اقتباس
إنَّ فلاحَ الأمة وفوزَها بكل مرغوبِ، ونجاتَها من كل مرهوبٍ، وسلامتها من سائرِ الخُطُوب، لا يتحقَّقُ إلا بتمسُّكِها بالإسلامِ الصافِي، الذي يتضمَّنُ سلامةَ التوحيد، وصحةَ الاعتقاد، والاستِسلامَ الكاملَ للواحدِ المعبُود، في كافَّةِ مناشِطِها ومجالات حياتِها، فلن تَسعدَ الأمةُ وتصلُحَ أحوالُها ما لم تُخضِع جميعَ أنظمة حياتِها وشتَّى توجُّهاتِها لشرعِ الله - جلَّ وعلا، لن يتحقَّقَ رخاءٌ واستِقرارٌ ورغَدٌ في عيشٍ، وأمنٌ وأمانٌ لمُجتمعٍ مُسلم، حتى يُسلِمَ أمرَه لحكمِ الله - جلَّ وعلا -، ويُطبِّقَ شرعَه وينقَادَ لهَدي رسولِه - صلى الله عليه وسلم -.
مكة المكرمة:
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "سورة طه .. فوائد وعبر"، والتي تحدَّث فيها عن سورة طه وما تحوِيه من فوائد جمَّه، وعِبر وعِظات، لاسيَّما وأنها نزلَت تسلِيةً للنبي - صلى الله عليه وسلم - بسبب ما يُلاقِيه من كفَّار قريشٍ من الأذَى، كما أنها مُرشِدةً لكل داعِيةٍ إلى الله لما تتضمَّنُه من توجيهاتٍ ونصائِح لا يستغنِي عنها الدعاةُ.
واستهل الشيخ بالوصية بتقوى الله -تعالى- فقال: فأُوصِيكم - أيها الناس - بتقوَى الله تعالى.
وأضاف الشيخ: سُورةٌ عظيمةٌ في كتابِ الله، نزلَت ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُستضعَفٌ في شِعابِ مكَّة، وما آمَنَ معه إلا قليلٌ. إنها سُورةُ طه. سُورةٌ عظيمةٌ نزلَت لتأخُذ بيدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - على طريقِ الدعوة، وتُقيمَه على دَرب البلاغ. نزلَت ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُستضعَف، وأصحابُه قليلُون يُؤخَذُون ويُعذَّبُون، وقريشٌ تُكذِّبُه وتُؤذِيه، ويقولُون: ساحرٌ، ومجنُون.
وقال حفظه الله: وما ثَمَّ بدرٌ ولا فتحُ مكَّة، ولا وُفُود القبائِل، ولا شيءَ يلُوحُ في الأُفق، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لا يعلَمُ ما يُخفِي له الغيب، ولا يدرِي شيئًا عن مصيرِ هذه الدعوةِ التي كلَّفَه الله بها، وقومُه يُكذِّبُونَه وهو الصادقُ الأمين، ولا شيءَ أقسَى على الصادِقِ من أن يُكذِّبَه مَن حولَه. في هذه الأثناءِ تتنزَّلُ سُورةُ طه: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه: 2- 5].
وأشار الشيخ إلى أن موسى - عليه السلام - ذكرَه الله تعالى في هذه السُّورة، مثالَ الداعِية مثالاً عظيمًا من أُولِي العزم من الرُّسُل، ولهذا سمَّى بعضُ أهل العلم هذه السُّورة: "سُورةَ الكَليم". وقد عالَجَ بني إسرائيل أشدَّ المُعالَجَة، ولقِيَ منهم ما لقِي، وهم السوادُ العظيمُ الذي رآهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - قد سدَّ الأُفُق، إنه نبيٌّ اختارَه الله كما اختارَك، وألقَى محبَّتَه في القلوبِ كما ألقَى محبَّتَك، وصنَعَه الله على عينِه كما يصنَعُك - يا مُحمد - على عينِه، (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) [طه: 39].
