عناصر الخطبة
1/داء استحقار النفس ومظاهره 2/أسباب استحقار النفوس 3/أعراض مرض استحقار النفس 4/علاج استحقار النفس 5/لا تحقرن من المعروف شيئااقتباس
من الأسباب التي تجعل الإنسان يستصغر نفسه: ما تعانيه الأمة من الهزيمة النفسية، ومن الذل والهوان، والانقسام والتشرذم، مما جعل أفرادها يحتقرون ذواتهم في مقابل قوة أعدائهم، وينسون أن عزتهم ورفعتهم بالاعتزاز بدينهم والتمسك به...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي خلّص قلوب عباده المتقين من أدواء النفوس، وخلص عقولهم من أمراض الشك والريب، أحمده حمد من رأى آيات قدرته الباهرة، وبراهين عظمته القاهرة, وأشكره شكر من اعترف بمجده وكماله.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-.
أما بعد:
أيها المسلمون: من الأمراض التي ابتلينا بها في هذا الزمان مرض استحقار النفس، واستصغار الذات، والنظر إلى النفوس بنظرة ازدراء واحتقار.
لو نظرنا في أنفسنا وواقعنا لوجدنا كثيراً منا أصيب بهذا الداء الخطير، فمنا من يحتقر نفسه في موطن لا ينبغي فيه احتقارها، ومنا من يحتقر عمله، أو يحتقر غيره.
إن الأسباب المؤدية إلى هذا المرض كثيرة منها: عدم معرفة الإنسان لقيمته ومنزلته، وأنه مخلوق كريم عند الله، خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وجعله عاقلاً ناطقاً، وسخر له ما في السموات والأرض، وأنزل إليه الكتب، وبعث إليه الرسل، ووعده بالجنة إن اتقى الله وأطاعه. يقول الله -تبارك وتعالى-: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) [الإسراء : 70].
ومن الأسباب التي تجعل الإنسان يستصغر نفسه: ما تعانيه الأمة من الهزيمة النفسية، ومن الذل والهوان، والانقسام والتشرذم، مما جعل أفرادها يحتقرون ذواتهم في مقابل قوة أعدائهم، وينسون أن عزتهم ورفعتهم بالاعتزاز بدينهم والتمسك به.
ومن أعظم الأسباب: الخلل التربوي لدى كثير من الأسر في تربية أبنائهم على التحطيم النفسي، والتهوين الذاتي، والوصمات المتتالية للابن بأنه لا يفهم شيئا، وليس جديراً بتحمل شيء، ولا يستحق أن يولى على شيء، مما يجعله يشعر في نفسه بالهوان والاستحقار.
وأحياناً السبب من الشخص نفسه حيث يدهور نفسه بنفسه، ويقضي على شخصيته وذاته، فلا يحب الإقدام، ولا يتشجع إذا شجع، وينظر دائماً إلى الجوانب السلبية في الحياة ويفكر فيها، ولا يفكر في الجوانب الايجابية التي تربيه على تحمل المسؤولية وتنمية الذات.
أيها الناس: إن لمرض احتقار النفس أعراضا ومظاهر كثيرة, تظهر على شخصية الإنسان ومن هذه المظاهر:
تهرب الشخص من كل عمل يناط به أو مسؤولية تلقى على عاتقه، بحجة أنه يعرف قدر نفسه، وأنه ليس أهلاً لتحمل المسؤولية، وليس جديراً بالقيام بها، إلى آخر المعاذير التي يتعذر بها من أصيب بهذا الداء.
والمصيبة الكبرى أنهم دائماً ما يتعللون بمثل هذه العلل في الجوانب الايجابية، وفي أمور الخير غالباً وفي الأمور التي يتم من خلالها تحقيق المصلحة العامة ومافيه نفع شامل للناس، فإذا كلفوا في عمل من هذه الأعمال تعللوا بمثل هذه العلل!، وإذا كلفوا بعمل فيه تحقيق لمصلحة خاصة أو نفع ذاتي ذهبت كل هذه العلل!! وأظهروا قدرتهم على تحمل الأمور وجدارتهم بتحقيقها وإدارتها.
كثيرا منا إذا قيل له هذا منكر عليك بإزالته، أو هذا جارك أو قريبك قم بنصحه، أو هذه المسؤولية أمانة في عنقك حملناك إياها، مباشرة يتعذر بعدم الاستطاعة، وأنه ليس أهلاً لكي ينكر المنكر، أو يسد هذه الثغرة، أو يكتفي بالإنكار القلبي, مع أنه في الحقيقة قادر على الانكار باللسان وربما باليد. والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ" [مسلم(49)].
ومن مظاهر أعراض هذا الداء: تحقير كل عمل نافع والتهوين منه، والتقليل من شأنه، والحكم المستعجل بعدم نفعه، وقلة مكاسبه، وكثرة سلبياته، وضعف نتائجه، وغيرها من الأحكام الدونية السلبية التي تدل على الإصابة بهذا الداء الوبيل. يقول الله -تبارك وتعالى-: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [النحل : 76].
فهذا مثل ضربه الله لرجلين أحدهما رجل أبكم، رجل سلبي، وعنصر خامل، لا يقدر على شيء، ولا يريد من أحد أن يكلفه بشيء، وليس لديه القدرة والاستعداد على تحمل شيء، لأنه مشمئز من كل شيء، وينظر بازدراء واحتقار إلى كل شيء.
لهذا فإنه كلٌ على مولاه، وعبئ على سيده، وحمل ثقيل على أهله ومجتمعه، بدلاً من خدمتهم فهو منتظر منهم خدمته، وبدلاً من القيام بهم إذا به ينتظر منهم أن يقوموا به، أينما تضعه وحيثما تتجه به فلن تتحقق منه منفعة، ولن يجنى من ورائه مكسب، (هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، كلا لا يستوون، وشتان شتان بين هؤلاء وهؤلاء.
