مختصر خطبتي الحرمين 8 شوال 1436هـ

ملتقى الخطباء - الفريق الإعلامي

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات:

اقتباس

إن النسيمَ لا يهُبُّ عليلاً على الدوام؛ إذ لا بُدَّ أن يتقلَّب هُبُوبُه، فتستقبِلَه تارةً وتتَّقِيَه أخرى، وهكذا هي الحياة مع الآخرين، ليست صفوًا على الدوام، لذا فإن من اشتغلَ بتتبُّع الزلاَّت والمُحاسبة عليها والانتِقام لها، وأهملَ خُلُق التغافُل في كثيرٍ منها، فإنه سيجِدُ نفسَه يومًا ما وحيدًا يتَّقِيه جُلُّ الناس، فضلاً عن كونِه ضيَّع وقتَه في إفساد قلبِه بتفويتِ مصالِح الكبرى في مُقابِل ما هو أقلُّ منها بمراحل، بحيث يتعذَّرُ إدراكُ ما مضَى منها، فتطيشُ الكليَّات، وتبقَى الجُزئيَّات.

 

 

 

 

مكة المكرمة:

 

ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "خلق التغافل"، والتي تحدَّث فيها عن خُلُقٍ صارَ من نوادر الأخلاق في زماننا، ألا وهو: التغافُل، مُبيِّنًا الفرقَ بينه وبين الغفلة والغباء، كما ذكر بعض الآيات والأحاديث والآثار الدالَّة على هذا الخُلُق العظيم.

 

واستهل الشيخ بالوصية بتقوى الله -تعالى- فقال: فاتَّقوا الله - عباد الله -.

 

وأضاف الشيخ: إن المرءَ العاقلَ هو ذلكم الذي يستحضِرُ على الدوام عدمَ كمال الحياة التي يعيشُ فيها الناس، ويستحضِرُ على الدوام أيضًا عدمَ كمال الناس أنفسهم، وأن النقصَ يعتريها ويعتريهم، وأن من سرَّه شيءٌ ربما ساءَته أشياء، وأن لكلٍّ زلَّةً وهناةٍ. فمن ذا الذي تُرضَى سجاياهُ كلُّها؟! ومن ذا الذي ما ساءَ قطُّ؟!

 

وقال حفظه الله: لذا فإن لكل نفسٍ حيَّةٍ طبعًا أصيلاً لم يطرَأ عليه ما يُغيِّره، فكان لزامًا أن تتفاوَت النفوسُ في درجات الثبات والهدوء، والأناةِ والصفاء أمام المُثيرات التي تؤُزُّ ضِعاف النفوسِ إلى الحُمق والعجَلة أزًّا، فتفصِل بين ثقة المرء بنفسه وبين أناتِه وحلمه، وبين أناتِه وحلمِه مع غيره، بوسيلةٍ يجهلُها كثيرٌ من الناس، قد حصرَها حكماءُ النفوس في خصلة التغافُل أو التغابِي عن المُكدِّرات في الحياة العامَّة والخاصَّة بين الشعوب والسَّاسة، والأسرة وأفراد المُجتمع الواحد.

 

وقال وفقه الله: نعم، إنه التغافُل من باب القوة لا الضعف، والحِلم لا العَجز، والصبر لا الخَوَر؛ لأن اتِّساع الأذن لكل مسموع، واتِّساع العين لكل مرئيٍّ كفيلان في تكدير الصفو، وتفريق المُجتمع، ونصب خِيام سوء الظنِّ في القلب وسط عواصِف الشُّكوك والإحَن والشَّحناء والبغضاء.

 

فلا مناصَ حينئذٍ من التغافُل والتغابِي أحيانًا، حتى تسير القافلةُ بأمانٍ؛ لأن المنزلَ بعيدٌ لا يحتمل الالتِفات أثناء المسير. فإن كثرة الالتِفات من مُعوِّقات الوصول السريع، ومن أخذ بكل زلَّةٍ على كل أحد فلن يبقَى له في الدنيا زوجةٌ، ولا أخٌ، ولا صديقٌ، ولا جارٌ؛ إذ لا يشكُّ عاقلٌ البتَّة أن التغافُل أدبٌ جميلٌ يحملُ صاحبَه على تعمُّد الغفلة والتغابِي، مع علمِه بما هو مُتغافلٌ عنه جلبًا لمصلحةٍ راجحةٍ، أو درءً لمفسدةٍ راجحةٍ أيضًا.

 

وقال حفظه الله: وهو خُلقٌ نبويٌّ كريمٌ، فقد قال الحسنُ البصريُّ - رحمه الله -: "ما استقصَى نبيٌّ قطُّ"، قال الله عن نبيِّه حين أخطأت بعضُ أزواجه: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) [التحريم: 3]، ومما يزيد على أن عدمَ الاستِقصاء وتتبُّع الزلاَّت، والحِرص على سلامة الصدر تُجاه الآخرين، وكُره أن يبلُغه شيءٌ مما لا يُسرُّ عنهم، إنما هو نهجٌ نبويٌّ شريفٌ، ما جاء في الحديث مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُبلِّغني أحدٌ من أصحابي عن أحدٍ شيئًا، فإني أحبُّ أن أخرج إليكم وأنا سليمُ الصدر" (رواه أحمد وأبو داود والترمذي).

