اقتباس
وكذلك السيئات تبرز وتغادر وتنفصل عن جسد المسلم بعد ظهورها عندما تُؤدى طاعة الوضوء، فيختلط الماء بذنوبنا، ويخرجها معه عندما يتقاطر من أجسامنا، من اجل ذلك حكم عليه جمهور الفقهاء أنه ماء لا يجوز إعادة الوضوء منه لأنه حمل من الذنوب، فلا يمكنه أن ينتزع الذنوب مرة أخرى، وهو ما يُسمَّى عندهم بالماء المستعمل..
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الاوّلين والآخرين وعلى آله وأصحابه الغر الميامين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذه نسماتُ هلال شهر ذي الحجّة قد لاحت في الأفق، وبدأت قوافل الحجيج تستعدُّ للمغادرة إلى بيت الله الحرام لتؤديَ ركنا من أركان الإسلام - الحجّ - هذا الركن الوحيد الذي فُرضَ على الأمة مرة واحدة في العمر لمن امتلك الزاد والراحلة، من هنا قال العلماء: إنّ العبادات منها ما يحتاجه العبد المؤمن إلى زاده في كل يوم وليلة خمسَ مرات، وهذا دور الصلاة، ومنها ما يحتاج المؤمن إلى زاده مرة في السنة، فكان صيام شهر رمضان، ومنها ما يفرض على العبد إذا امتلك النصاب فجاءت عبادة الزكاة، ومنها ما فيه من الزاد والأسرار والحسنات والأنوار ما يكفى المؤمن أن يؤديَه مرة واحدة في عمره كله، فلبى الملبي لعبادة الحجّ، من أجل ذلك يجد الناظر المتمعن أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما ترك مصطلحاً من مصطلحات المغفرة إلا وأخبرنا أن هذه العبادة ستلوحه وتعبر عنه، فاختمرت فكرة كتابة هذه المقالة عسى أن تكون قد أصابت الصواب ونرجو من الله الإخلاص والسداد، وان يجعلنا ممن يؤدي هذه العبادة على الدوام منتفعين ببركتها إلى يوم اللقاء والمعاد، ومن جملة هذه المصطلحات الآتي:
المصطلح الأول: المغفرة.
غفر: الغين والفاء والراء عُظْمُ بابِه السَّتْر، ثم يشِذُّ عنه ما يُذكر. فالغَفْر: السَّتر. والغُفْران والغَفْرُ بمعنَىً. يقال: غَفَر الله ذنبه غَفْراً ومَغفِرةً وغُفراناً...ويقال: غَفِرَ الثَّوبُ، إذا ثارَ زِئبِرهُ. وهو من الباب، لأنَّ الزِّئبِر يُغطِّي وجهَ الثَّوب. والمِغْفَر معروف.والغِفارة: خِرقةٌ يَضَعها المُدَّهِنُ على هامَته. ويقال: الغَفِير: الشَّعر السَّائل في القفا. وذُكر عن امرأةٍ من العرب أنَّها قالت لابنتها: "اغفِرِي غفيرَك"، تريد: غَطِّيه. والغَفِيرة: الغُفرانُ أيضاً[1]، وهو ستر القادر لقبيح الصادر ممن تحته، حتى إن العبد إذا ستر عيبَ سيده خوفَ عقابه لا يقال: غفر له[2]، والغفران والمغفرة من الله هو صون العبد من أن يمسَّه العذاب، وقد يقال غفر له إذا تجافى عنه في الظاهر وإن لم يتجاف عنه في الباطن، والاستغفار: طلب ذلك بالمقال والفعال[3]، قال تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) [البقرة: 173] وقال تعالى: ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) [طه: 82]، ( قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) [القصص: 16]، فالمغفرة بمعنى الستر عموما فعندما نقول: اللهم اغفر لي أي: استرني.
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْحَاجِّ، وَلِمَنِ اسْتَغْفَرَ لَهُ الحاجّ " [4].
وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقُرَشِيِّ، عَنْ رَسُولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: " الحاجّ مَغْفُورٌ لَهُ وَلِمَنِ اسْتَغْفَرَ لَهُ إِلَى انْسِلَاخِ الْمُحَرَّمِ "[5].
وعَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: " يُغْفَرُ لِلْحَاجِّ وَلِمَنِ اسْتَغْفَرَ لَهُ الحاجّ بَقِيَّةَ ذِي الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ وَصَفَرٍ وَعَشْرٍ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ " [6].
المصطلح الثاني: التكفير.
كفر: (الكاف والفاء والراء أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على معنىً واحد، وهو السَّتْر والتَّغطية. يقال لمن غطّى دِرعَه بثوبٍ: قد كَفَر دِرعَه. والمُكَفِّر: الرّجل المتغطِّي بسلاحه...، والنهر العظيم كافر، تشبيهٌ بالبحر. ويقال للزَّارع كافر، لأنَّه يُغطِّي الحبَّ بتُراب الأرض. قال الله تعالى: ( أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ) [الحديد 20]. والكُفْر: ضِدّ الإيمان، سمِّي لأنَّه تَغْطِيَةُ الحقّ. وكذلك كُفْران النِّعمة: جُحودها وسَترُها. والكافور: كِمُّ العِنَب قبل أن يُنوِّر. وسمِّي كافوراً لأنَّه كفَر الوَلِيع، أي غطَّاه)[7]. وهو ستر الذنب وتغطيته حتى يصير بمنزلة ما لم يفعل[8]، وعلى هذا فالتكفير أعلى من المغفرة ففيه زيادة التغطية على المغفرة، ( وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (العنكبوت: 7)، والمتابع للنصوص يجد التكفير خاصا بالصغائر دون الكبائر عموما، حتى قيل صغار الحسنات لا تكفر كبار السيئات[9]، ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ) ( النساء: 31).
ومن الأدلة أنّ التكفير أعلى من المغفرة قوله تعالى: ( رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ) [آل عمران: 193-195]، فطلبوا التكفير بعد المغفرة، وكان جواب طلبهم بالتكفير فشمل المغفرة، والله اعلم بالصواب.
ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم-: عن أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ الله قال: " الْعُمْرَةُ إلى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ ليس له جَزَاءٌ إلا الْجَنَّةُ" [10].
وعن ابن عُبَيْدِ بن عُمَيْرٍ عن أبيه أَنَّ بن عُمَرَ كان يُزَاحِمُ على الرُّكْنَيْنِ زِحَامًا ما رأيتُ أَحَدًا من أَصْحَابِ النبي -صلى الله عليه وسلم- يَفْعَلُهُ فقلتُ يا أَبَا عبد الرحمن إِنَّكَ تُزَاحِمُ على الرُّكْنَيْنِ زِحَامًا ما رأيتُ أَحَدًا من أَصْحَابِ النبي -صلى الله عليه وسلم- يُزَاحِمُ عليه، فقال إن افعل فَإِنِّي سمعتُ رَسُولَ الله يقول: " إِنَّ مَسْحَهُمَا كَفَّارَةٌ لِلْخَطَايَا "[11].
المصطلح الثالث: النفي.
نفى: (النون والفاء والحرف المعتلّ أُصَيلٌ يدلُّ على تعْرِيةِ شيء من شيءٍ وإبعاده منه. ونَفَيتُ الشّيءَ أنفيه نفياً، وانتفى هو انتفاء. والنُّفَاية: الرَّدِيُّ يُنفَى. ونَفِيُّ الرِّيحِ: ما تَنفيه من التُّرابِ حتى يصيرَ في أصولِ الحِيطان. ونَفِيُّ المطر: ما تنفيه الرِّيحُ أو ترُشُّه. ونَفِيُّ الماء: ما تطاير من الرِّشاءِ على ظهر المائح. والمهموز منه كلمةٌ واحدة، هي النُّفأُ: قطعٌ من الكلأ متفرّقة من عُظْم الكلأ، الواحدة نُفَأة)[12] والنفي ما نفته، وفي الحديث: " المَدِينَةُ كَالكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا " [13]. أي: تخرجه عنها، وهو من النفي الإبعاد عن البلد يقال نفيته أنفيه نفيا إذا أخرجته من البلد وطردته[14] ومنه قوله تعالى: ( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) [المائدة: 33].
فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «تَابِعُوا بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ، وَالذَّهَبِ، وَالفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ المَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلَّا الجَنَّةُ» [15].
فالذي يؤدي هذه العبادة العظيمة يتعرَّى من السيئات وتبعد عنه وجاء هذا التشبيه الرائع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كالذهب الذي يعرض على النار، فالنار تطهر الذهب من الشوائب وتنفيها وتبعدها عنه فيزداد جودة كذلك الحاج والمعتمر تُنْفَى عنه ذنوبهُ وآثامُهُ.
وهذه هي ميزة المدينة المنورة: فعن زَيْدِ بن ثَابِتٍ -رضي الله عنه- قال لَمَّا خَرَجَ النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أُحُدٍ رَجَعَ نَاسٌ مِمَّنْ خَرَجَ معه وكان أَصْحَابُ النبي -صلى الله عليه وسلم- فِرْقَتَيْنِ فِرْقَةً تَقُولُ نُقَاتِلُهُمْ وَفِرْقَةً تَقُولُ لَا نُقَاتِلُهُمْ فَنَزَلَتْ فما لَكُمْ في الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا وقال إِنَّهَا طَيْبَةُ تَنْفِي الذُّنُوبَ كما تَنْفِي النَّارُ خَبَثَ الْفِضَّة [16].
المصطلح الرابع: الخروج.
خرج: (الخاء والراء والجيم أصلان، وقد يمكن الجمعُ بينهما، إلاّ أنّا سلكْنا الطّريقَ الواضح. فالأول: النّفاذُ عن الشَّيء. والثاني: اختلافُ لونَين)[17] الخُروج نقيض الدخول[18]، والخروج: البروز، تقول خرج خُروجاً: برَزَ من مقّره وحاله سواء كان مقّره ثوبا أو دارا أو بلدا[19]. والخروج قد يستعمل في معنى الظهور يقال: (خرجت الشمس من السحاب) أي: انكشفت وقد يستعمل في معنى الانتقال يقال: (خرجتُ من البصرة إلى الكوفة) وهو متنوع في نفسه لغة لأنه عبارة عن الانفصال من مكانه الذي هو فيه إلى مكان قصده وذلك المكان تارة يكون قريبا وتارة يكون بعيدا، فعلى هذا السفر أحد نوعي الخروج وضعا ولغة يقال: {سافر فلان} من غير ذكر الخروج، فيجعلون الخروج عين السفر، ويقال: خرج الرجل من داره وبرز الشجاع من مكمنه، ودلق السيف من غمده، ونور النبت أي: خرج زهره، وصبأ فلان أي: خرج من دين إلى دين، ويقال: خرجت لعشر بقين، وبالليل وفي شهر كذا، ولم يحسن (خرجت بيوم الجمعة) أو(بليلة الجمعة)[20].
والخروج على نوعين: أولها خرج الذنوب منه:
ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم- عن أبي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ الله قال: " إذا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ أو الْمُؤْمِنُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَ من وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مع الْمَاءِ أو مع آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ فإذا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ من يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ كان بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مع الْمَاءِ أو مع آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ فإذا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ مع الْمَاءِ أو مع آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ حتى يَخْرُجَ نَقِيًّا من الذُّنُوبِ" [21].
وكذلك السيئات تبرز وتغادر وتنفصل عن جسد المسلم بعد ظهورها عندما تُؤدى طاعة الوضوء، فيختلط الماء بذنوبنا، ويخرجها معه عندما يتقاطر من أجسامنا، من اجل ذلك حكم عليه جمهور الفقهاء أنه ماء لا يجوز إعادة الوضوء منه لأنه حمل من الذنوب، فلا يمكنه أن ينتزع الذنوب مرة أخرى، وهو ما يُسمَّى عندهم بالماء المستعمل.