وأكد فضيلته أن كل دعوةٍ قامَت على الاهتِمام بأمرِ التوحيدِ والصلاةِ فإنها دعوةٌ على أمرِ الأنبِياء: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [يوسف: 108].
وقال وفقه الله: سُورة طه تقولُ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الدعوةَ والداعِيةَ يُؤيَّدُ من قِبَل الله تعالى بالآياتِ والبراهِينِ الناطِقة، إذا سارَ في طريقِ الدعوة، ويُذلِّلُ الله له العقَبَات، ويفتَحُ الأبوابَ، ويُرِيه من ألطافِه ما لا يخطُرُ على بالٍ، حتى لتغدُو العصَا حيَّة، (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى) [طه: 22].
سُورةٌ تقولُ: إن الداعِيةَ إلى الله مُحتاجٌ إلى صَدرٍ واسِعٍ يحمِلُ الناسَ، وإلى عَونٍ من الله وتيسير، وإلى لسانٍ يُبلِّغُ عن هذه الدعوةِ رسالتَها، وقد يكونُ اللسانُ قلَمًا أو صحيفةً أو وسيلةً مرئيَّةً، وهو مُحتاجٌ إلى من يُؤازِرُه ويشُدُّ عضُدَه، وهو قبل ذلك وبعدَه مُحتاجٌ إلى اتصالٍ وَثيقٍ بالله.
وأكد الشيخ أن هذه هي أدواتُ الداعِية، فاسمَع إلى هذه المطالِبِ في سُؤال الداعِية مُوسى - عليه السلام -: (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى) [طه: 25- 36].
وبيَّن الشيخ أنها سُورةٌ تقولُ: إن أساسَ الدعوة إلى الله الرِّفقُ واللِّين، فلو كان المدعُوُّ أعتَى الطُّغاة: (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [طه: 42- 44]. قال وهبُ بن مُنبِّه: "قُولا له: إني إلى العفوِ والمغفِرةِ أقربُ مني إلى الغضَبِ والعقُوبةِ". وقال بعضُ السلَف: "قُولا له: لا إله إلا الله". فلم يكُن اللِّينُ إلا في القولِ والبلاغِ دُون مضمُون الرسالةِ والعقيدة.
وأكد الشيخ أن سُورة طه تقولُ: إن على الدُّعاةِ أن يجتمِعُوا على كلمةٍ سواءٍ، فبينَهم من دواعِي الاجتِماع أكثرُ من دواعِي الفُرقة؛ فكتابُهم واحد، ونبيُّهم واحد، وغايتُهم واحدة. وإذا كان أهلُ الباطلِ يتنادَون فيما بينَهم، فأهلُ الحقِّ أولَى بذلك، قال السَّحرةُ: (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى) [طه: 64].
وقال وفقه الله: سُورة طه تقولُ: إن على الداعِية ألا يخَاف؛ لأن الله معه، قالَها الله تعالى لمُوسَى - عليه السلام - ولأخِيه في بدايةِ الدعوة: (قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) [طه: 45، 46]، وأعادَها الله على مُوسى وقتَ المُنازَلَة، لما ألقَى السحرَةُ حِبالَهم وعِصِيَّهم: (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ) [طه: 67- 69]. هكذا .. (إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ)، يُدرِكُ الداعِيةُ حجمَ الباطلِ وحقيقتَه فلا يخافُ، (إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ).
وأشار فضيلته إلى أنها سُورةٌ تقولُ: إن الداعِيةَ إلى الله لا يتزَحزَحُ عن الطريقِ ولا يتأخَّر، ولا يتراجَعُ، ولا يشُكُّ في أمرِ دعوتِه، وإن اختلَفَت الأحوالُ على أتباعِه، وتقلَّبُوا في فتنةِ السرَّاء وفتنةِ الضرَّاء .. هذا مُوسى - عليه الصلاة والسلام - آمَنَت له السَّحرةُ واتبَعُوه، فأصابَهم ما أصابَهم، وما تغيَّر حالُه، وما وهَنَ ولا ضعُف.
