اقتباس
إن من أهم وسائل الشريعة في حفظِ الأمن الاجتماعيِّ وبنائِه: نظامَ العُقوبات وإقامةَ الحُدود والتعزيرات، وتمكين القضاء العادِل، وتقوِية الحرَس والجيُوش والشُّرَط، والعنايةَ بذلك، والعملَ بالإجراءات التي تردَعُ الظالِمَ والمُعتدِي، وتأخُذ الحقَّ للمظلُوم والضَّعيف، فيعيشُ المُجتمع آمنًا مُستقرًّا، مكفُولةً حقوقُه، مُحاطًا بسِياجِ العدلِ والرحمةِ والإحسانِ. هذا وإن من أفخَم أُسس بناءِ مُجتمعٍ آمِن: أن يتعاوَنَ الجميعُ على بناءِ اقتصادٍ قويٍّ مُتنوِّعٍ مُزدهِر، يُشارِكُ في بنائِه كلُّ من له قُدرةٌ وطاقةٌ ومعرفةٌ لتحقيقِ القوَّة الاقتصاديَّة والرُّقيِّ الحضاريِّ، لتكون الأمةُ آمنةً مُطمئنَّةً يأتيها رِزقُها رغدًا من كل مكانٍ، ولتكون مُهابةً مرهوبةَ الجنابِ بين الأُمم.
مكة المكرمة:
ألقى فضيلة الشيخ خالد الغامدي - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "الأمن الاجتماعي وكيفية تحقيقه"، والتي تحدَّث فيها عن الأمن الاجتماعيِّ الذي تسعَى لتحقيقِه كلُّ الأمم والدول؛ لما يشهَدُه العالم من موجاتٍ ثوريَّة واضطراباتٍ عنيفةٍ في الفكر والسياسة، والحروب والفتن، كما بيَّن أن الإسلام وضعَ أُسس هذا الأمن واعتنَى بتحقيقه، وكيف طبَّق ذلك النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه - رضي الله عنهم - ومن بعدَهم، ثم وجَّه النصائِح بوجوب تحمُّل جميع شرائِح المُجتمع مسؤوليَّة الأمن الاجتماعي وتحقيقه.
واستهل الشيخ بالوصية بتقوى الله -تعالى- فقال: فاتقوا الله - عباد الله -، واعلَموا أن التقوَى أساسُ كلِّ خيرٍ ومنبَعُ كل فضيلةٍ، والله تعالى لا ينظرُ إلى صورِكم ولا أموالِكم، ولكن ينظُر إلى قلوبِكم.
وأضاف الشيخ: تُعاني البشريَّةُ من موجاتٍ عنيفةٍ من الصِّراعات الفكريَّة والثقافيَّة، والثورات المحمُومة، والحروبِ النفسيَّة والعسكريَّة، التي نتَجَ عنها ألوانٌ من الخوفِ والجُوعِ وسَفكِ الدماءِ، ونقصٍ من الأموال والأنفُس والثمرات. وتُؤثِّرُ هذه الصِّراعات المُختلفة على كثيرٍ من الناسِ في عقائِدهم وتصوُّراتهم وأخلاقِهم، مما كان سببًا في اختلالاتٍ ظاهرةٍ في الأمن الاجتماعيِّ، الذي أصبحَ تحقيقُه في المُجتمع والحفاظُ عليه يُشكِّلُ الهاجِسَ الأكبرَ في حياةِ الأفرادِ والمُجتمعات اليوم، وتسعَى كلُّ الممالِكِ والأُمم إلى إرسائِه؛ ليعيشَ المُجتمعُ حياةَ الهُدوءِ والاستِقرار والعمل المُنتِج البنَّاء، وليأمَنَ الفردُ على نفسِه وأُسرتِه ومعيشتِه.
وقال حفظه الله: إن الأمنَ الاجتماعيَّ غايةٌ من أجلِّ الغاياتِ الشرعيَّة، ومقصَدٌ عظيمٌ من مقاصِد الدين، وهو فريضةٌ ربَّانيَّة، وضرورةٌ من ضرُورات العُمران البشريِّ والاستِخلافِ والنُّهوضِ الحضاريِّ، ولذلك قرَنَ الله بين نعمةِ العيشِ ونعمةِ الأمن، وامتنَّ بهما على عبادِه، وجعلَهما من أهمِّ أسبابِ التمكينِ من عبادةِ الله، (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) [قريش: 3، 4].