وثانيها: خروجه هو من الذنوب:
فمنه عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، قال: قال رَسُولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الحاجّ يَشْفَعُ فِي أَرْبَعِ مِائَةِ أَهْلِ بَيْتٍ، أَوْ قَالَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَيَخْرُجُ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ"[22].
وعن أبي هُرَيْرَةَ قال: قال رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "من حَجَّ الْبَيْتَ فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ رَجَعَ كما وَلَدَتْهُ أُمُّهُ قال عبد الرحمن خَرَجَ من ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، أو كما خَرَجَ من بَطْنِ أُمِّهِ" [23].
المصطلح السادس: الرجوع.
رجع: الراء والجيم والعين أصلٌ كبيرٌ مطّرد مُنْقاس، يدلُّ على رَدّ وتَكرار، تقول: رَجَع يرجع رُجوعاً، إذا عادَ...وامرأةٌ راجع: ماتَ زوجُها فرجَعت إلى أهلها[24]، ورَجَع يَرْجِع رَجْعاً ورُجُوعاً ورُجْعَى ورُجْعاناً ومَرْجِعاً ومَرْجِعةً انصرف وفي التنزيل إِن إِلى ربك الرُّجْعى أَي الرُّجوعَ[25]، وهو العود الى ما كان منه البدءُ[26].
الرجُّوُع هنا هو: العودة من الطاعة بلا ذنب، كما كان قبل أن يتلبس بالذنوب، والله اعلم بالصواب.
والفرق بين الإياب والرجوع هو: (الإياب هو: الرجوع إلى منتهى المقصد، والرجوع: يكون لذلك ولغيره، ألا ترى أنه يقال رجع إلى بعض الطريق ولا يقال آب إلى بعض الطريق ولكن يقال إن حصل في المنزل، ولهذا قال أهل اللغة التأويب أن يمضي الرجل في حاجته ثم يعود فيثبت في منزله، وقال أبو حاتم -رحمه الله-: التأويب أن يسير النهار أجمع ليكون عند الليل في منزله...وهذا يدل على أن الإياب الرجوع إلى منتهى القصد ولهذا قال تعالى: ( إن إلينا إيابهم)، كأن القيامة منتهى قصدهم، لأنها لا منزلة بعدها"[27].
والفرق بين الرجوع والانقلاب: (إن الرجوع هو المصير إلى الموضع الذي قد كان فيه قبل، والانقلاب المصير إلى نقيض ما كان فيه قبل ويوضح ذلك قولك انقلب الطين خزفا فأما رجوعه خزفا فلا يصح لأنه لم يكن قبل خزفا)[28].
والفرق بين الرجوع والعود: (الرجوع: فعل الشيء ثانية، ومصيره إلى حال كان عليها، والعود: يستعمل في هذا المعنى على الحقيقة، ويستعمل في الابتداء مجازا، قال الزجاج: يقال قد عاد إلي من فلان مكروه، وإن لم يكن قد سبقه مكروه قبل ذلك.وتأويله أنه لحقني منه مكروه.قلت: ومنه قوله تعالى: ( قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ) [الأعراف: 88] والمعنى: أو لتدخلن في ديننا. فإنه عليه السلام لم يكن على دينهم قط [29].
ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم- عن أَبَي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ( من حَجَّ لله فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ) [30].
المصطلح الخامس: الهَدْم.
