الحج مشهد مصغر ليوم القيامة - خطب مختارة

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات:

اقتباس

فإذا أذن الله بزوال هذه الدنيا وانتهاء أعمار الخلائق، بدأت علامات الساعة الكبرى في الظهور، علامة تلو أخرى، حتى ينفخ في الصور، ويموت ما بقي من الخلائق، ثم يبقى الله وحده لا شريك له، واحد أحد، لا صاحبة له ولا ولد. ثم يأذن الله بإحياء الموتى وتُحشر الخلائق إلى الله رب العالمين، ليُروا أعمالهم، ويحاسبوا على أفعالهم، وهناك في هذا الموقف العصيب يصيب الخلائق من الهم والغم والنكد ما يصيبهم إلا من رحم الله -عز وجل-. فيشتد على الخلق حر الشمس وقرب جهنم وقلة الزاد، وكثرة العرق، والزحام الرهيب...

مع بدء موسم الحج كل عام، ومع كثرة الزحام الشديد في المناسك، ينبغي للحجاج وغيرهم أن يستوعبوا درسًا في غاية الخطورة، مؤداه أن صورة الزحام تذكِّر العبدَ بالزحام الأكبر يوم العرض على الله -تبارك وتعالى-، يوم يقوم الناس لرب العالمين، فتظل هذه الصورة في وعي مَن حج ومَن لم يحج، فيتأمل في كل موطن من مواطن النسك مواقف الحشر والحساب، وقيام الناس لله رب العالمين في الآخرة.   والمتأمل في كتاب الله تعالى يجد أن سورة الحج بدأت بداية تزلزل القلوب وتذكر المؤمنين بعرصات القيامة ومواقفها، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)[الحج: 1-2].      

 

وقد أكثر ربنا في ثنايا السورة من ذكر تعظيم شعائر الله ومنسك الحج وشعيرته، وختمها بمثل رائع فيه تحدٍّ للمشركين وبيان ضعفهم وعجزهم.   ولا يخفى على المؤمن العاقل وجه الشبه بين الحج ومواقف القيامة الكبرى، ففي الحج يفارق الحاج أهله، ويدع خلفه ماله وولده وعمله في رحلة لا يدري سيعود منها أم لا، فيغتسل لإحرامه ويلبس البياض، وهذا يذكِّر الحاج وغيره بغسل الموتى وتكفينهم، وكذا في السعي والطواف والحلق والرمي، هذا العدد الكبير ما هو إلا جزء يسير جدًّا من أعداد البشر، ومع هذا يكثر الفزع من التدافع والزحام، فكيف يكون الناس يوم الحشر الأكبر، يوم القدوم على الله تبارك وتعالى. ومن هنا، فهذه تذكرة بيوم القيامة، ونسأل الله أن يقينا زحام الحشر وأن يرزقنا حج بيته الحرام.   أيها الأخوة: لقد خلق الله المخلوقات جميعًا وجعل لكل منها نهاية، فالموت نهاية كل مخلوق، ولن يبقى إلا الله وحده، فهو (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[الحديد: 3]، فكل المخلوقات إلى فناء، ولا يبقى إلا رب العالمين، (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)[الرحمن: 26- 27].  

 

وقد أخبرنا ربنا سبحانه في سورة التكوير أن جميع المخلوقات إلى زوال، فالشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب، كلها ستتصدع وتنهار وتنتهي فلا يبقى شيء، فقال تعالى: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ)[التكوير: 1- 14].  

 

ووصف لنا ربنا سبحانه في القرآن العظيم عن نهاية هذه الدنيا وفناء جميع المخلوقات، وعظمة الرب سبحانه، وصمت جميع المخلوقات في حضرته، وعجز الجميع عن أن يملكوا لأنفسهم شيئًا، فقال جل وعلا: (يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ * وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[غافر: 16- 20].   والمرء ما دام حيًّا في فترة مهلة وامتحان، فإذا ما مات طُويت صحيفته وقامت قيامته، ويسأل في قبره عن حياته وعمله، وما جنته يداه، وما كسبه في دنياه.

