسن وجفّ العلم وهبطت العزائم.
من خلال هذا الوهن الممتدّ في الأمة نشأت الحركات الإسلامية؛ لتعالج قضايا عديدة، ورفعت أجمل الشعارات وأحبّها للنفوس، ولكن الواقع لم يكشف عن دور حقيقي لكثير من الشعارات، ولا عن مناهج تطبيقية عملية تعالج هذا الضعف أو ذاك. وغلب على بعض الناس جهود ارتجالية لا تحمل عمق العلاج، فامتدّ المرض في واقع الأمة حتى يومنا هذا؛ لنلمس آثار الأمراض في الهزائم المتتالية والنكبات المتلاحقة.
كان لمنهاج الله الدور الأول في بناء الجيل المؤمن في مدرسة محمد -صلى الله عليه وسلم-. فهل قام منهاج الله اليوم في واقعنا بالدور نفسه؟ وهل أخذ مكانه الحقّ في النهج والتخطيط؟ هل عادت القلوب تنهل منه؟
إن غياب منهاج الله -قرآناً وسنّة ولغة عربية- زاد من خلل التصور في الإيمان والتوحيد، وضاعف العلل والأمراض، وأصبح الضعف هنا يزيد من الضعف هناك، والضعف هناك يزيد من الضعف هنا، في تأثير متبادل بين هذا الضعف وذاك.
كثير من الناس يُقبلون على كتاب الله في شهر رمضان أو في المواسم، يهزون رؤوسهم مع التلاوة دون أن تهتز قلوبهم أو تخشع نفوسهم، ومنهم من حسب كتاب الله وقف على العلماء، وأن الله خلقهم جهلاء؛ ليبقوا جهلاء مع العامة من الناس لا ينهضون لواجب أو تكليف.
ومنهم من رأى أن يأخذ بالقرآن وحده دون السنّة، أو السنّة يلتزمها أكثر من كتاب الله، يُفرّقون منهاج الله أجزاء، فيأخذون ويذرون.
ومنهم من انحصرت صلته في كتاب الله في آيات متفرّقة يأخذونها من هنا ومن هناك. حتى غلبت كلمة "الثقافة" على "العلم"، كأن الإسلام ثقافة عامة يُكتفى من أجلها بقدر محدود يسدُّ حاجة الندوات والمجالس ولا يسدُّ حاجة النفوس لبنائها والأجيال لإعدادها، فاستبدل بعضهم الكتب البشرية بمنهاج الله لتحلّ محلّه، وأنَّى لكتاب بشري أن يقوى على ذلك. وظلّت الكتب البشرية تُمثّل في معظمها جهداً فرديّاً لا يخضع لنهج محدّد ولا يحقّق مهمّة محدّدة، فتعدّدت المصادر للشباب المسلمين وتكوّنت مدارس شتّى ومذاهب متفرقة لا تخضع لمناهج مدروسة فتنافرت الثقافات والمفهومات، وتنافرت القلوب والأرواح.
3-جهل الواقع وعدم وعيه ودراسته: (4)
قرون طويلة مرّت على المسلمين وهم في غفوة ساهون لا يدرون ما يجري حولهم ولا أمامهم ولا خلفهم. لم يعد الواقع الذي يعيشونه مصدر تدبّر ودراسة؛ ليقدّم الموعظة الجليّة والآية البيّنة، حتى تزداد القلوب إيماناً ويقيناً، وتزيد إخباتاً لربّها وخشوعاً. لقد أغمض المسلمون عيونهم عن الواقع حتى وجدوا أنفسهم في لهيب الفتنة، استزلهم إليها شياطين الإنس والجنّ. فما عادوا يعرفون العدوّ من الصديق، والغادر من الأمين.
ولقد كان جهلهم بالواقع سبباً من أسباب أخطاء متراكمة في ممارسة دينهم وإيمانهم، يخالفون الدين ويحسبون أنهم على صراط مستقيم، يُستدرجون إلى الضلالة وهم ساهون، وينسلّ الأعداء بينهم ينشرون الفتنة والفرقة والشحناء والبغضاء، فيتهافتون فيها كتهافت الفراش في النار.