 

وأضاف فضيلته: والحاصلُ - عباد الله - أن التغابِي أو التغافُل المحمود هو ما حملَ في طيَّاته معنى السماحَة واللِّين وغضِّ الطرف، فإنه كلما افتقَر التغابِي إلى هذا المعنى، فإنه سيُصبِحُ حينئذٍ جُزءً من المشاكل لا جُزءً من الحُلول. وهذا سرُّ كثيرٍ من الخُصومات والأحقاد والتربُّص بالآخرين. فإنه ليس من الفُتُوَّة التشبُّث بزلاَّت الآخرين، والفرحُ باستِحصالها على وجه التتبُّع، والحرث في أرض النوايا، وحملها أكثر مما تحتمِل. ناهِيكم عن إغلاق أبواب الأعذار والاعتِذار، وحمل الأخطاء والزلاَّت على أقلِّ الوجوه سُوءً في الظنِّ، وغُلوًّا في النوايا، والشقِّ عن القلوب، فإن العافيةَ - يا رعاكم الله - لا تُستجلَبُ بمثل ذلكم؛ بل إنها تُوأدُ بذلكم كلِّه.

 

وقال حفظه الله: إن النسيمَ لا يهُبُّ عليلاً على الدوام؛ إذ لا بُدَّ أن يتقلَّب هُبُوبُه، فتستقبِلَه تارةً وتتَّقِيَه أخرى، وهكذا هي الحياة مع الآخرين، ليست صفوًا على الدوام، لذا فإن من اشتغلَ بتتبُّع الزلاَّت والمُحاسبة عليها والانتِقام لها، وأهملَ خُلُق التغافُل في كثيرٍ منها، فإنه سيجِدُ نفسَه يومًا ما وحيدًا يتَّقِيه جُلُّ الناس، فضلاً عن كونِه ضيَّع وقتَه في إفساد قلبِه بتفويتِ مصالِح الكبرى في مُقابِل ما هو أقلُّ منها بمراحل، بحيث يتعذَّرُ إدراكُ ما مضَى منها، فتطيشُ الكليَّات، وتبقَى الجُزئيَّات.

 

وختم الشيخ خطبته ببيان المعيار الشرعي الصحيح للتغافل فقال: اعلَموا - يا رعاكم الله - أن المؤمنَ كيِّسٌ فطِن، نصَّاحٌ لمَّاح، يميزُ بين الغباء والتغابِي، والغفلةِ والتغافُل؛ فالتغافُل رفعةٌ، والغفلةُ دونٌ. ومن هنا وقعَ كثيرٌ من الناس في الخطأ باستِعمال مِعيار التغافُل، فتغافَلوا عن الحسن وأظهروا القبيح، وجعلُوا إحقاقَ الحقِّ وإبطالَ الباطل داخلاً في التغافُل المحمود، حتى عبَثَت به فلسفةُ التغافُل عندهم، لما فيها من استِبدال الذي هو أدنَى بالذي هو خير. وقد صحَّ عن أبي سلَمة قولُه: "لم يكُن أصحابُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مُنحرِفين ولا مُتماوِتين، وكانوا يتناشَدون الشِّعر في مجالسهم، ويذكرون أمرَ جاهليَّتهم، فإذا أُريدَ أحدٌ منهم على شيءٍ من أمر الله دارَت حماليقُ عينيه" (رواه البخاري في "الأدب المفرد").

 

 

المدينة المنورة:

 

ألقى فضيلة الشيخ صلاح البدير - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "المداومة على الطاعات"، والتي تحدَّث فيها عن التذكير بالموت وقُربه من العباد، ووجوب العمل لما بعدَه من البرزخ والحساب، مُذكِّرًا بالمُداومة على الطاعات بعد رمضان، ثم حثَّ على صيام الست من شوال، مُنبِّهًا إلى بدعةٍ يقعُ فيها بعضُ المسلمين.

 

واستهل الشيخ بالوصية بتقوى الله -تعالى- فقال: اتَّقوا الله فإن تقواه أفضلُ مُكتسَب، وطاعتَه أعلى نسَب، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

 

وأضاف الشيخ: الدنيا متاعٌ يذهب، ومالٌ يُنهَب، ودارٌ تخرَب، وروحٌ تُسلَب، فطُوبَى لمن شدَّ مطيَّته بأكوار الرِّحال، وأدركَ فُسحةَ العمر قبل الارتِحال.

 

وقال حفظه الله: يا من أمسكَ عن المُفطِّرات في رمضان وراقبَ المعبودَا.. يا من قطَّع الليل تسبيحًا وتلاوةً وركوعًا وسجودًا.. يا من بذل المال تعبُّدًا وإحسانًا وكرمًا وجُودًا.. يا من جاهدَ النفسَ وصانَها عن الحَدور والهَبوطِ وعلا بها نُجودًا: لا تكُن ممن عملَ صالحًا ثم انقطع.. لا تكُن ممن أعطَى قليلاً ثم أكدَى وامتنَع.. لا تكُن ممن هجَر الذنبَ ثم رجَع.