هدم: والهاء والدال والميم: أصلٌ يدلُّ على حَطِّ بناء، ثم يقاس عليه، وهَدَمت الحائطَ أهدِمُه. والهَدَم: ما تهدَّم، بفتح الدال، ومن الباب الهِدْم: الثَّوب البالي، والجمع أهْدام...والهَدْمَة: الدُّفعة من المَطَر، كأنَّها تتهدَّمُ في اندفاعها[31].الهَدْمُ نَقِيضُ البناء هَدَمَه يَهْدِمُه هَدْماً وهَدَّمه فانْهَدَمَ وتَهَدَّمَ...والهَدْمُ قَلْعُ المَدَرِ يعني البيوت...والأَهْدَمانِ أَن يَنْهارَ عليكَ بناءٌ أَو تقعَ في بئرٍ أَو أُهْوِيَّة، والهَدْم بالسكون وبالفتح أَيضاً هو إِهدارُ دَمِ القتيلِ يقال دِماؤهم بينهم هَدْمٌ أَي مُهْدَرةٌ والمعنى إِن طُلِب دَمُكم فقد طُلِبَ دَمي وإِن أُهْدِرَ دَمُكم فقد أُهْدِرَ دَمي لاستِحكام الأُلْفة بيننا وهو قولٌ معروف والعرب تقول دَمي دَمُك وهَدَمي هَدَمُك وذلك عند المُعاهَدةِ والنُّصْرة[32]والهدم خص أصله بالبناء ثم استعير في جميع الأشياء فقيل هدم ما أبرمه من الأمر[33].
فعن عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، قال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلْأُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ، قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي، قَالَ: «مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟» قَالَ: قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ، قَالَ: «تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟» قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي، قَالَ: ( أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا؟ وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ )[34].
فالذنوب إذا تجمّعت وتراكمت كانت كالبناء على ابن ادم محسوسا وملموسا، من أجل ذلك أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رحمة بأمته أن تُسْقِطَ هذا البناء ولا تُبقي له من الأثر بإعمال صالحة اخبرنا انه من أدّاها أسقطت هذا البناء المتراكم الذي سيهلكه يوم القيامة.
المصطلح السادس:الحَطُّ.
حطّ: (الحاء والطاء أصلٌ واحد، وهو إنزال الشيء من عُلوّ. يقال حطَطْت الشيءَ أحُطّه حَطّاً. وقوله تعالى: ( حِطَّةٌ ) قالوا: تفسيرها اللهم حُطّ عنا أوزارَنا)[35]. الحَطُّ: الوَضْعُ، حطَّه يَحُطُّه حَطّاً فانْحَطَّ. والحَطُّ: وضْع الأَحْمالِ عن الدَّوابِّ تقول حَطَطْتُ عنها...وحَطّ الحِمْلَ عن البعير يحُطُّه حَطّاً أَنزله وكلُّ ما أَنزله عن ظهر فقد حطّه...وحطَّ اللّهُ عنه وِزْرَه في الدعاء وضَعَه مَثَلٌ بذلك أَي خفَّفَ اللّه عن ظَهْرِكَ ما أَثْقَلَه من الوِزْر يقال حطّ اللّه عنك وزرك ولا أَنْقَضَ ظهرَك واستحَطَّه وِزْرَه سأَله أَن يَحُطَّه عنه. والحَطُّ الحَدْرُ من عُلْو حطَّه يَحُطُّه حَطّاً فانْحَطَّ وأَنشد كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّه السَّيْلُ مِنْ عَلِ...والفِعْل اللاّزم الانحطاط ويقال: للهَبُوط حَطُوطٌ والمُنْحَطُّ من المَناكِب المُسْتَفِلُ الذي ليس بمُرْتَفِعٍ ولا مُسْتَقِلٍّ وهو أَحسنها[36]. وقيل الْحَطُّ: النَّقْصُ[37].
منْ اعتلى بناء، ووقف على حافته، وأخذ بحاجة من حاجياته في الدنيا وألقاه منه، فان هذا الشيء عند ارتطامه بالأرض سوف يتلاشى وينتهي، ولا تقوم له قائمة، وكأنه لم يكن.كذلك من أدى عبادات أرشده لها حبيبه ونبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- سوف يحدث له هذا الشيء مع ذنوبه، وقد يُراد ان فعل هذه الحسنات تنقص من السيئات والله اعلم بالصواب.
ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم- عن عبد الله بن عُبَيْدِ بن عُمَيْرٍ أَنَّ رَجُلًا قال يا أَبَا عبد الرحمن ما أَرَاكَ تَسْتَلِمُ إلا هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ، قال إني سمعت رَسُولَ الله يقول: " إِنَّ مَسْحَهُمَا يَحُطَّانِ الْخَطِيئَةَ" وَسَمِعْتُهُ يقول: "من طَافَ سَبْعًا فَهُوَ كَعِدْلِ رَقَبَةٍ " [38].
وعَنِ عبد الله بن عُمَرَ يَبْلُغُ بِهِ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- " إِنَّ اسْتِلاَمَ الرُّكْنَيْنِ يَحُطَّانِ الذُّنُوبَ" [39].
المصطلح السابع: الغروب.
غرب: (الغين والراء والباء أصلٌ صحيح، وكَلمُهُ غير منقاسةٍ لكنَّها متجانسة، فلذلك كتَبْناه على جهته من غير طلبٍ لقياسه. فالغَرْب: حَدُّ الشّيء. يقال: هذا غَرْبُ السَّيف. ويقولون: كفَفْتُ من غَرْبه، أي أكْلَلْتُ حَدَّه وأمّا الغَرَب بفتح الراء، فيقال إنَّ الغَرَبَ: الرَّاوية. والغَرَب: ما انصبَّ من الماء عند البئر فتغيَّرَتْ رائحتهُ. والغُرْبة: البُعد عن الوطن، يقال: غَرَبَت الدَّار. ومن هذا الباب: غُروب الشَّمس، كأنَّه بُعْدُها عن وجه الأرض. وشَأْوٌ مُغَرَِّبٌ، أي بعيد)[40] والمَغرِبُ في الأَصل مَوْضِعُ الغُروبِ ثم استُعْمِل في المصدر والزمان وقياسُه الفتح ولكن استُعْمِل بالكسر كالمَشْرِق والمسجِد[41]وغرب الغرب غيبوبة الشمس يقال غربت تغرب غربا وغروبا[42].
والغروب عندما تضفي الشمس فلا ترى، وكلنا ينظر إلى الشمس عند مغيبها تأخذ معها ضوئها ووهجها وتسحب معها ما يلازمها، هذا المنظر الملفت للنظر وان اعتاده الناس في حياتهم اليومية وظَفَهُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واستخدمه ليضرب لنا مثالا، كما أن الشمس عندما تغيب تأخذ الضوء، معها كذلك عبادة الحج والمجاهد إذا غابت شمس عرفة فإنها تأخذ ذنوب المجاهدين والحجيج معها إلى غير رجعة ما أروعه من تشبيه وأحلاه:
فعن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " ما راح مسلم في سبيل الله مجاهداً أو حاجاً مهلاًّ أو ملبياً إلا غربت الشمس بذنوبه وخرج منها" [43].
وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أضحى يومه يلبي محرماً حتى تغرب الشمس غربت بذنوبه وعاد مثل يوم ولدته أمه" [44].
وعن جَابِرِ بن عبد الله قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " ما من مُحْرِمٍ يَضْحَى لله يَوْمَهُ يُلَبِّي حتى تَغِيبَ الشَّمْسُ إلا غَابَتْ بِذُنُوبِهِ فَعَادَ كما وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" [45].
وصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ على سيِّدنا مُحمّدٍ، وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين، والحمد لله ربِّ العالمين.
____
[1] ينظر مقاييس اللغة: ج4/ ص385.
[2] ينظر التعريفات: ج1/ص286، والأفعال ج2/ص415، والتعاريف: ج1/ص668.
[3] ينظر مفردات ألفاظ القرآن: (ص: 609).
[4]المستدرك على الصحيحين للحاكم: (1 / 609): (1612)، وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.
[5]الآثار لأبي يوسف: (1 /110): (518).
[6]مصنف ابن أبي شيبة: (3 /122): (12657).
[7] ينظر مقاييس اللغة: ج5/ص191.
[8] ينظر التعاريف: ج1/ص202.
[9] ينظر مفردات ألفاظ القرآن: (ص: 717).
[10]صحيح البخاري: ج2/ص629، رقم: (1683).
