اقتباس
ما منَّا من أحدٍ إلا تعتَرِيه هُمومٌ وغُمومٌ ومضايِق، تتقاذَفُه نوائِبُ الحياة وصُروفُها يمنةً ويسرةً، إبَّانَ مُعافَسَته أهلَه وولدَه وأقرانَه، تعتَرِيه تلكُم النوائِب.. ثم يلهَثُ جاهِدًا للنجاة مما اعتراه، حتى يجِد ملجأً أو مغاراتٍ أو مُدَّخلاً فرارًا مما يُلِمُّ به. يطرُقُ أبوابَ الناسِ المُغلَقة ولا يطرُقُ بابَ الله المفتُوح، يُقطِّعُ الأوقات في بثِّ همِّه وغمِّه إلى الناس مع ضعفِهم وقلَّة حيلتِهم، ولا يُقطِّعُ وقتَه في بثِّ همِّه وغمِّه إلى من لا تخفَى عليه خافِية، من لا يُعجِزُه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، من يُجيبُ المُضطرَّ إذا دعاه، ويكشِفُ السوءَ، من بيدِه ملكُوتُ كل شيءٍ وهو يُجيرُ ولا يُجارُ عليه.
مكة المكرمة:
ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "فضل: لا حول ولا قوة إلا بالله"، والتي تحدَّث فيها عن كنزٍ من كنوز الجنة، وهو قولُ: لا حول ولا قوة إلا بالله، مُبيِّنًا معناها وفضائلَها، وذكرَ أخطاءَ الناسَ مع هذه الكلمة المُبارَكة.
واستهل الشيخ بالوصية بتقوى الله -تعالى- فقال: وأُوصِيكُم ونفسي بعد تقوَى الله - جل وعلا - بالجماعة؛ فإن يدَ الله على الجماعة، ومن شذَّ عنهم شذَّ في النار.
وأضاف الشيخ: إن الله خلقَ الإنسانَ وصوَّرَه فأحسنَ صورتَه، وجعلَه في أحسن تقويم، يغدُو ويرُوح في مهامِهِ الحياة ودُروبِها، فبائِعٌ نفسَه فمُعتِقُها أو مُوبِقُها، ينصَبُ لأجلِ أن يأكُل، ويلهَث من أجل أن يرتاح، ومع هذا كلِّه، فإن الإنسانَ بغير إيمانٍ مخلوقٌ ضعيفٌ، إن أصابَه شرٌّ جذِع، وإن أصابَه خيرٌ منَع، وهو في كِلتا الحالَين قلِقٌ هلِع، مجهُود البدَن، كسيرُ النفس، خائِبُ الرجاء إلا من رحِمَ ربِّي.
وقال حفظه الله: ما منَّا من أحدٍ إلا تعتَرِيه هُمومٌ وغُمومٌ ومضايِق، تتقاذَفُه نوائِبُ الحياة وصُروفُها يمنةً ويسرةً، إبَّانَ مُعافَسَته أهلَه وولدَه وأقرانَه، تعتَرِيه تلكُم النوائِب وتعترِضُه .. ثم يلهَثُ جاهِدًا للنجاة مما اعتراه، حتى يجِد ملجأً أو مغاراتٍ أو مُدَّخلاً فرارًا مما يُلِمُّ به. يطرُقُ أبوابَ الناسِ المُغلَقة ولا يطرُقُ بابَ الله المفتُوح، يُقطِّعُ الأوقات في بثِّ همِّه وغمِّه إلى الناس مع ضعفِهم وقلَّة حيلتِهم، ولا يُقطِّعُ وقتَه في بثِّ همِّه وغمِّه إلى من لا تخفَى عليه خافِية، من لا يُعجِزُه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، من يُجيبُ المُضطرَّ إذا دعاه، ويكشِفُ السوءَ، من بيدِه ملكُوتُ كل شيءٍ وهو يُجيرُ ولا يُجارُ عليه.