وقال وفقه الله: إن شُعور كل فردٍ في الأمة بالطُّمأنينة والسَّكينة في غُدوِّه ورَواحِه، وسفَره وإقامتِه، وتمكُّنه من عبادة ربِّه، وهناءَه بالاستِقرار النفسيِّ والأُسريِّ والمعيشيِّ، فلا خوفٌ ولا فزَع، ولا تفرُّقٌ ولا تناحُرٌ، من أعظمِ نعمِ الله وأجلِّ كرائِمِه، وقد جعلَ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الشُّعورَ بالأمن في المُجتمع أحد مُقوِّمات السعادة والقنَاعة؛ حيث قال - عليه الصلاة والسلام -: «من أصبحَ منكم آمنًا في سِربِه، مُعافًى في بدنِه، عنده قُوتُ يومِه، فكأنَّما حِيزَت له الدنيا بحذافيرها» (أخرجه الترمذي وابن ماجه).
وأكَّد الشيخ أن أمنَ المُجتمع ضرورةٌ حياتيَّةٌ للعيش الهنِيء الرَّغيد، والسعادة والسُّلوك الحسَن، والتقدُّم والرُّقيِّ، فلذلك توالَت النصوصُ من القرآن والسنَّة في التأكيدِ على الأمن الاجتماعيِّ والحرصِ عليه؛ لينعمَ المُجتمعُ بأسرِه بالهُدوءِ والاستِقرار، ويتمكَّنُ من إقامة شرعِ الله، وتسخيرِ الأرض وعُمرانها في تحقيقِ الخير والصلاحِ. ولن يحصُل لهم ذلك إلا بالتعاوُن على البرِّ والتقوى، والحذَر من التعاوُن على الإثمِ والعُدوان.
وبيَّن الشيخ أن من أجلِّ ما يُبنى عليه أمنُ المُجتمع: أن يقوم على قاعدةٍ راسِخةٍ ثابتةٍ من الأُخوَّة الإيمانيَّة، التي تُؤسِّسُ العلاقات بين أفراد المُجتمع تأسيسًا قويًّا ثابتًا. فتشيعُ بينهم أواصِرُ المحبَّة والإيثار والتناصُر والتعاوُن، وحبِّ الخير بعضِهم لبعضٍ، وتنتشِرُ بينهم صُورُ الإحسان والبرِّ للوالدَين والأرحام والجيرانِ، والتكافُل الاجتماعيِّ، ورعاية الأيتام والأرامل والمساكين، والسعي في تفريجِ كُربات وحوائِج الناسِ، وقضاءِ دُيونهم، وإنظارِ مُعسِرهم، والسَّتر على مُخطِئهم، وغير ذلك من صُور الإحسانِ والأُخوَّة الإيمانية، التي هي من أعظم مُقوِّمات المُجتمع الآمِن.
وأشار الشيخ إلى أن الأُخوَّة الإيمانيَّة الصادقة من أهم أُسس فشُوِّ الأمن الاجتماعيِّ، فيشعُرُ كلُّ مُسلمٍ أنه في مُجتمعٍ أفرادُه برَرةٌ رُحماء، مُتعاطِفون مُتحابُّون، هيِّنون ليِّنون، مُشفِقون مُتباذِلُون، يُكرِمون المُحسِن ويُعينُونَه، ويستُرون على المُخطِئ ويرحَمونَه، ولا يُقابِلونَه بالتشهير والتعنيفِ والإقصاء، ولا يُعينُون عليه الشيطان، فهو ما زال أخًا لهم. فينشأُ من ذلك كلِّه مُجتمعٌ آمنٌ، مُستقرٌّ مُتماسِكٌ قويٌّ.
