مدرسة مصعب بن عمير

د عبدالعزيز التويجري

2024-09-15 - 1446/03/12
التصنيفات: شخصيات مؤثرة
عناصر الخطبة
1/نشأة مصعب في حياة الرفاهية 2/من نعيم العيش إلى الشدة بعد الإسلام 3/هجرة مصعب وجهاده مع النبي -عليه الصلاة والسلام- 4/استشهاد مصعب -رضي الله عنه-

اقتباس

لما اجتمعوا على الخروج، جاءنا مصعب بن عمير متسللا فاصطحبناه، وهم يمشون على أقدامهم، وأنا على بعير، وكان مصعب بن عمير رقيق البَشَرِ، ولقد رأيت رجليه تقطران دما من الرقة، فرأيت عامر بن ربيعة خلع حذاءه فأعطاه...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

الحمد لله على ما أولى وهدى، وأشكره على ما وهب وأعطى، لا إله إلا هو العلي الأعلى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

أما بعد: (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا)[الطلاق: 10].

 

كان مصعب بن عمير فتى مكة شباباً وجمالاً، منعماً مدللاً، له أمٌ مليئة كثيرة المال، شديدة الكَلَفِ به، تُلبسه الحضرمي من النعال، وتكسوه أحسن ما يكون من الثياب، وكان أعطر أهل مكة، رقيق البَشَرة حسن اللِّمَّة ليس بالقصير ولا بالطويل، ذكره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوماً فقال: "ما رأيت بمكة أحداً أحسن لِمّةً ولا أرق حُلةً، ولا أنعم نعمةً من مصعب بن عمير".

 

ولما بزغ نور الحق وأعلن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التوحيد، سارع مصعب بن عمير إلى الإسلام بلا تردد ولا ارتياب، فدخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- في دار الأرقم فأسلم وصدّق، فكان يختلف إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سراً، ويتلقى العلم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأخذ ينهل من معين الوحيين؛ حتى أصبح من أعلم الصحابة، فجعله سفير الإسلام.

 

فبصر به عثمان بن طلحة وهو يصلي، فأخبر أمه، فخرجت أمه حين علمت بإسلامه ناشرةً شعرها، وقالت: "لا ألبس خِماراً، ولا أستظلُّ، ولا أدَّهنُ ولا آكلُ طعاماً، ولا أشرب شراباً؛ حتى تدع ما أنت عليه"، فأخذه قومه فحبسوه، فتغيرت حياة مصعب بن عمير -رضي الله عنه- وتبدلت أحواله في ملبسه ومأكله وشأنه كله، قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "إنا لجلوس إذ طلع علينا مصعب بن عمير، وما عليه إلا بردة له مرقوعة بفرو".

 

قد يدْرك الشَّرفَ الْفَتى وَرِدَاؤُهُ *** خَلِقٌ وجيب قَمِيصه مرقوعُ

 

أي شي وجده مصعب حتى يستبدل النعيم بالتقشف؟! وأي متعة نالها بالجوع والجهد والنصب؟! ذلكم هو الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب، ذلكم هو اليقين إذا رسخ في القلوب، ذلكم هو القرآن إذا فهمته العقول وذاقت حلاوته القلوب؛ عندها تباع الدنيا، ويزهد في النعيم، وترخص الأنفس في ذات الله؛ (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)[فصلت: 35].

 

وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا *** عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي

وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ *** يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ

 

يُعلِمُ مصعبُ الأجيالَ أنّ قيمةَ الإنسانِ ليست في ثيابٍ يلبسها، أو شعرٍ يسرحه، أو مركبٍ يفاخر به، أو منصبٍ يقاتل من أجله.

 

يُعلِم مصعبُ الأجيالَ أن الحياة بزينتها وزخرفها، ونعيمها وترفها، تُباع إذا كان الثمن الإسلام، وترخص إذا كان العوض الجنة، قال سعد بْن أَبِي وقاص -رضي الله عنه-: " كنا قوما يصيبنا ظلف العيش بمكة مع رَسُول اللَّهِ -عليه الصلاة والسلام-، فإذا أصابنا البلاء مررنا عَلَيْهِ فصبرنا، وَكَانَ مصعبُ بْن عمير أنعمَ غلامٍ بمكة، وأجوده حلة مع أبويه، ثُمَّ لقد رأيته جهد فِي الإسلام جهدا شديدا، حَتَّى لقد رأيت جلده يتحشف كما يتحشف جلد الحية".