وأكد الشيخ أنه لو فرَّ مثلُ هذا إلى ربِّه لأحيى ضميرَه، وزكَّى نفسَه، وطهَّر قلبَه، وأمدَّه بالعَون والتوفيقِ، وفتحَ عليه من المعرفةِ به ومعرفةِ وسائل الوُصولِ إليه الشيءَ الكثير، ومن ذلكم: أن يهدِيَه إلى كنزٍ من كُنوز الجنة، وبابٍ من أبوابِها التي قد غفلَ عنها بعد أن ألهَته الدنيا والوحشةُ بينه وبين ربِّه عن إدراكِها وإدراكِ أثرِها.
واستشهد الشيخ بما في "الصحيحين": أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي موسى الأشعريِّ: «يا عبدَ الله بن قيس! قُل: لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله؛ فإنها كنزٌ من كنوز الجنة». وفي روايةٍ عند الإمام أحمد والحاكم: «أنها بابٌ من أبوابِ الجنة».
وأكد فضيلته أنها الكنزُ الذي يفتقِرُ إليه كلُّ واحدٍ منَّا، إنه الكنزُ الغائِبُ عن أوساطِنا، إنه الكنزُ العظيم ذو الثمن الضَّئيل، إنها كلمةٌ عظيمةٌ مليئةٌ بكل معاني التوحيد واللُّجوء إلى الله، والبراءة من حَول العبد الضعيف وقوَّته إلى حَول العظيم الجبَّار وقوَّته.
وبيَّن الشيخ أنها الزادُ لمن أرادَ السداد، إنها أُنسُ المهمُوم وجلاء المغمُوم، من التزمَها سعِد وربِح، ومن زهِد فيها شقِيَ وخسِر؛ كيف لا وهي من الباقِيات الصالِحات التي قال عنها النبي - صلى الله عليه وسلم -: «استكثِروا من الباقِيات الصالِحات». قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: «التكبير، والتهليل، والتسبيح، والحمدُ لله، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله» (رواه أحمد وابن حبان). عجبًا للعبد يشغَلُه حولُ البشر وقوَّتهم عن حَول الله وقوَّته! عجبًا له كيف يزهَدُ في هذا البابِ المُوصِلِ إلى الكنز؟!
وأكد الشيخ أنه لو ردَّدا المظلُوم وذو المضايِق، وأكثرَ من قولِها مُوقِنًا بها، لفتحَ الله بها من أبواب الرِّضا ما يطيشُ أمامَها كلُّ همٍّ وغمٍّ وحُزنٍ وكآبة؛ فهي مِفتاحُ الإيمان، ومِفتاحُ الإعانة، كما قال شيخُ الإسلام وغيرُه؛ لأنه بذكرِ الحوقلَة يُفوِّضُ أمرَه إلى القاهرِ فوقَ عبادِه وهو الحكيمُ الخبير. فكأنَّ المُحوقِل يقول: لا حركةَ لي ولا استطاعةَ ولا تحوُّل من حالٍ إلى حالٍ إلا بحَول الله وقوَّته. لذلكم جاء في فضائلِها أحاديثُ كثيرة بذكرِها مُفردة وذكرِها مقرونةً بغيرها؛ لأنها تُوجِبُ الإعانةَ من الله لقائلِها.
وأضاف الشيخ: ألا أيها المهمُوم! قِف قليلاً ثم تأمَّل ما تحمِلُه هذه الكلمة من المعاني العظيمة، والاعتِصام الجليل بمن يمينُه ملأى لا يغيضُها شيء، سحَّاءَ الليل والنهار، أرأيتُم ما أنفقَ منذ خلقَ السماءَ والأرضَ، فإنه لم يغِض ما في يمينِه. وإن تعجَبُوا فعجَبٌ كيف يحرِصُ الواحدُ منَّا في دُنياه على إحسانِ غِراسِ بيتِه وتجميلِه بأطايِبِ الغِراسِ المُثمِر والغِراسِ الزاكِي، مهما كلَّفَه ذلك من الجُهد والمال والفِكر.
