عناصر الخطبة
1/الفرح والاستبشار بنزول الأمطار 2/إنزال الغيث من علم الغيب 3/موقف المسلم من أخبار الطقس وتوقعات نزول المطر 4/من أسباب نزول الغيث.اقتباس
نُزُولَ الغَيثِ مِمَّا اختَصَّ اللهُ بِهِ مِنَ العِلمِ, وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ العَبدَ الَّذِي أَسلَمَ قَلبَهُ لِرَبِّهِ لا يَفرَحُ كَثِيرًا؛ لأَنَّ خَبِيرًا بِالطَّقسِ بَشَّرَ بِحَالَةٍ أَو وَعَدَ بِأُخرَى, وَلا يَحزَنُ لأَنَّ خَبِيرًا آخَرَ استَبعَدَ نُزُولَ الغَيثِ في مَوسِمٍ مِنَ المَوَاسِمِ, وَلَكِنَّهُ مُتَعَلِّقُ القَلبِ بِرَبِّهِ, دَائِمُ التَّطَلُّعِ إِلى مَا عِندَهُ...
الْخُطبَةُ الْأُولَى:
الْحَمْدُ للهِ نَحْمَدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا، ومن سيئاتِ أعمالِنا، مَن يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُه ورسولُه, أَمَّا بَعدُ:
فَيَا عِبَادَ اللهِ: اِتَّقُوا اللهَ -تَعَالى- وَاستَغفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيهِ, وَعَلِّقُوا القُلُوبَ بِهِ وَتَوَكَّلُوا عَلَيهِ, وَثِقُوا بِوَعدِهِ وَفَوِّضُوا الأُمُورَ إِلَيهِ؛ (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)[الطلاق: 2، 3].
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: في الأُسبُوعِ المَاضِي دَعَا وَليُّ الأَمرِ إِلى إِقَامَةِ صلاةِ الاستِسقَاءِ, وَحَضَرَ الصَّلاةَ مِن عِبَادِ اللهِ مَن حَضَرَهَا, وَاستَبشَرَ بها مَنِ استَبشَرَ, وَتَرَكَهَا مِنَ النَّاسِ مَن تَرَكَهَا؛ بِلا عُذرٍ وَمَا أَكثَرَهُم!, وَفي هَذَا الأُسبُوعِ جَعَلَ بَعضُ مَن لَهُمُ اشتِغَالٌ بِمُتَابَعَةِ أَحوَالِ الجَوِّ وَتَقَلُّبَاتِهِ, يُبَشِّرُونَ بِغَيثٍ سَيَعُمُّ أَجزَاءً وَاسِعَةً مِن بِلادِنَا, وَيَشمَلُ كَثِيرًا مِنَ المَنَاطِقِ والجِهاتِ؛ بِنَاءً عَلَى مَا قَرَأَتهُ وَسَائِلُ الرَّصدِ لَدَيهِم, مِن وُجُودِ مُنخَفَضٍ جَوِّيٍ, وَتَزَايُدِ نِسبَةِ الرُّطُوبَةِ في العُلُوِّ, وَالتِقَاءِ رِيَاحٍ دَافِئَةٍ مِن جِهَةٍ بِأُخرَى بَارِدَةٍ مِن جِهَةٍ؛ فَفَرِحَ بِذَلِكَ كَثِيرُونَ وَاستَبشَرُوا بِهِ, وَحُقَّ لَهُم أَن يَفرَحُوا وَيَستَبشِرُوا.
وَلَكِنَّ الغَرِيبَ العَجِيبَ أَنَّهُم جَعَلُوهُ كَالوَاقِعِ الَّذِي لا شَكَّ في حُصُولِهِ وَلا رَيبَ!؛ فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنهُم يَنقُلُهُ لِلآخَرِ مُبَشِّرًا بِهِ, وَصَارَ كَثِيرُونَ يَنشُرُونَهُ في تَغرِيدَاتِهِم وَرَسَائِلِهِم نَشرَ المُوقِنِ بِهِ, وَالحَقُّ أَنَّ في هَذَا مَا فِيهِ مِمَّا قَد يُكَدِّرُ صَفوَ التَّوحِيدِ, حِينَ لا يَقُومُ النَّاسُ لِصَلاةِ الاستِسقَاءِ, وَهِيَ اتِّصَالٌ بِالخَالِقِ الرَّازِقِ الَّذِي بِيَدِهِ كُلُّ شَيءٍ, قِيَامَهُم لأَخبَارٍ بَشَرِيَّةٍ عَابِرَةٍ, تَحتَمِلُ الصِّدقَ وَالكَذِبَ وَالحُدُوثَ وَعَدَمَهُ, مَعَ أَنَّ نُزُولَ الغَيثِ وَاحِدٌ مِن خَمسَةِ أُمُورٍ غَيبِيَّةٍ لا يَعلَمُهَا إِلاَّ اللهُ, قَالَ -تَعَالى-: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[لقمان: 34].