إذا استعرضنا تاريخنا لقرون خلت نجد هذه الظاهرة جليّة، ونجد أخطارها بارزة واضحة، فلقد كان من أوضح نتائج جهلنا بالواقع أن طعنّا أنفسنا، وأسهمنا بأيدينا في كثير من نكباتنا. ألم يُسهم بعض المسلمين في إسقاط الخلافة؟! ألم يرفع بعض المسلمين شعارات مناهضة للإسلام؟! ألم يفتح بعض المسلمين صدروهم وقلوبهم لأعداء الإسلام؟!
وفي واقع العمل الإسلامي اختلطت الأمور كثيراً. ولعب الجهل بالواقع دوراً واسعاً فيما حلّ فيه من نكبات، واندسَّ المنافقون والأعداء واتتهم الفرصة فأحكموا الضربة وسدّدوا الطعنة وعلّقوا المشانق، ذلك كلّه من خلال غفوة وجهل واضطراب، أسباب كثيرة وليس سبباً واحداً، كانت وراء عدد من النكبات والمصائب. ولكنّ جهل الواقع كان أحد الأسباب الهامة.
ودراسة الواقع لا تعني مطالعة صحيفة أو الاستماع إلى إذاعة فحسب، ولكنّها جهد ومعاناة، ودراسات وأبحاث، تَرُدُّ أحداث الواقع إلى منهاج الله ردّاً أميناً، ومن خلال ذلك الجهد المبارك، من خلال منهاج الله، يُفهم الواقع. والواقع يراه العلماني من خلال معتقداته فتكون له رؤيته الخاصة به، والقومي كذلك، وكذلك سائر أصحاب النظريات المضطربة. أما المؤمن فله نظرته الخاصة ورؤيته المتميزة، ووعيه الإيماني العميق للواقع، يتفرد به عما سواه بالعمق والنهج المستقيم، وقد تلتقي رؤية غيره من خلال اعوجاجها مع رؤيته المستقيمة في نقاط محددة، ولكنّ النهج يظلّ مختلفاً كل الاختلاف، فنتيجة الضغط الرهيب للأفكار المنحرفة، ونتيجة لجهل الدعاة بالواقع أحياناً، ونتيجة إلى ضعف الزاد من منهاج الله، نتيجة لهذا كلّه انحرفت رؤية بعض الدعاة المسلمين للواقع، فرأوه بغير منظار الإيمان والتوحيد، وبغير ميزان منهاج الله. فمنهم من أخذ يُعلي من شأن كلّ شعار غربي جديد، فريق رفع "الاشتراكية"، وانساق مع دعايتهم حتى لبس رداءها وصبغها بطلاء إسلامي، ولما انتهت هذه النغمة هبّ فريق يجعل من القومية شعاراً إسلامياً، وبعد حين هبّ آخرون يجعلون الديمقراطية سنّة من سنن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، أو دعوة حضارية أو لحناً إسلامياً. أحد الدعاة يقول: "نحن مع الديمقراطية بكلّ أبعادها ومعانيها"(5). وآخرون انغمسوا في ممارسة الديمقراطية بعد تمنُّع وتردّد، وآخرون سقطوا في العلمانيّة ومذاهبها، والحداثة ومذاهبها، لقد اختلطت الأوراق في الساحة الإسلامية اختلاطاً عجيباً، وحار كثيرون فيما يرون ويسمعون، وزادت البلبلة والانقسام.
لقد برز هذا الخلل في واقع المسلمين عامة، وكذلك في واقع العمل الإسلامي، وفي تباين وجهات النظر واختلاف الرؤية، حين كانت العاطفة والارتجال، وعدم توافر الدراسات المنهجيّة العميقة، وعدم ردّ الواقع إلى منهاج الله، حين كان هذا كلّه هو الذي يكوّن الرؤية للواقع، والنظرة للأحداث. وحسبنا أن نسأل أين هي الدراسات الإيمانية المنهجيّة للواقع؟!
4-اضطراب الممارسة والتطبيق:
من البداهة أن يضطرب العمل وتختلط الممارسة ويتناقض التطبيق، حين تنضمّ آفات إلى آفات، حين ينضمّ خلل التصوّر الإيماني، والجهل بمنهاج الله والجهل بالواقع، حين ينضمّ هذا كلّه بعضه إلى بعض فكيف تستقيم الممارسة ويصدق العمل؟!
لقد أدّى هذا الوهن إلى أخطاء تراكمت مع الزمن، لم تجد فرصة للعلاج، ولا قدرة على المواجهة، ولا سبيلاً للإصلاح، تراكمت الأخطاء حتى سكت الناس عنها، ثمّ اعتادوها، ثمّ ألفوها وحسبوها حُسْناً، ثمّ أصبحت عادة يفوق حكمها حكم النصّ الشرعي، ثمَّ أصبحوا دُعاةً لها.