[11]سنن الترمذي: ج3/ص292، رقم: (959)، وقال: حديث حسن.
[12]مقاييس اللغة: ج5/ص456، .
[13]ينظر صحيح البخاري (3 / 22): (1883).
[14]ينظر لسان العرب: ج15/ص337.
[15]سنن الترمذي ت شاكر (3 / 166): (810)، وقال: وَفِي البَابِ عَنْ عُمَرَ، وَعَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُبْشِيٍّ، وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَجَابِرٍ.: «حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ».
[16]صحيح البخاري: ج4/ص1488، رقم: (3824).
[17]مقاييس اللغة: ج2/ص175
[18] ينظر لسان العرب: (2 / 249)
[19]ينظر مفردات ألفاظ القرآن: (ص 278)، والتعاريف: ج1/ص311.
[20]ينظر كتاب الكليات: (1 / 677).
[21]صحيح مسلم: ج1/ص215، بَاب خُرُوجِ الْخَطَايَا مع مَاءِ الْوُضُوءِ، رقم: (244).
[22]مسند البزار: (8 / 169): (3196).
[23]مسند أحمد بن حنبل ج2/ص484، رقم: (10279)، ورواية خرج من ذنوبه بسند عبد الرحمن بن المهدي لا من رواية سفيان الثوري فلذلك قال المؤلف قال عبد الرحمن، قال الأرنؤوط: والحديث إسناده صحيح على شرط الشيخين.
[24]ينظر مقاييس اللغة ج2/ص490.
[25]ينظر لسان العرب: (8 / 114).
[26]ينظر مفردات ألفاظ القرآن: (ص 342).
[27]الفروق اللغوية: (1 / 87).
[28]الفروق اللغوية: (1 / 249).
[29]ينظر المصدر نفسه: (1 / 250).
[30]صحيح البخاري: ج2/ص553، رقم: (1449).
[31]ينظر مقاييس اللغة: (6: 30)، ومفردات ألفاظ القرآن: (ص 835)، والتعاريف: (1/740).
[32]ينظر لسان العرب: (12 / 603).
[33]التوقيف على مهمات التعاريف: (1 / 740).
[34]صحيح مسلم: (1 / 112): (121).
[35] مقاييس اللغة: ج2/ص13، وينظر مفردات ألفاظ القرآن: (ص 242).
[36] ينظر كتاب العين: (3 / 18)، المحكم والمحيط الأعظم: (1 / 380)، ولسان العرب: (7 / 272).
[37] طلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية: (1 / 303).
[38]مسند أحمد بن حنبل: ج2/ص95، رقم: (5701)، قال شعيب الأرنؤوط: حسن، وسنن النسائي(المجتبى): ج5/ص221، ذِكْرُ الْفَضْلِ في الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، رقم: (2919)، قال المناوي: إسناد حسن. ينظر التيسير بشرح الجامع الصغير: ج2/ص403.
[39]مسند أحمد بن حنبل: ج2/ص11، (4585)، قال الأرنؤوط: إسناده حسن.
[40]مقاييس اللغة: ج4/ص420-421.
[41] ينظر لسان العرب: (1 / 637).
[42]ينظر مفردات ألفاظ القرآن: (ص 604).
[43]ينظر المعجم الأوسط: ج6/ص193، رقم: (6165)، وقال: لم يرو هذين الحديثين عن الهيثم بن حبيب إلا حفص بن أبي داود تفرد بهما أحمد بن الفرج.
[44]ينظر السنن الكبرى: 5/43، رقم: (8804)، قال المناوي: وإسناده حسن. ينظر التيسير شرح الجامع الصغير: ج6/ص118.
[45]سنن ابن ماجه: ج2/ص976، رقم: (2925)، السنن الكبرى للبيهقي: 5/70، رقم: (8976) وقال: هذا إسناد ضعيف. أقول وهو مما يستشهد به في هذا الباب على مذهب جمهور المحدثين في فضائل الأعمال والله اعلم بالصواب.
موقع الألوكة
التعليقات