وأضاف الشيخ: إن أمنَ المُجتمع لن يتحقَّق ويسُود بين جميعِ شرائِحِه إلا إذا كانت شريعةُ الله هي الحاكمةُ والمُهيمِنة، وكان لها من قُوَّة السُّلطان والدولة ما يجعلُ لها الثَّباتَ والشُّمولَ والهيبَة، فتطمئنُّ النفوسُ وتهدأُ الخواطِرُ، ويشعرُ كلُّ فردٍ أنه آمِنٌ على دينِه ونفسِه وأهلِه، فيعيشُ بحريَّةٍ وكرامةٍ وعزَّة. ولذلك جاءَت الشريعةُ بحفظِ مكانةِ وهيبةِ الحاكمِ والأميرِ المُسلمِ، وأمرَت بطاعتِه في المعرُوفِ وإجلالِه وإكرامِه، وحرَّمَت عِصيانَه والخروجَ عليه، وإظهارِ عيبِه والتشهير بأخطائِه تشغيبًا وتأليبًا عليه، ورغبةً في زعزعة أمن المُجتمع، وفشُوِّ الفوضَى والاضطِراب، وانفِراط قاعدةٍ من أهمِّ قواعد بناءِ الأمنِ الاجتماعيِّ.
وقال حفظه الله: أمرٌ آخرُ في غايةِ الأهمية، له أثرُه البالِغُ في أمنِ المُجتمع، وهو أن يعلَمَ الواحدُ منَّا أنه لا يعيشُ لوحدِه في المُجتمع، ولا يحيَا لذاتِه أو لتحقيقِ مصالِحه الشخصيَّة فقط؛ لأن المُسلمَ الواعِيَ الصادقَ يشعُرُ بصدقٍ أنه مسؤولٌ عن نفسِه وأهلِه ومُجتمعه وأمَّته ووطنه، مسؤولٌ عن الأمن والاستقرار، مسؤولٌ عن كل ما يحفظُ للأمة عقيدتَها وعزَّها ومكانتَها، خاصَّةً في ظلِّ الهجَمات المُتوالِية، والحمَلات الإعلاميَّة المحمُومة من أعداء الأمة، التي تُهاجِمُ عقيدةَ الأمة وثوابتَها، وتُشوِّهُ صورةَ القائِمين عليها في بلادِ الحرمَين وغيرِها من بلادِ المُسلمين.
وقال وفقه الله: إن من كمال الشريعة: أنها تتشوَّفُ دائمًا إلى تحقيقِ الأمن واستِقرار المُجتمع؛ لما في ذلك من المصالِح الكُبرى والمنافِع العُظمى في الدين والدنيا، ولذلك حرَّمَت الشريعةُ جُملةً من الأعمال المنافية لهذه المصالِح والمُناقِضة لأمن المُجتمع واستِقراره؛ كالظُّلم والبغيِ والخيانة، وعقوق الوالدَين وقطيعة الأرحام، وأكلِ أموالِ الناسِ بالباطلِ بالرِّبا والرِّشوَة، والسرقة والاحتِيال. كما حرَّمَت الشريعةُ قتلَ النفس بغير حقٍّ، وشُربَ الخمر، والزِّنا، والتبرُّج والسُّفور، والاعتِداء على الناس باللسان والقول من الغِيبة والنَّميمة والسُّخرية والاستِهزاء، والتنابُز بالألقاب، وشهادة الزُّور، والتجسُّس، وتتبُّع العورات، والظُّنون الكاذِبة، وغير ذلك مما يُشيعُ الفاحشةَ في المُجتمع، ويُسبِّبُ شرخًا مُهلِكًا في بناءِ المُجتمع الآمِن ووحدتِه وتماسُكِه.
وبيَّن الشيخ أن من أعظمِ ما حرصَت عليه الشريعةُ لبناءِ المُجتمع الآمِن: الحَصانةُ والصيانةُ الفكريَّة للأمة من فتنة الشُّبهات والأفكار الضالَّة، وأفكار التطرُّف والغلُوِّ التي تُسبِّبُ العنفَ والقسوةَ والجُنوحَ في التعامُل مع المُجتمع. وهذا من أخطَر ما تُواجِهُه المُجتمعات الآمِنة، فتُحيلُها إلى مُجتمعاتٍ ثوريَّة فوضويَّة مُتمزِّقة مُتناحِرة مُتقاتِلة، مما يُشكِّلُ أعظمَ مُناقضَةٍ لمقصد الشريعة العظيم: أن تكون الأمةُ جسدًا واحدًا قويًّا مُتماسِكًا.