وبين الشيخ أن خواتِمُ السُّور تعُودُ على مفاتِحِها، وأواخِرُها تتعلَّقُ بأوائلِها، وبينَهما من التناسُبِ ما بينَهما. وفي خواتِيم سُورة طه تعقيبٌ وخطابٌ لكُفَّار قُريش، وتوجيهاتٌ وخُلاصاتٌ للدُّعاةِ إلى الله، ثم تجِيءُ الوصايَا العظيمةُ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولأتباعِهِ من الدُّعاةِ والمُؤمنين إلى يوم القيامة؛ وصيَّةٌ بالصبرِ والذكرِ والصلاةِ.
وأكد الشيخ أن الدعوةَ إلى الله جِهادٌ، ولا بُدَّ للمُجاهِدِ من الصبرِ والذكرِ؛ فإنهما نِعمَ العَون في طريقِ الدعوةِ الطويل، (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طه: 131]، لا تلتفِت إلى ما في أيدِي المحظُوظِين من المتاعِ، فما عند الله خيرٌ وأبقَى. إن الداعِيةَ وصاحِبَ القُرآن لا يمُدُّ عينَيه، فضلاً أن يمُدَّ يدَه إلى أهلِ الدنيا.
وختم الشيخ خطبته بالتحذير من الإشاعات والأراجيف التي تهدم المجتمعات فقال: فهذه الأيامُ التي تعيشُونَها تُصبِّحُكم فيها وتُمسِّيكُم أراجِيفٌ وتخويفٌ، وتنبُّؤاتٌ بحُروبٍ وصِراعاتٍ، وتنقُّصٌ من الأموال والأنفُسِ والثَّمرات، وتجديدٌ لوَعد الشيطانِ الناسَ بالفقر، وأمرِه لهم بالفحشَاء، وهي أحوالٌ مرَّت على من هم خيرٌ منكم عند الله وأزكَى، مرَّت على خيِّرِين كأراجِيف وفتَن، ومرَّت على غيرِهم كوقائِع وأحداث.
وأيًّا كانت الأحوالُ في الحاضِر والمُستقبَل؛ فإنها ألسِنةُ حقٍّ وسِياطُ صِدقٍ، تسُوقُ الناسَ لربِّهم الكريم، وتُذكِّرُهم بما انتقَصُوه من دينِهم العظيم، وتربِطُ على القلوبِ عند الفتَن، وتُثبِّتُهم عند المِحَن. وقد مضَى القومُ من قبلِكم، وما المقصُودُ بالآياتِ - واللهِ - إلا أنتُم. فخُذُوا من كتابِ الله عِظاتِه، وتدبَّرُوا سُنَنَه وآياتِه: (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) [ق: 45]. وسُننُ الله ثابِتة، وأقدارُه نافِذة، والأمرُ كلُّه لله وحدَه، وما الخلقُ إلا عَبيدُه.
المدينة المنورة:
ألقى فضيلة الشيخ حسين بن عبد العزيز آل الشيخ - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "أسباب فلاح الأمة المحمدية"، والتي تحدَّث فيها عن النَّكبَات التي تحُلُّ بالمُسلمين في هذا العصر، وأنه لا فلاح ولا نجاحَ للأمة إلا بتمسُّكها بكتابِ ربِّها وسُنَّة نبيِّها - صلى الله عليه وسلم -، واجتِناب ما حرَّم الله تعالى.
واستهل الشيخ بالوصية بتقوى الله -تعالى- فقال: أُوصِيكم ونفسي بتقوَى الله - جل وعلا -؛ فمن اتقَى أفلَحَ وزكَى.
وأضاف الشيخ: في واقعِ الأمةِ اليوم فتنٌ مُدلهِمَّةٌ، ومصائِبُ مُتنوعةٌ، وتحديَاتٌ خطرةٌ، ومخططاتٌ ماكِرة، وإنَّ أهلَ الإسلام - حكوماتٍ وأفرادًا - يتطلَّعُون إلى ما يُصلِحُ أحوالَهم ويُسعِدُ حياتَهم، ويُحقِّقُ لهم السرَّاءَ والرخاء، ويدفَعُ عنهم الشدَّةَ والضرَّاء.