 

ولو أنا إذا متنا تركنا *** لكان الموت راحة كل حي

ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل *** بعده عن كل شيء    

 

فإذا أذن الله بزوال هذه الدنيا وانتهاء أعمار الخلائق، بدأت علامات الساعة الكبرى في الظهور، علامة تلو أخرى، حتى ينفخ في الصور، ويموت ما بقي من الخلائق، ثم يبقى الله وحده لا شريك له، واحد أحد، لا صاحبة له ولا ولد.   ثم يأذن الله بإحياء الموتى وتُحشر الخلائق إلى الله رب العالمين، ليُروا أعمالهم، ويحاسبوا على أفعالهم، وهناك في هذا الموقف العصيب يصيب الخلائق من الهم والغم والنكد ما يصيبهم إلا من رحم الله -عز وجل-.   فيشتد على الخلق حر الشمس وقرب جهنم وقلة الزاد، وكثرة العرق، والزحام الرهيب، في هذا الموقف تظهر عظمة الأنبياء، فيلجأ الناس إليهم ليطلبوا من رب العالمين فصل القضاء، فيتأخرون عنها، إلا نبينا محمد –صلى الله عليه وسلم- فيسجد بين يدي ربه، ويحمده بمحامد عظيمة، فيقبل الله شفاعته في الخلائق ويأتي لفصل القضاء.  

 

وعندها يؤتى بجهنم في أبأس منظر يراه الناس، ويُضرَب الصراط فيمر عليه الناس بقدر أعمالهم، فناجٍ ومكردس في نار جهنم، ثم تُنصب الموازين والعباد في هم وخوف ووجل بين أن تخف أو تثقل، وتتطاير الصحف فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله، وينقسم الخلائق إلى مرحوم مقبول ومكردس في النار محروم، فتشتد فرحة الصالحين ويعظم حزن المحرمين، وما أصدق وصف رب العالمين لهذه المراحل، قال جل وعلا: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا ‎لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ)[الحاقة: 13- 32]، نسأل الله السلامة والعافية.   إن من أخصر الأوصاف الدالة على يوم القيامة أنه يوم الحسرة (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ)[مريم: 39- 40] عندما تأكل الحسرة البشر فيعض المرء على يديه ندمًا ويكاد يقتله الهمّ والغم، ولات ساعة مندم.   إن ما تزرعه اليوم في الدنيا ستجنيه غدًا في عرصات القيامة، إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر، (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)[الزلزلة: 6- 8].  

 

وقد أخبرنا نبينا محمد –صلى الله عليه وسلم- عن شدة حسرات الخاسرين يوم القيامة، فقال: "يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديًا به؟ فيقول: نعم، فيقال له: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئًا، فأبيت إلا أن تشرك بي"(أخرجه البخاري). ألا ما أشد عرصات يوم القيامة! وما أفظع تلك المواقف المدلهمة الكبرى!   ومن شدة العذاب والنكال ما أخبرنا به صلوات ربي وسلامه عليه أنه "يؤتى برجل من أهل النار فيقول له: يا ابن آدم كيف وجدت منزلك؟ فيقول: يا رب شر منزل فيقول: أتفتدي منه بطلاع الأرض ذهبًا؟ فيقول: نعم يا رب، فيقول: كذبت قد سُئلت ما هو أهون من ذلك فيرد إلى النار"(أخرجه أحمد والنسائي وصححه ابن حبان وغيره).  

 

ومن مواقف الوقوف بين يدي الملك يوم القيامة ما رواه صَفْوَان بْن مُحْرِزٍ الْمَازِنِيّ، قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي مَعَ ابْنِ عُمَرَ، آخِذٌ بِيَدِهِ، إِذْ عَرَضَ رَجُلٌ فَقَالَ: كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي النَّجْوَى؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، يَقُولُ: إِنَّ اللهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْترُهُ: فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ: سَتَرْتُهَا عَليْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الأَشْهَادُ: هؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ"(رواه البخاري).   إن من يريد أن ينجو غدًا من هذا الموقف العظيم فليكثر من التوبة والأوبة والأعمال الصالحة التي يحبها الله ويرضاها فهي سبيل النجاة، وليحذر العبد من شرك أو كفر أو بدعة أو ضلال يذهب به إلى نار جهنم، وليكثر من دعاء الله أن ينجيه من هذا الموقف العظيم.  

 

فهنيئًا للحجاج، ونسأل الله أن يتقبل منهم، وأن يرزقنا وإياهم الإنابة وصحوة الفكر والربط النافع بين مشاهد الدنيا والآخرة.   ومن أجل معالجة هذا الموضوع وضعنا بين يديك أخي الخطيب الكريم هذه الخطب المنتقاة، ونسأل الله لنا ولكم الإخلاص والقبول وحسن الخاتمة.

 

الخطبة الأولى:
الخطبة الثانية:
العنوان
من مشاهد حجنا نعيش قيامتنا! 2023/06/06 0 0 0
من مشاهد حجنا نعيش قيامتنا!

المرفقات
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life