وأكد الشيخ أن من أهم وسائل الشريعة في حفظِ الأمن الاجتماعيِّ وبنائِه: نظامَ العُقوبات وإقامةَ الحُدود والتعزيرات، وتمكين القضاء العادِل، وتقوِية الحرَس والجيُوش والشُّرَط، والعنايةَ بذلك، والعملَ بالإجراءات التي تردَعُ الظالِمَ والمُعتدِي، وتأخُذ الحقَّ للمظلُوم والضَّعيف، فيعيشُ المُجتمع آمنًا مُستقرًّا، مكفُولةً حقوقُه، مُحاطًا بسِياجِ العدلِ والرحمةِ والإحسانِ. هذا وإن من أفخَم أُسس بناءِ مُجتمعٍ آمِن: أن يتعاوَنَ الجميعُ على بناءِ اقتصادٍ قويٍّ مُتنوِّعٍ مُزدهِر، يُشارِكُ في بنائِه كلُّ من له قُدرةٌ وطاقةٌ ومعرفةٌ لتحقيقِ القوَّة الاقتصاديَّة والرُّقيِّ الحضاريِّ، لتكون الأمةُ آمنةً مُطمئنَّةً يأتيها رِزقُها رغدًا من كل مكانٍ، ولتكون مُهابةً مرهوبةَ الجنابِ بين الأُمم.
وبيَّن الشيخ أن صناعةَ الأمن الاجتماعيِّ من الضَّرورات التي لا تقبلُ المُساومَة والمُراجعَة، وهي ليست مسؤوليَّةَ جهةٍ دون جهةٍ، ولا فردٍ دون فردٍ؛ بل هي مسؤوليَّةُ الجميع؛ لتتضافَرَ جهودُ الأفراد والمُؤسَّسات، والعلماء والمُصلِحين، وذوِي الرأي والمكانة، والمُثقَّفين والإعلاميِّين، وأصحابِ الأقلام في الصحافة وشبكَات التواصُل الاجتماعيِّ، خاصَّةً في ظلِّ التحديَّات الداخلية والخارجية التي تمرُّ بها الأمة. لا بُدَّ أن يعرِفَ المُسلِمون صديقَهم من عدوِّهم، وتتكاتَفَ جهودُهم للحفاظِ على أمن المُجتمع في جميع بلادِ المُسلمين، وبالأخصِّ هنا في بلاد الحرمين، أرض النبُوَّة والوحيِ، والأمن والأمان.
وختم الشيخ خطبته بالتحذير من الإخلال بأمن بلاد الحرمين فقال: إن الحفاظَ على أمنِ بلاد الحرمَين فريضةٌ واجبةٌ على كل مُسلمٍ ومُسلمةٍ؛ فقد جعلَها الله قيامًا للناسِ، وأمنًا للعالمين، ومهوَى أفئِدة المُسلمين، والحفاظُ عليها وعلى أمنِها تحقيقٌ لدعوة إبراهيم الخليل - عليه وعلى نبيِّنا أفضلُ الصلاة والتسليم -؛ حيث قال: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا)، فلا يجوزُ بأي حالٍ من الأحوال - يا عباد الله - إثارةُ الفوضَى، والتفرُّق والخُصومات، أو الفتُّ في عضُدِ وُلاةِ الأمر القائِمين على أمنِها بكل ما يستطيعُون، ولا يجوزُ الطَّعنُ في عقيدتِها ومناهجِها التي مصدرُها الكتاب والسنَّة، أو تشويه صُورتها بالأكاذِيب والتُّهم الباطلة والدعاوَى المُضلَّة.
المدينة المنورة:
ألقى فضيلة الشيخ حسين بن عبد العزيز آل الشيخ - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على التوحيد"، والتي تحدَّث فيها عن وصيَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمَّته، المُتمثِّلة في توجيهاتِه لعبد الله بن عباسٍ - رضي الله عنهما - في الحديث المشهُور، وبيَّن أن من أهم ما يُؤخَذ من هذه الوصايا المُبارَكة: هو حِرصُ النبي - صلى الله عليه وسلم - على جنابِ التوحيد، وخوفِه من انحرافِ أمَّته في مهاوِي الشركِ، وقد ذكرَ بعضَ الأدلةِ من كتاب الله وسُنَّة رسولِه - صلى الله عليه وسلم - على ذلك.