 

كمْ نازعتكَ الفخرَ سادةُ مكةٍ *** حسداً، وهلْ صدفٌ يقاسُ بجوهرِ؟

 

الفخرُ والعز لا يُكسب بتنازلٍ عن ثوابت الدين ومبادئه، أو تنكرٍ لفضائلِ الإسلام وقيمه، والشرفُ والسؤدد لا يُنال بشهرةٍ دنيئةٍ على حساب الأخلاق والمروءة!.

 

هل رأى المسلم كالإسلام فخرا *** يكسب العز به دنيا وأخرى؟

 

أوذي مصعب بن عمير في ذات الله أذى عظيما، وسلبت منه النعمة والحياة، فما وهن لما أصابه في سبيل الله وما ضعف وما استكان، بل مضى يتحدى كل المغريات والتحديات، مستعصماً بالله، معتزاً بإسلامه وإيمانه.

 

فلما اشتد عليه البلاء هاجر إلى الحبشة، فعن ليلى بنت أبي حثمة -رضي الله عنها- قالت: "لما اجتمعوا على الخروج، جاءنا مصعب بن عمير متسللا فاصطحبناه، وهم يمشون على أقدامهم، وأنا على بعير، وكان مصعب بن عمير رقيق البَشَرِ، ولقد رأيت رجليه تقطران دما من الرقة، فرأيت عامر بن ربيعة خلع حذاءه فأعطاه، ولقد كنت أرى عامراً يَرِقُّ على مصعب بن عمير رِقَّةً ما يرقُّها على ولده، وما معه دينار ولا درهم".

 

مَـــنْ كَــانَ مُرْتَــــدِيًا بِالعَقْــــلِ مُـؤْتَـزِرًا *** بِالعِلْمِ مُلْتَفِعًا بِالفَضْلِ وَالأدَبِ

فَقَدْ حَوَى شَرَفَ الدُّنْيَا وَإِنْ صَفَرَتْ *** مِنْ فضَّــةٍ فِيْهَا وَمِنْ ذَهَـــبِ

 

ليس لمصعب بن عمير همُّ غير الإسلامِ وتبليغ القرآن، لما سمع بقدومِ ناسٍ من الأنصار لمبايعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجع إلى مكة وحضر بيعة العقبة، فبعثه النبيُ -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة سفيراً ومعلما وهو ابن الثلاثين من عمره، قَالَ الْبَرَاءُ بْنَ عَازِبٍ -رضي الله عنه-: "أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا الْمَدِينَةَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، فَكَانَ يُقْرِئَ الْقُرْآنَ ويفقه فِي الدين، وَكَانَ يدعى القارئ والمقرئ، فَلَمْ يَزَلْ يَهْدِي اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ، حَتَّى قَلَّ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إِلَّا أَسْلَمَ فِيهَا نَاسٌ؛ فَأَسْلَمَ أَشْرَافُهُمْ، وَكُسِّرَتْ أَصْنَامُهُمْ، وَجَمّعَ بِالْمُسْلِمِينَ الْجُمُعَةَ"، وأسلم عَلَى يده أسيد بْن حضير، وسعد بْن معاذ، وكفى بذلك فخرا وأثرا فِي الإسلام.

أفلح من خاض بحار الدجى *** وصهوةُ العزِّ له مركبُ

 

لا شيء يرفعك غير الوحيين، ولا شيء يكسبك عزا ورفعة غير تعليم القرآن والسنة؛ "لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا؛ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ".

 

أستغفر الله لي ولكم وللمسلمين والمسلمات، فاستغفروه إن ربي رحيم ودود

 

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَكَفَى، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى عَبْدِهِ الْمُصْطَفَى، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اجْتَبَى. 