كان من أبسط هذه الأخطاء، على خطورتها في ميزان الإسلام، انتشار الغيبة والنميمة والافتراء والظلم بين المسلمين، حتى لم يعد لعرض المسلم حُرمة تُرْعَى بين إخوانه، ولقد غلب الظنّ الذي نهى عنه الإسلام حتى جعله بعضهم يقيناً، ثمّ اتخذ بسببه موقفاً وسلوكاً وقراراً، وتمضي السنون تعمل فيها الفتنة حتى يكتشف المسلم أنه اتبع الظنّ والهوى، والقيل والقال، وما تبيّن ولا تحقق، وأنه والى قريباً أو صديقاً على باطل، فآذى بذلك نفسه وآذى المسلمين وأشعل نار الفتنة والفساد. قواعد إيمانية كثيرة يحفظها معظم المسلمين في الأرض، ولكن لا يطبقونها كما يأمرهم بها الله. معظم المسلمين يعلمون قول الله -سبحانه وتعالى-: (إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ …) [الحجرات:10]، وحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المسلم أخو المسلم …"، ولكن أين التطبيق والممارسة، وأين حقيقة الأخوة الإيمانية، وأين الموالاة بين المؤمنين؟!
لقد تمزّقت الروابط الإيمانية بصياغتها الربّانية، وأخذت صورتها الجاهلية وصياغتها الجاهلية. تحوّلت حبّ الديار والأهل إلى عصبية قومية جاهلية، تصوغها الأهواء والعواطف بعيدة عن نداوة الإيمان؛ فتمزّقت الحركة الإسلامية الواحدة إلى فرق شتّى، وتمزّقت الدعوة الإسلامية إلى مذاهب متناحرة، وتمزّقت الأمة كلّها إلى أقطار متصارعة، واستذلَّ الأعداء الجميع وهانت الأمة وتناهبتها شعوب الأرض.
حاجز سميك وقف بين العلم والتطبيق، لم يعد الجهل وحده مصدر وهن وهلاك. ولكنّ العلم فَقَدَ بركته وخيره، حين أصاب التصوّر الإيماني خلل، وحين غلبت الأهواء، وانتشرت المعاصي، وعلا القلوب الران.
مسلم يهاجم القومية والديمقراطية في مرحلة من مراحل دعوته، ثمّ ينغمس في ممارستها، وآخر يقول: "إذا كانت القوميّة تعني أن ينهج الأخلاف منهج الأسلاف، وأن عظمة الأب مما يعتزّ به الابن، وإذا كان يقصد بالقومية أن عشيرة الرجل وأمته أولى الناس بخيره، فهذا أمر يوافقه الإسلام". ألفاظ محببة إلى النفوس. ولكنّها عائمة لا تهدي إلى سواء السبيل. فمن هم الأخلاف ومن هم الأسلاف ومن هي عشيرته؟ أهم أهل بلده وقطره خاصة؟! وما هو النهج الذي يُتَّبع؟! وأما الله -سبحانه وتعالى- فقد قال: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة: 24].
5-غياب الميزان وردّ الأمور إلى منهاج الله:
إن ما عرضناه في الصفحات السابقة من خلل في التصور الإيماني وجهل بمنهاج الله، وجهل بالواقع أدى -بصورة حتمية إلى اضطراب الممارسة في الواقع كما عرضنا قبل قليل. ومن أهم مظاهر هذا الاضطراب هو غياب " الميزان " من أيدي الناس، وغيابه عن فكرهم وعملهم، ولأهمية وجود " الميزان " في واقع الحياة أفردنا له فقرة خاصة للتأكيد، وليكون إفراده هنا سبباً في تقدير خطورة هذا الأمر، وأهمية بنائه في واقع المسلمين.
" الميزان " الذي نعنيه هو ما تحدّد به منازل الناس وأقدارهم، ووسعهم وطاقتهم. إنه مجموعة الأسس الإيمانية والقواعد الربانيّة التي تضبط حكم الناس على الناس، واختيارهم لهذا الأمر أو ذاك.
إلى هنا ينتهي المقال الأول ويتبع المقال الثاني إن شاء الله تعالى.
التعليقات