واستهل الشيخ بالوصية بتقوى الله -تعالى- فقال: أُوصِيكم ونفسي بتقوى الله - جل وعلا -، وطاعته في السرِّ والنجوى؛ فبذلك يحصُلُ الخيرُ والفلاحُ والسعادةُ في الآخرة والأولى.
وأضاف الشيخ: الأساسُ الذي يسعَدُ به المُسلم، وبه يُفلِح: هو تحقيقُ العبودية الكاملة لله الواحد الأحد. العبودية التي لأجلِها خُلِقَ الإنسان، ومن أجلِها أُوجِد، (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56]، أي: يُفرِدوني بالعبادة، بأن يكون العبدُ مُخلِصًا لله - جل وعلا -. مُخلِصًا لله في قصده، صادقًا له في محبَّته وتعظيمه - عزَّ شأنُه -. مُخلِصًا لخالقه في خوفِه وخشيتِه، ورجائِه ودُعائِه. مُخلِصًا لله في ظاهرِه وباطنِه، في توجُّهاته وتحرُّكاته وإراداته. ويقول - سبحانه - لنبيِّه محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام: 162، 163].
وقال حفظه الله: لقد حرِصَ القرآنُ والسنةُ على تأصيلِ هذا الأصل العظيم، وفي توجيهات النبي الكريم تلخيصًا لما في القرآن. عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - قال: كنتُ خلفَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «يا غُلام! إني أُعلِّمُك كلماتٍ: احفَظ الله يحفَظك، احفَظ الله تجِده تُجاهَك، إذا سألتَ فاسأَل الله، وإذا استعنتَ فاستعِن بالله، واعلَم أن الأمةَ لو اجتمعَت على أن ينفَعوك بشيءٍ لم ينفَعوك إلا بشيءٍ قد كتبَه الله لك، ولو اجتمَعوا على أن يضُرُّوك بشيءٍ لم يضُرُّوك إلا بشيءٍ قد كتبَه الله عليك، رُفِعَت الأقلامُ، وجفَّت الصُّحُف» (أخرجه الترمذي، وقال: "حسنٌ صحيح". وهو مشهورٌ عند أهل العلم).
وأكَّد الشيخ أنها وصيَّةٌ تحمِلُ في مضامِينها غرسَ تعظيمِ الله -جل وعلا- في النفوس، وتبتغِي تحقيقَ عقيدةٍ عظيمةٍ، ألا وهي: أن الذي بيدِه مقالِيدُ الأمور وأزِمَّتُها، وعنده خزائنُ الكون ومفاتِحُ كل شيءٍ هو الله سبحانه، هو الذي يقضِي الحاجات، ويُجيبُ الدعوات، ويجلِبُ الرَّحمات. الخلقُ كلُّهم فقراءُ إليه، مُضطرُّون إلى فضلِه وكرمِه وعطائِه ورحمتِه، فلا قيامَ لهم طرفةَ عينٍ إلا به، (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)، العبادُ كلُّهم إليه في اضطِرار، وإلى رحمتِه في افتِقار، (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).
وبيَّن الشيخ أن المُسلمين اليوم وهم تُحيطُ بهم ما لا يُوصَف من الكُروب والخُطوب، في حاجةٍ إلى سماع هذه الوصيَّة سماعَ استِجابةٍ، سماعَ من يعلَم أنه مُلزَمٌ ألا يقصِدَ في قضاءِ الحوائِج وتفريجِ الهُموم وكشفِ الكُروبِ إلا لخالقِه - عز وجل -. إنهم يُردِّدون في صلاتِهم: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: 5]، فليكُن ذلك في قلوبِهم، وليتمثَّل في واقعِهم.
