عناصر الخطبة
1/أهمية العقيدة الصحيحة 2/مصادر تلقي العقيدة 3/حجية فهم الصحابة والتابعين وتابعيهم لنصوص العقيدة 4/وظيفة العقل فيما يخص العقيدة.اقتباس
بعد أن عرفنا من أي المنابع نستقي عقيدتنا يجب أن نبين أن تلك النصوص من الكتاب والسنة لا تخضع لأي فهم، ولا يقبل فيها أي تفسير؛ بل ينبغي أن يكون فهم السلف الصالح؛ من الصحابة والتابعين وأتباعهم هو الحجة في فهم...
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71]، أما بعد:
معاشر المسلمين: إنَّ العقيدة الإسلامية الصحيحة هي السبيل الوحيد للنجاة من عذاب الله تعالى، فهي التي تحدد علاقة العبيد بخالقهم جل وعلا، كما أنها تعصم المسلم من أن يتأثر بما يحيط به من عقائد فاسدة وتصورات وأفكار منحرفة، وكل رسل الله جاءوا بالدعوة للعقيدة الصحيحة، قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)[الأنبياء: 25].
وتتجلى أهمية العقيدة من كون تحقيق توحيد الألوهية وإفراد الله بالعبادة هو الغاية الأولى من خلق الإنس والجن، قال سبحانه وتعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[الذاريات:56]، وأن قبول الله تعالى للأعمال متوقف على تحقق التوحيد من العبد، وكمال أعمال العبد تتوقف على كمال التوحيد؛ فأي نقص في التوحيد قد يحبط العمل أو ينقصه عن كماله الواجب أو المستحب، وفي الجملة فإن العقيدة الصحيحة هي الأساس الذي يقوم عليه الدين، وتصحّ معه الأعمال؛ كما قال تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)[الكهف: 110]، وقال تعالى: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الزمر:65].
أيها المؤمنون: فإذا كان أمر العقيدة الصحيحة بهذا الأهمية، فهنا يظهر لنا مدى حاجتنا لمعرفة العقيدة لنتمسك بها، والمصادر التي نأخذ منها عقيدتنا الإسلامية الصافية، ولا سيما وأن قضية تلقي الدين والمعتقد لا بد أن يخضع لتمحيص وتدقيق؛ فهو طريقنا الذي نسير بها إلى الله، ولا بد من أن نتحرى استقامته من الاعوجاج، وخلوه من كل ما يكدر صفوه.
لذلك نقول -أيها المؤمنون- إنَّ مصادر العقيدة الإسلامية الصحيحة هي ثلاثة مصادر لا غير، منها نأخذ ديننا، ومن بين طياتها نقتبس معتقدنا؛ فهذا الدين العظيم واضح المعالم لا غموض في منابعه، ولا خفاء في مصادره؛ فقد حددها الشرع الحكيم، وأئمة الدين القويم، وهي:
المصدر الأول: القرآن، كتاب الله تعالى؛ وهو كلام الله المنزل على سيدنا محمد -عليه الصلاة والسلام- المتعبد بتلاوته، والمنقول إلينا بالتواتر، المبدوء بسورة الفاتحة المختوم بسورة الناس، وهو الأصل الأول لأخذ العقيدة، قال تعالى: (جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[المائدة: 15-16]، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ)[النساء: 136]؛ أي اعتقدوا جميع ما جاء في القرآن، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله وسنتي".
وأما المصدر الثاني من مصادر تلقي العقيدة: السنة النبوية الثابتة -على صاحبها أفضل الصلاة والسلام-؛ وهي ما أضيف إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأقوال والأفعال والتقريرات والصفات الخَلقية والخُلقية؛ فكل ما جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صحيحا ثابتا يجب أخذه والتسليم له؛ فالسنة وحي مثل القرآن، أمرنا بالأخذ بها والتمسك بما جاء منها، قال تعالى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى)[النجم:3-4]، وقال -سبحانه وتعالى- مخاطبا أمهات المؤمنين: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ)[الأحزاب: 34]، والحكمة في هذا السياق هي السنة النبوية.
وقال -سبحانه وتعالى- لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)[النحل: 44]؛ أي: لتبين للناس بالسنة ما نزل إليهم من القرآن.
وقال -صلى الله عليه وسلم- في حديث العرباض بن سارية: "عليكم بسنتي"، وقال أيضا "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك".