 

وقال وفقه الله: يا من كنتَ إلى الخير ساعيًا.. وعن الشرِّ نائيًا.. وعلى الفقير حانيًا.. وللقرآن تاليًا.. ومن المساجِد دانيًا.. وفي الليل قائمًا وداعيًا.. مُصلِّيًا وخاشعًا وباكيًا: لا تعُد بعد رمضان عاصيًا.. وعلى العباد عاديًا.. وعن الفريضة ساهيًا. وبئس العبد من يعبُد ربَّه في رمضان، ثم إذا خرجَ استثقلَ بالعبادة، وتسربلَ بالنُّقصان بعد الزيادة، وأطاعَ الشياطين والمرادَة.

 

وأضاف فضيلته: يا عبد الله! لا تكُن ممن رجعَ على قفاه.. وخالفَ جهةَ ممشاه.. ونقضَ ما أحكمَت يداه.. وهدمَ ما شيَّده وبناه. يا عبد الله! العزيمةَ العزيمةَ، والثباتَ الثبات؛ فمن رُزِق الصريمة والعزيمة أمَّته الخيراتُ والبركات، ومن مُنِح الثبات نحَته الفتوحُ والهِبات؛ لأن العزيمة تأمرُ بالأنفع، والثباتَ يحمِلُ على الأرفَع.

 

واستشهد سماحته بوصية نبوية غالية فقال: قال شدَّادُ بن أوسٍ - رضي الله عنه -: قال لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا شدَّاد بن أوس! إذا رأيتَ الناسَ قد اكتنَزوا الذهب والفضَّة، فاكنِز هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألُك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرُّشد، وأسألُك مُوجِبات رحمتك، وعزائِم مغفرتِك، وأسألُك شُكر نعمتِك، وحُسن عبادتِك، وأسألُك قلبًا سليمًا، ولسانًا صادقًا، وأسألُك من خير ما تعلَم، وأعوذُ بك من شرِّ ما تعلم، وأستغفِرُك لما تعلَم، إنك أنت علاَّم الغيوب" (أخرجه أحمد والطبراني، واللفظُ له).

 

وقال حفظه الله: فامضِ بالثبات والعزيمة على حالتِك الجميلة، وطريقتِك المُستقيمة، وليكُن عملُك دِيمة؛ فعن علقمة قال: سألتُ أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -: قلتُ: يا أم المؤمنين! كيف كان عملُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ هل كان يخُصُّ شيئًا من الأيام؟! قالت: "لا، كان عملُه دِيمة، وأيُّكم يستطيعُ ما كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يستطيعُ؟!" (متفق عليه). وإن أحبَّ العمل إلى الله تعالى أدوَمُه وإن قلَّ، والقليلُ الدائم ينمُو ويزكُو ويربُو، والكثيرُ الشاقُّ يُورِثُ السآمةَ والملال، والانقِطاع وترك الوِصال.

 

وقال وفقه الله: صيامُ الستِّ من شوال سُنَّةٌ ثابتةٌ في أصحِّ الأقوال، دلَّ عليها الدليلُ الذي قرَّر أهلُ الجلالة في الرواية اعتمادَه، وصحَّحوا إسنادَه؛ فعن أبي أيوب الأنصاريِّ - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صامَ رمضانَ ثم أتبعَه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر" (أخرجه مسلم)، وعن ثوبان - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من صامَ ستَّة أيامٍ بعد الفِطر كان تمام السنة، من جاء بالحسنة فله عشرُ أمثالها" (أخرجه أحمد وابن ماجه).

 

وبيَّن فضيلته بعض أحكام صيام الست من شوال فقال: وصيامُها عقيبَ العيد من المُسارَعة إلى الخير، والمُبادَرة إلى العبادة. وتحصُلُ فضيلتُها بصومها مُتتابعةً أو مُتفرِّقة، في أول الشهر أو آخره، ولا يصحُّ صيامُها بنيَّة التشريك بينها وبين قضاء الفائِت من رمضان؛ فمن فعلَ ذلك لم يسقُط بها القضاء.

 

وختم فضيلته خطبته بالتحذير من بدعة اتخاذ الثامن من شوال فقال: ويحرُم اتخاذُ ثامن شوالٍ عيدًا، يُصنَعُ فيه طعامٌ كطعام العيد، ويُهنَّأُ فيه بتهنئة العيد، ويُسمِّيه بعضُ العوام عيد الأبرار، ويقولُ من أكملَ صيامَ الستِّ: هذا عيدي! فمن فعلَ شيئًا من ذلك فقد ابتدعَ في الدين، وخالفَ نهجَ السلَف الصالحين. قال شيخُ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: "وأما ثامنُ شوال فليس عيدًا، لا للأبرار ولا للفُجَّار، ولا يجوزُ لأحدٍ أن يعتقِده عيدًا، ولا يُحدِث فيه شيئًا من شعائر الأعياد".

 

 

 

 

التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life