وقال حفظه الله: إنَّ فلاحَ الأمة وفوزَها بكل مرغوبِ، ونجاتَها من كل مرهوبٍ، وسلامتها من سائرِ الخُطُوب، لا يتحقَّقُ إلا بتمسُّكِها بالإسلامِ الصافِي، الذي يتضمَّنُ سلامةَ التوحيد، وصحةَ الاعتقاد، والاستِسلامَ الكاملَ للواحدِ المعبُود، في كافَّةِ مناشِطِها ومجالات حياتِها، فلن تَسعدَ الأمةُ وتصلُحَ أحوالُها ما لم تُخضِع جميعَ أنظمة حياتِها وشتَّى توجُّهاتِها لشرعِ الله - جلَّ وعلا، لن يتحقَّقَ رخاءٌ واستِقرارٌ ورغَدٌ في عيشٍ، وأمنٌ وأمانٌ لمُجتمعٍ مُسلم، حتى يُسلِمَ أمرَه لحكمِ الله - جلَّ وعلا -، ويُطبِّقَ شرعَه وينقَادَ لهَدي رسولِه - صلى الله عليه وسلم -.
وأكد الشيخ أنه لن يرتفعَ الشقاءُ بأنواعِه المختلفة، مهما حاوَلنا بكل السُّبلِ التخلُّصَ منه، ما لم نُحقِّق توبةً نَصُوحًا مما حلَّ في واقِعِنا، من مُخالفةٍ لمنهَج ربِّنا وسُنَّة نبينا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فلقد آنَ للأمةِ وهي تُقاسِي من الآلام والمآسِي ألوانًا مُختلفةً .. آنَ لها أن تخشَعَ لربِّها .. آنَ لها أن تتُوبَ إليه بإصلاحِ الشأن وفقَ مرضاتِه - سبحانه -، (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) [الحديد: 16].
وأشار الشيخ إلى سوء أحوال الأمة فقال: وها هي الأمةُ - على سبيلِ المثالِ اليوم - تعيشُ في تدابُرٍ وتقاطُعٍ، واختِلافٍ وتنازُعٍ، وتشاجُرٍ وتدافُع، نتَجَ عن ذلك سفكُ دماءٍ، وهَتكُ حُرمات، حتى ذاقَ بعضُهم بأسَ بعضٍ، ها هي الأمةُ اليومَ تُعانِي نكَسَاتٍ كُبرى في مجالِ الاقتِصادِ والمال؛ وذلك لأن سبيلَ الخلاصِ للأمةِ المُحمدية، من النكَبَاتِ المالية، والانتِكاساتِ الاقتصادية، إنما هو في السَّيرِ وفق المنهج الإلهيِ المُرتَضى، الذي متى حادَت عنه وقعَت في الضرَّاء والبأسَاء والبلوَى، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران: 131].
وأشار الشيخ إلى أن تحقيق الفلاحِ مطلَبٌ عظيم، لكنَّه لهذه الأمة مُعلَّقٌ على عملِ الأمةِ الجادِّ الصادِقِ، بمنهَجِ التآمُرِ بالمعروف والتناهِي عن المنكر، والتناصُحِ فيما يُصلِحُ الأمورَ ويُسدِّدُ التوجُّهات، وفقَ منهجٍ رَاقٍ، وأسلوبٍ حكيم، ومقصدٍ سامٍ، وهدفٍ نبيل، ومتى حادَ المسلمون عن هذا الطريق، وقَعُوا في الخَسَارِ، وارتَكَسُوا في البَوَار.