وقال وفقه الله: فيا ليتَ شِعري! هل نستحضِر أمام ذلكُم غِراسًا عظيمًا في دارٍ فيها ما لا عينٌ رأَت، ولا أُذُنٌ سمِعَت، ولا خطرَ على قلبِ بشر؟! إنه غِراسٌ لا يُمكن أن يتصوَّرَه أحدٌ مهما أُوتِيَ من قوَّة الخيالِ والتخيُّل، ولا يُمكنُ أن يُحيطَ بكُنهِه لا في يقظَةٍ ولا في منام. إنها غِراسُ الجنَّة: لا حول ولا قوة إلا بالله. فإن نبيَّنا - صلى الله عليه وسلم - ليلةَ أُسريَ به مرَّ على أبينَا إبراهيم - عليه السلام -، فقال: «يا محمد! مُر أمَّتكَ أن يُكثِروا من غِراسِ الجنة»، قال: «وما غِراسُ الجنة؟»، قال: «لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله» (رواه أحمد وابن حبَّان).
وقال حفظه الله: فعجبًا لمن يقنَط وعنده لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله! وعجبًا لمن يقلَق وعنده لا حولاَ ولا قوةَ إلا بالله! وعجبًا لمن استثقَلَ شيئًا أو استبطأَه وعنده لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله! ألا والله وبالله وتالله إن ذلكم هو التفريطُ بقضِّه وقضيضِه.
وختم الشيخ خطبته ببيان ما يقع فيه بعض المسلمين تجاه هذه الكلمة العظيمة، فقال: اعلموا أن ثمَّةَ أقوامًا يُخطِئون مع هذه الكلمة العظيمة خطأين بيِّنَين: أولُهما: أنهم يجعلُون هذه الكلمة تُقالُ في المصائِبِ والمِحَن التي ينبغي أن يُقال فيها: "إنا لله وإنا إليه راجِعون"، وهذا خلافُ ما دلّت عليه النصوصُ من موضعِ إيرادِها. فقد قال شيخُ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وذلك أن هذه الكلمة - أي: لا حول ولا قوة إلا بالله - هي كلمةُ استِعانة لا كلمةَ استِرجاع، وكثيرٌ من الناس يقولُها عند المصائِب بمنزلةِ الاستِرجاع، ويقولُها جذَعًا لا صبرًا". وأما الخطأُ الآخر - عباد الله -: فهو إهمالُ بعضهم وتساهُلُهم في نُطقِها، إما جهلاً أو كسلاً، فيقولُون: لا حولِ الله! وفي هذا إخلالٌ - كما لا يخفَى -؛ حيث لا تحمِلُ إلا معنى النفيِ وحسب. وهذا خطأٌ ظاهرٌ؛ فالكلمةُ نفيٌ وإثباتٌ، ثبَّتَنا الله وإياكُم على طاعتِه، وأعانَنا على ذكرِه وشُكرِه وحُسن عبادتِه، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، عليه توكَّلنا وإليه المصير.
المدينة المنورة:
ألقى فضيلة الشيخ عبدالباري بن عواض الثبيتي- حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "محبة الله والأسباب الجالبة لها"، والتي تحدَّث فيها محبَّة الله وأنها من لوازِم الإيمان، منوهًا لارتباط لذة الإيمان وحلاوته بالمحبة، مشيرًا إلى حقيقة محبة الله وآثارها، وذكر بعض علامات محبَّة الله، وأنواعها، والأسباب الجالِبَة لمحبَّةِ الله تعالى.
واستهل الشيخ بالوصية بتقوى الله -تعالى- فقال: فأُوصِيكم ونفسي بتقوى الله؛ فهي سبيلُ النجاة والفلاح.
وأضاف الشيخ: محبَّةُ الله من لوازِم الإيمان، ولا يتمُّ التوحيدُ حتى تكتملَ محبَّةُ العبد لربِّه، والمحبَّةُ لا تُحدُّ بحدٍّ أوضحَ منها، ولا تُوصَفُ بوصفٍ أظهرَ منها، وليس هناك شيءٌ يُحبُّ لذاتِه من كل وجهٍ إلا اللهُ -سبحانه- الذي لا تصلحُ الألوهيةُ والعبوديَّةُ والذلُّ والخُضوعُ والمحبَّةُ التامَّةُ إلا له -سبحانه-.
وقال حفظه الله: محبَّةُ الربِّ -سبحانه- شأنُها غيرُ الشأن؛ فإنه لا شيءَ أحبُّ إلى القلوبِ من خالقِها وفاطِرها، فهو إلهُها ومعبُودُها ووليُّها ومولاها وربُّها ومُدبِّرُها ورازِقُها ومُميتُها ومُحيِيها؛ فمحبَّتُه نعيمُ النفوس، وحياةُ الأرواح، وسُرورُ النفس، وقُوتُ القلوب، ونورُ العقول، وقُرَّةُ العيون، وعمارةُ الباطن.