نَعَم -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- إِنَّ نُزُولَ الغَيثِ مِمَّا اختَصَّ اللهُ بِهِ مِنَ العِلمِ, وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ العَبدَ الَّذِي أَسلَمَ قَلبَهُ لِرَبِّهِ لا يَفرَحُ كَثِيرًا؛ لأَنَّ خَبِيرًا بِالطَّقسِ بَشَّرَ بِحَالَةٍ أَو وَعَدَ بِأُخرَى, وَلا يَحزَنُ لأَنَّ خَبِيرًا آخَرَ استَبعَدَ نُزُولَ الغَيثِ في مَوسِمٍ مِنَ المَوَاسِمِ, وَلَكِنَّهُ مُتَعَلِّقُ القَلبِ بِرَبِّهِ, دَائِمُ التَّطَلُّعِ إِلى مَا عِندَهُ, كَثِيرُ الثَّنَاءِ عَلَيهِ بما هُوَ أَهلُهُ, لاهِجٌ بِذِكرِ صِفَاتِهِ وَحَمدِهِ وَشُكرِهِ, مُبَالِغٌ في دُعَائِهِ وَسُؤَالِهِ الخَيرَ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيهِ, وَاستَغَاثَتِهِ وَالانطِرَاحِ بَينَ يَدَيهِ.
وَأَمَّا إِخبَارُ الخُبَرَاءِ بِنُزُولِ المَطَرِ, أَو تَوَقُّعُهُم لَهُ في المُستَقبَلِ؛ بِنَاءً عَلَى مَا تَقتَضِيهِ الآلاتُ الَّتي تُقَاسُ بها أَحوَالُ الجَوِّ, فَلا يُشَكِّكُهُ فِيمَا لَدَيهِ مِن عِلمٍ يَقِينيٍّ بِأَنَّ نُزُولَ الغَيثِ لا يَعلَمُهُ إِلاَّ اللهُ, وَحَتى وَإِنْ نَزَلَ مَرَّةً أَو أَكثَرَ مُوَافِقًا لِمَا قَالَهُ الخُبَرَاءُ, فَإِنَّ هَذَا لَيسَ مِن عِلمِ الغَيبِ في شَيءٍ؛ لأَنَّ القَائِلَ بِهِ استَنَدَ إِلى أَمرٍ مَحسُوسٍ, وَاستَنتَجَهُ بِآلاتٍ دَقِيقَةٍ تُرَاقِبُ حَالاتِ الجَوِّ, وَهِيَ في حَقِيقَةِ الأَمرِ لا تُحدِثُ في مَلَكُوتِ اللهِ شَيئًا لم يُرِدْهُ اللهُ, وَلَكِنَّهَا تَتَتَبَّعُ سُنَنَهُ في الكَونِ, وَتُنبِئُ بما تَقتَضِيهِ تِلكَ السُّنَنُ المُحكَمَةُ الَّتي لا تَتَغَيَّرُ وَلا تَتَبَدَّلُ وَلا تَتَحَوَّلُ, وَلا تَتَخَلَّفُ نَتَائِجُهَا إِذَا وُجِدَت أَسبَابُهَا, وَهِيَ في الغَالِبِ مَحصُورَةٌ في سَاعَاتٍ مُعَيِّنَةٍ, وَتُخطِئُ أَحيَانًا كَمَا تُصِيبُ أَحيَانًا أُخرَى.