وأكد فضيلته أن فلاحَ المسلمين مُتعلِّقٌ بفَهمِ الإسلامِ الصافِي، الذي جاء به محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، دينُ الوسطيَّة البعيدُ عن الغلُوِّ والتنطُّعِ والتشدُّد، وعن التفرِيطِ والتساهُلِ بالأحكامِ الثابِتةِ في الوحَيين؛ فكم جرَّ الغلوُّ أو التفريط، كم جرَّ ذلك على المسلمين من مفاسِدَ عُظمى، وشُرورٍ لا تُحصَى؛ لأن ذلك مخالفٌ لما أرادَه المولَى، وسنَّهُ المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، قال الله - جلَّ وعلا -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة: 143].
وبيَّن الشيخ أن الفلاحَ الدنيوي الذي مفهومُه الازدهارُ الاجتماعي، والرَّخاءُ الجماعي، بتدفُّقِ النعمِ المُتوافِرة، والبرَكَات المُتتابِعة، لا يكون بعملٍ جادٍّ بالأسبابِ الحِسِّيَّة فحسب؛ بل المُقوِّمات الحقيقية لذلك: استقامةٌ على طريقِ السُّنة، ودوامٌ على الالتِزام بالمناهِجِ الشرعيةِ في جميعِ الأمورِ.
وقال وفقه الله: لقد جرَّبَ كثيرٌ من المسلمين بعد زوالِ عصرِ ما يُسمَّى بالاستِعمار - وهو الاستِخراب - جرَّبُوا في حياتهم نماذِجَ من الأفكار المُستورَدة، والتوجُّهاتِ الوارِدة أكثرَ من قرنَين، فما وجَدَت منها مُجتمعاتُ الإسلام إلا وبالا فكريًّا، وضَعفًا عسكريًّا، وكسادًا اقتِصاديًّا، وفسادًا أخلاقيًّا، وتفكُّكًا اجتماعيًّا، لم تصلُح بها دُنياهم،؛بل أفسَدَت كثيرًا من ثوابِتِ دينِهم. لقد آنَ بعد الشواهدِ التطبيقيَّة المُحزِنة في أرضِ الواقع، منذ ذلك الزمن، آنَ لها أن تعُودَ لنورِ الوحيَين، وضياءِ الهديَين، آنَ لمن خُدِّر بحُقن الانبِهارِ الفاضِحِ بحضاراتٍ تُبرِزُ مبادِئَ وقيَمًا، أثبَتَ الواقِعُ الحِسِّيُّ أنها زُورٌ وباطِلٌ وتزيِيفٌ ظاهريٌّ، يلُوحُ عند ظُهورِ المصالِحِ الشخصيَّة، والمنافعِ الذاتيَّة لأعداء الإسلام.
وأكد الشيخ في ختام خطبته على ضرورة المحافظة على أمن الأمة ومقوماتها فقال: إنَّ أمةَ الإسلام تملِكُ من أسبابِ العزِّ والنصرِ ما لا يملِكُه غيرُها، وتختصُّ بمُقوِّمات الصلاحِ والسعادةِ ما لا يُوجد عند سِواها، وتأريخُ الأمة في قُرونٍ مضَت أعظمُ شاهِدٍ وأكبرُ بُرهان، لكن ذلك مشرُوطٌ بشرطِه، ومُرتهنٌ بمُقوِّماتِه، وحِفظُ اللهِ لهذه الأمة النبوية مشرُوطٌ بالتِزامها بشريعةِ الله، وطاعتِها لأمرِ الله - جلَّ وعلا -، وانزِجارِها عن محارِمِه.
وأمْنُ هذه الأمةِ ومُجتمعاتها واستِقرارُ ذلك، وأمانُها ورخاؤُها، مربُوطٌ بقيامِها بالإيمان ولوازِمِه، والإسلامِ وحقوقِه، ليس قولاً، وإنما اعتِقادًا وقولاً وفعلاً، (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) [الأنعام: 82].
"وللأمة المُحمدية من العلُوِّ على عدوِّها والغلَبَة عليه، بحَسب ما معَها من الإيمانِ وحقيقَتِه وواجِباتِه"، كما قالَه ابنُ القيِّم.
التعليقات