وقال وفقه الله: إن الذي يُوجِزُ توجيهاتِ القرآن وأهدافَه ومقاصِدَه وغاياتِه في أوامره ونواهِيه، وأخبارِه وقصَصِه، بأن من تعلَّقَ بالله وأنزلَ به حوائِجَه، وفوَّضَ أمرَه إليه، كفَاه كلَّ ما أهمَّه من أمور الدنيا والآخرة. وأما من تعلَّق بغير الله - جل وعلا -، وسكَنَ إليه؛ وُكِلَ إليه وأصبحَ حينئذٍ في ذلٍّ وضعفٍ وهوانٍ، ووقعَ في الشُّرور والنَّكبَات. فالجَأ –أيها المسلم- إلى الله وحدَه عند الشدائِد والكروبِ، وتعلَّق به دون من سِواه عند المُلِمَّات والخُطوب. ومن القواعد المُقرَّرة: أن من استعانَ أو استعاذَ أو استغاثَ بمخلوقٍ ميتٍ أو غائبٍ أو حاضرٍ فيما لا يقدِرُ عليه إلا الله، فذلك شركٌ مُحبِطٌ للعمل.
وأكد الشيخ أن من مظاهر حِرصِ المُصطفى على التوحيد، وعنايتِه البالِغة بتحقيقِه: أن سَدَّ كلَّ ذريعةٍ يتسلَّطُ بها الشيطانُ لإيقاعِ العباد في أوحالِ الشِّرك وخُرافات الجاهليَّة. لذا حرِصَ - عليه الصلاة والسلام - بتوجيهاته الغرَّاء الزاجِرة عن التوجُّه إلى أهلِ القُبُور، والالتِجاءِ إليهم، والتضرُّع أمامَ أعتابِهم، والاستغاثةِ بأهلِها في الشدائِد والكُروبِ، مما لا يصلُحُ أبدًا إلا لفاطرِ الأرضِ والسماوات. واعتنَى -عليه الصلاة والسلام- بتعظيم الخالِقِ وتوحيدِه عنايةً كبيرةً؛ لأن هذا هو أصلُ دعوتِه، فحذَّر من وسائل الشيطان وإغوائِه بالافتِتان بالتمائِم والحُروز وتعليقِها على النفوس والأموال، بدعوَى أنها تدفعُ الشُّرور والآفات، كما حصلَ من بعضِ الناسِ حينما قلَّ العلمُ وكثُر الجهلُ.
وبيَّن الشيخ أن من جوانِبِ حرصِه - عليه الصلاة والسلام - على أمَّته، وإرشادِهم إلى الحذَر من كل ما يُخالِفُ حقائِقَ التوحيد ويُناقِضُ أصولَه أو وجوبَه، فيُوجِّهُ إلى الأمة خطابَه العظيم، فيما رواه عُمرُ - رضي الله عنه -، أنه قال: «إن الله ينهاكُم أن تحلِفُوا بآبائِكم، من كان حالِفًا فليحلِف بالله أو ليصمُت». قال عُمر: فواللهِ ما حلفتُ منذُ سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ذاكرًا ولا آثِرًا. وفي حديث سنَدُه حسنٌ عند أهل العلم: «من حلفَ بغير الله فقد كفرَ أو أشركَ».
وختم الشيخ خطبته بالوصية بتحقيق التوحيد فقال: إن أردتُّم السعادةَ والفوزَ في الدار الآخرة، وأردتُّم العزَّة والفلاحَ والنجاةَ والسعادةَ في الدنيا، فعليكُم بتحقيقِ التوحيد، اجعَلوا تحقيقَ توحيد الله - جل وعلا - نصبَ أعيُنكم، عيشُوا لعبادةِ الله - جل وعلا -.
وعبادةُ الرحمنِ غايةُ حُبِّه *** مع ذُلِّ عابدِه هما قُطبَانِ
عيشُوا لعبادة الله - جل وعلا - وتعظيمِه، والتعلُّق به في كل شأنٍ، وألزِموا النفوسَ والقلوبَ بتعظيمِ خالقِها. الصلاة، الزكاة، الحجُّ، جميعُ شعائر الإسلام خادمةٌ لهذا الأصلِ العظيم؛ فليس من سبيلِ المُصلِّين أن يُصلُّوا ثم يلتفِتوا إلى غير الله - جل وعلا -.
التعليقات