 

أَمَّا بَعْدُ: الإسلام يهذب النفوس، والتعليم يربي على التواضع وخفض الجناح للمؤمنين، هذا هو ما تمثله معلمُ القرآنِ وسفيُر الإسلام مصعبُ بن عمير -رضي الله عنه-، قال عامر بن ربيعة: "كان مصعب لي خِدْناً وصاحبًا منذُ أسلم، خرج معنا إلى الهجرتين جميعا بأرض الحبشة، وكان رفيقي من بين القوم، فلم أرَ رجلاً قطُ كان أحسنَ خلقاً، ولا أقلَّ خلافاً منه".

 

وفي غزوة بدرٍ الكبرى دفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رايته إلى مصعب بن عمير، فرفع مصعب لواء المهاجرين، ولواء الخزرج مع الحباب بن المنذر، ولواء الأوس مع سعد بن معاذ -رضي الله عنهم-.

 

قوم إذا دجت الخطوب تجملوا *** وتحملوا البلوى ببأس قاهرِ

 

فلما انتهت المعركة رأى مصعبُ أخيه أسيراً، فقال مصعب لمُحْرِزٍ: "اُشدُدْ يديك به؛ فإن له أُمّاً بمكة كثيرة المال"، فقال له أخوه: هذه وصاتُك بي يا أخي؟ فقال مصعب: "إنه أخي دونك"، (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)[المجادلة: 22]، فكيف بمن يوالي ويعادي من أجل لعبةٍ أو منصبٍ أو لعاعة من الدنيا؟! "مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ؛ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ".

 

وفي يوم أحد حمل مصعب بن عمير لواء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-،  ولم يختلف أهل السير أن راية رسول الله  -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر ويوم أحد كانت بيد مصعب بن عمير -رضي الله عنه-، فتقدم بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما جال المسلمون ثبت مصعب وأبلى بلاءً حسناً، حتى قطعت يده اليمنى، فأخذ اللواء بيده اليسرى فقطعت اليسرى، فَحَنا على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره، ثم أتاه سهم فخر صريعا شهيداً  -رضي الله عنه-، فوقف عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال "أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".

 

فلما انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَة، تلَقَته حمنة بِنْتُ جَحْشٍ زوجة مصعب، فَنَعَى لَهَا النَّاسُ أَخَاهَا عَبْدَ اللَّه، فَاسْتَرْجَعَتْ وَاسْتَغْفَرَتْ لَهُ، ثُمَّ نُعِيَ لَهَا خَالُهَا حَمْزَةُ فَاسْتَرْجَعَتْ وَاسْتَغْفَرَتْ لَهُ، ثُمَّ نُعِيَ لَهَا زَوْجُهَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، فما استطاعت أن تملك نفسها؛ فَصَاحَتْ وقالتْ" "واحزنا!"، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ زَوْجَ الْمَرْأَةِ مِنْهَا لَبِمَكَانِ".

 

أفني العَزاءَ همومُ قلبٍ مُوجَعٍ *** فالحزَن بها، فلَيس مثلُها مَفجُوعُ

 

هذه هي مدرسة مصعب بن عمير -رضي الله عنه- بدروسها وفصولها، بحديثها وأحداثها، بمواقفها وعبرها، مدرسةٌ من مئات المدارس التي أسسها محمد بن عبدالله -عليه الصلاة والسلام-، أسسها بقوة العقيدة ورسوخ الإيمان، بثبات المبدأ والاعتزاز بالإسلام، لو دخلنا هذه المدارس وسجلنا أبنائنا وبناتنا فيها؛ لما رأينا الانهزامية والتبعية لكل ناعق، ولما أصبح المال والمنصب والشهرة ثمناً للدين والقيم والأخلاق.

 

شخصية مصعب بن عمير جديرةُ بأن تقص في كل بيت ومحضن ومدرسة؛ بثاً للقدوات وترسيخا لمعاني الرجولة والتضحية وعلو الهمة.

 

قف أيها التاريخُ سجل صفحةً *** غراءَ تنطقُ بالخلودِ الكاملِ

 

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، اللهم أصلح قلوبنا وأعمالنا وذرياتنا، وهب لنا من لدنك رحمة وعلما، واجمعنا بصحابة نبيك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life