عباد الله: لقد كانت مسائل الاعتقاد وتوضيحها من أول وأولى ما علمه النبي -صلى الله عليه وسلم- للأمة في سنتها المطهرة، وهو -صلى الله عليه وسلم- أنصح الأمة وأفصحها، وأحرصها على أمانة البلاغ والرسالة؛ لهذا كانت نصوص السنة مع الكتاب هي معول أهل السنة، ومعتمدهم في الاستدلال على مسائل الاعتقاد.
عباد الله: إنَّ ما جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحتج به مطلقا -بشرط صحة ثبوتها-؛ فلا نفرق في ذلك بين الأحكام والعقائد من حيث حجيتها ومجالها، ولا بين المتواتر والآحاد من حيث ثبوتها وقبولها.
المصدر الثالث -عباد الله-: الإجماع؛ فهو مصدر من مصادر الأدلة الاعتقادية؛ لأنَّه يستند في حقيقته إلى الوحي المعصوم من القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وأغلب مسائل الاعتقاد هي محل إجماع بين الصحابة والسلف الصالح، وهذه الأمة لا تجتمع على ضلالة وباطل سواء في أمور العقيدة أو غيرها، قال تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تجتمع أمتي على ضلالة".
فإذن -أيها الأحبة- إذا اجتمع السلف الصالح في أمر من أمور الاعتقاد فإجماعهم حجة شرعية ملزمة لمن جاء بعدهم، وهو إجماع معصوم، ولا تجوز مخالفته، يقول ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: فدين المسلمين مبني على اتباع كتاب الله وسنة نبيه وما اتفقت عليه الأمة، فهذه الثلاثة أصول معصومة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسّلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد النّبي الأمي الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:
أيها المؤمنون: بعد أن عرفنا من أي المنابع نستقي عقيدتنا يجب أن نبين أن تلك النصوص من الكتاب والسنة لا تخضع لأي فهم، ولا يقبل فيها أي تفسير؛ بل ينبغي أن يكون فهم السلف الصالح؛ من الصحابة والتابعين وأتباعهم هو الحجة في فهم نصوص الوحي؛ فصحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حضروا التنزيل وعلموا أسبابه، وفهموا مقاصد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأدركوا مراده.. اختارهم الله تعالى على علم على العالمين سوى الأنبياء والمرسلين.
يقول الإمام الشافعي عنهم: "علموا ما أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ عاماً وخاصاً، وعزما وإرشاداً، وعرفوا من سنته ما عرفنا وجهلنا، وهم فوقنا في كل علم واجتهاد، وورع وعقل، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا عند أنفسنا، ومن أدركنا ممن يرضى أو حكى لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلموا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه سنة إلى قولهم إن اجتمعوا، أو قول بعضهم إن تفرقوا، وهكذا نقول، ولم نخرج عن أقاويلهم، وإن قال أحدهم ولم يخالفه غيره أخذنا بقوله".
ثم إن التابعين وتابعيهم قد حصل لهم من العلم بمراد الله ورسوله ما هو أقرب إلى منزلة الصحابة ممن هم دونهم؛ وذلك لملازمتهم لهم، واشتغالهم بالقرآن حفظا وتفسيراً، وبالحديث رواية ودراية، ورحلاتهم في طلب الصحابة وطلب حديثهم وعلومهم مشهورة معروفة.
فيجب أن نعتصم بحجية فهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباعهم؛ فهذا صمام أمان من التفرق والضلال، فلنقل بما قال به السلف، ونسكت عما سكتوا عنه، وليسعنا ما وسعهم.
أيها المسلمون: ولا يخفى على كل ذي عقل أن أمور الاعتقاد مبناها على التسليم بما جاء عن الله ورسوله؛ ظاهراً وباطناً، ما عقلناه من ذلك وما لم نعقله، ويجب أن نحصر وظيفة العقل في تدبر آيات الله تعالى، ومعرفة محاسن العقيدة والشريعة التي جاء بها الإسلام، ولنعلم أنه إنما هو آلة لفهم النصوص الشرعية واستخلاص المعاني المرادة منها، ولنتيقن أن العقل يحتاج دائما إلى تنبيه الشرع وإرشاده إلى الأدلة، ولنتجنب كل دعوة للاعتماد على محض العقل؛ فإنه سبيل للتفرق والتنازع، وخوض العقل في أمور الإلهيات باستقلال عن الوحي مظنة الهلاك وسبيل الضلال؛ فالعقل لن يهتدي إلا بالوحي، والوحي لا يلغي العقل.
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك في قوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب:56].
التعليقات