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ-, وَلْنَكُنْ بما عِندَ اللهِ أَوثَقَ مِنَّا بما في أَيدِينَا, وَلْنَحذَرْ مِن نِسبَةٍ شَيءٍ لِغَيرِ خَالِقِهِ -سُبحَانَهُ-؛ فَفِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ عَن زَيدِ بنِ خَالِدٍ الجُهَنيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- صَلاةَ الصُّبحِ بِالحُدَيبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَت مِنَ الليلَةِ, فَلَمَّا انصَرَفَ أَقبَلَ عَلَى النَّاسِ, فَقَالَ: "هَل تَدرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُم؟" قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعلَمُ, قَالَ: "أَصبَحَ مِن عِبَادِي مُؤمِنٌ بي وَكَافِرٌ؛ فَأَمَّا مَن قَالَ: مُطِرنَا بِفَضلِ اللهِ وَرَحمَتِهِ, فَذَلِكَ مُؤمِنٌ بي وَكَافِرٌ بِالكَوكَبِ, وَأَمَّا مَن قَالَ: بِنَوءِ كَذَا وَكَذَا, فَذَلِكَ كَافِرٌ بي وَمُؤمِنٌ بِالكَوكَبِ".
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ * وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ * وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ * وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)[الشورى: 27 - 30].
الْخُطبَةُ الثانية:
الحمد لله على عظيم فضله وجزيل نعمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالى- وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ, وَاشكُرُوهُ وَلا تَكفُرُوهُ, وَاذكُرُوهُ وَلا تَنسَوهُ, وَاعلَمُوا أَنَّ العِلمَ التَّجرِيبيَّ الصَّحِيحَ, لا يُعَارِضُ النَّصَّ الشَّرعِيَّ الصَّرِيحَ, وَلَكِنَّ المَقصُودَ أَنَّ المُسلِمَ يَجِبُ أَن يَكُونَ فِيمَا عِندَ اللهِ أَشَدَّ مِنهُ يَقِينًا بما يَقُولُهُ البَشَرُ الضَّعفَاءُ, وَإِن كَانُوا فِيهِ مُستَنِدِينَ إِلى عِلمٍ وَخِبرَةٍ.
وَمِنَ اليَقِينِ الَّذِي يَجِبُ أَن يَكُونَ عَلَيهِ المُسلِمُ وَيَعَضَّ عَلَيهِ بِالنَّوَاجِذِ, أَنَّ ثَمَّ أَسبَابًا شَرعِيَّةً لا تَتَخَلَّفُ نَتَائِجُهَا بِأَمرِ اللهِ وَتَقدِيرِهِ, وَمِن أَعظَمِهَا دُعَاءُ المَرءِ رَبَّهُ وَاستِسقَاؤُهُ, وَسُؤَالُهُ الغَيثَ وَاستِنزَالُ رَحمَتِهِ, سَوَاءٌ مَعَ المُسلِمِينَ في صَلاةِ الاستِسقَاءِ, أَو في أَوقَاتِ الإِجَابَةِ وَأَحوَالِهَا المُختَلِفَةِ؛ كَالسُّجُودِ, وَدُبُرِ الصَّلاةِ, أَو بَينَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ, أَو حِينَ يَجلِسُ الإِمَامُ عَلَى المِنبَرِ لِلخُطبَةِ, أَو في آخِرِ سَاعَةٍ مِن يَومِ الجُمُعَةِ, أَو في جَوفِ الليلِ وَوَقتِ الأَسحَارِ, أَو عِندَ شُعُورِهِ بِالحَاجَةِ المَاسَّةِ وَاشتِدَادِ الكَربِ, مَعَ كَثرَةِ الاستِغفَارِ قَبلَ ذَلِكَ وَفي أَثنَائِهِ وَبَعدَهُ, وَصِدقِ التَّوبَةِ وَعِظَمِ الإِنَابَةِ؛ فَاللهُ -تَعَالى- لا يُخلِفُ المِيعَادَ, وَقَد قَالَ -تعالى- وَهُوَ أَصدَقُ القَائِلِينَ: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)[غافر: 60], وَقَالَ -سُبحَانَهُ-: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)[البقرة: 186], وَقَالَ -جَلَّ وَعَلا-: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)[النمل: 62], وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ- عَن هُودٍ -عَلَيهِ السَّلامُ- وَقَومِهِ: (وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ)[هود: 52], وَقَالَ عَن نُوحٍ -عَلَيهِ السَّلامُ- وَقَومِهِ: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا)[نوح: 10، 11]
التعليقات