شتان بين رجل عرف قدر نفسه في الجانب الايجابي والسلبي، وبين رجل لا يعرف نفسه إلا في الجانب السلبي.
شتان بين رجل لا يعرف إلا تحقيق منافعه وإقامة مصالحه، وبين رجل همته أعلى وقدره أسمى لذلك تجده مهتماً بتحقيق المصالح العليا والمنافع العامة, أكثر من تحقيقه للمنافع الذاتية الخاصة.
شتان بين رجل يتعذر عن كل شيء ويحطم نفسه عند التكليف بأي عمل، وبين آخر عرف حقيقة نفسه، وعرف متى يقول أنا لها؟ ومتى يقول بالبرهان والحجة لست أهلاً لها، وأنا منكم ومعكم واعتبروني واحداً منكم.
يقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ, إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ, وَإِنْ مُنِعَ سَخِطَ, تَعِسَ وَانْتَكَسَ, وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ, طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ, أَشْعَثَ رَأْسُهُ, مُغَبَّرَّةٍ قَدَمَاهُ, إِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ, وَإِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ, إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤَذَنْ لَهُ, وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ, طُوبَى لَهُ ثُمَّ طُوبَى لَهُ" [ السنن الكبرى للبيهقي (18498)].
شتان شتان بين الأعمى والبصير، والظلمات والنور، والظل والحرور، وشتان شتان بين الأحياء والأموات، (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) [فاطر 19: 22].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل، لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ, مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ, وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَشْرَفِ الْمُرْسَلِينَ, نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ, عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ, وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
عباد الله: تكلمنا عن مرض احتقار النفس، وتحدثنا عن بعض الأسباب التي تؤدي إلى الإصابة بهذا المرض، وذكرنا بعض الأعراض والمظاهر له، وفي هذه الوقفة نتحدث معكم عن علاج هذا الداء وسبل مدافعته، وكيفية النجاة بالنفس وتخليصها منه؟
أول علاج لهذا المرض أن تعرف قيمتك، وقدر نفسك، وموقعك الحقيقي في هذه الحياة. فهل تعلم أن قيمتك غالية ومنزلتك عالية؛ لأنك مسلم قال فيك نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-: "لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ" [النسائي (3987)].
وهل تعلم أنك من خير أمة أخرجت للناس, قال الله عنها: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران: 110] .
وهل تعلم -أيها المسلم- أنك جندي من جنود الإسلام بصلاحك يصلح مجتمعك، وبفسادك يفسد مجتمعك؟ فلم تستصغر نفسك أو تحتقر ذاتك؟ هل ترضى أنت أن تكون سبباً في فساد مجتمعك بقعودك وتحبيطك لنفسك وتثبيط الآخرين؟.
وهل تعلم أن الفتح المبين والنصر العظيم الذي وقع في العصور الذهبية في تاريخ الإسلام, إنما وقع على أيدي جنود كثير منهم لا يعرف، ولم يشتهر أحد منهم سوى بعض الرموز والقادة القلائل، ولكن كل واحد منهم قام بدوره، فلم يحتقر الجندي الصغير نفسه، ولم يلقِ بالمسؤولية على غيره، ولم يترك ثغرة أو فراغاً يؤتى فيها الإسلام من قِبَله، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة : 119] فهؤلاء جميعاً نحسبهم -والله حسيبهم- صدقوا الله فأصدقهم الله، ونصرهم وثبت أقدامهم.
ومن المعالجات لهذا الداء أن تتأمل قيمة العمل عند الله وعظم أجره وحقيقة ثوابه، وأن الله -سبحانه وتعالى- يجازي عباده على الأمر اليسير والشيء البسيط، وأن العمل الصغير قد يصبح كبيراً عند الله بالنية الخالصة لوجه الله. يقول الله -تبارك وتعالى-: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) [النساء : 124]، والنقير هو النقرة البسيطة التي تكون في ظهر النواة. ويقول -سبحانه وتعالى-: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) [الزلزلة : 7]، (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)[الزلزلة : 8].
روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ لِيَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ" [مسلم (2626)]، أي بوجه سهل منبسط. ويقول -عليه الصلاة والسلام-: "سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفٍ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ قَالَ رَجُلٌ لَهُ دِرْهَمَانِ فَأَخَذَ أَحَدَهُمَا فَتَصَدَّقَ بِهِ وَرَجُلٌ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ فَأَخَذَ مِنْ عُرْضِ مَالِهِ مِائَةَ أَلْفٍ فَتَصَدَّقَ بِهَا" [ النسائي (2527)].
فلا تحقرن شيئاً، ولا تستصغرن عملاً، فربما كلمة منك عابرة قد تقولها لأي إنسان لا تلتفت أنت لها، وقد تحتقرها، وتقول في نفسك: هل أقولها أم لا؟ يستفيد منها هذا الشخص وينتفع بها، وكم من إنسان تغير بكلمة.
وهذا المبلغ القليل الزهيد قد يكون له أثر كبير وخير عظيم، فلا تستحقرن أي عمل صالح ولا تستصغره، فكم فيه من أجور وحسنات، يقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوا مِنْ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ وَإِنْ قَلَّ" [البخاري (5413) مسلم (1302)].
علينا جميعاً أن نبعث في نفوسنا الأمل، ولا نستحقرن شيئاً من العمل، وأن نطرد عنا اليأس والكلل, "فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ وَإِنْ قَلَّ".
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل كريم: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم إنا نعوذ بك من استحقار أنفسنا واستصغار ذواتنا بغير حق ونعوذ بك من مهلكات النفوس ونعوذ بك من تجاهل الصالحات والاستخفاف بها.
التعليقات