وبيَّن الشيخ أنه ليس عند القلوب السليمة والأرواح الطيبة والعقول الزاكِية أجملُ ولا ألذُّ ولا أطيَبُ ولا أسرُّ ولا أنعمُ من محبَّة الله والأنسِ به، والشوق إلى لقائِه. قال يحيى بن مُعاذ: "عفوُه يستغرِقُ الذنوبَ؛ فكيف رِضوانُه؟! ورِضوانُه يستغرِقُ الآمال؛ فكيف حُبُّه؟! وحبُّه يُدهِشُ العقول؛ فكيف ودُّه؟! وودُّه يُنسِي ما دُونَه؛ فكيف لُطفُه؟!".
وأشار الشيخ إلى أنه بمِقدار ما يستكثِرُ المرءُ من حبِّ الله بمِقدار ما يشعُر بلذَّة الإيمان وحلاوتِه، ومن غمرَ قلبَه بمحبَّة الله أغناه ذلك عن محبَّة غيره وخشيتِه والتوكُّل عليه؛ فلا يُغنِي القلب ولا يسُدُّ خلَّتَه، ولا يُشبِعُ جوعتَه إلا محبَّتُه -سبحانه-.
وقال وفقه الله: ولو حصلَ له كلُّ ما يلتذُّ به لم يأنَس ولم يطمئِنّ إلا بمحبَّة الله -عز وجل-، وإذا فقدَها القلبُ كان ألمُه أعظمَ من ألَم العين إذا فقدَت نورَها، والأُذن إذا فقدَت سمعَها، والأنف إذا فقدَ شمَّه، واللسان إذا فقدَ نُطقَه؛ بل فسادُ القلب إذا خلا من محبَّة فاطِره وبارِئِه وإلهِه الحق أعظمُ من فساد البدَن إذا فقدَ الروح.
وبيَّن الشيخ أن حقيقة المحبَّة: أن تهبَ كلَّك لمن أحبَبتَه حتى لا يبقَى لك منه شيءٌ، وتسبِقَ محبَّةُ الله جميعَ المحابِّ وتغلِبَها، وتكون سائرُ محابِّ العبد تبَعًا لهذه المحبَّة التي بها سعادةُ العبد وفلاحُه. ويتفاوَتُ المُحِبُّون في قدر المحبَّة؛ لأن الله تعالى وصفَ المؤمنين بشدَّة الحُبِّ له، فقال: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) [البقرة: 165]. وفي قوله: (أَشَدُّ) دليلٌ على تفاوُتهم في المحبَّة؛ لأن المعنى: أشدُّ فأشدُّ.
وأكد فضيلته أن محبَّةَ الله: إيثارُه لمحبوباتِه على نفسِك وروحك ومالِك، ثم مُوافقتُك له سرًّا وجهرًا، ثم علمُك بتقصيرِك في حبِّه؛ أي: أن يكون كلُّك بالمحبوب مشغولاً، ونفسُك له مبذُولة، مع سفر القلب في طلب المحبوب، ولهَج اللسان بذِكره على الدوام، وقد قال نبيُّنا -صلى الله عليه وسلم-: "وأسألُك حبَّك، وحبَّ من يُحبُّك، وحبَّ عملٍ يُقرِّبُ إلى حُبِّك".
وأضاف الشيخ: المحبَّةُ إذا اشتدَّت وعظُمَت عند صاحبِها وارتقَت فإنها تُصبِحُ ولهًا، والوَلَهُ هو شدَّةُ المحبَّة، والتألُّه لله -تبارك وتعالى- هو شدَّةُ محبَّة الله، ومحبَّةُ ما جاء من عند الله -تبارك وتعالى-، وحاجتُهم إلى التألُّه أعظمُ من حاجتِهم إلى الغِذاء؛ فإن الغِذاءَ إذا فُقِد يفسُد الجسمُ، وبفقدِ التألُّه تفسُد النفسُ.
وأشار الشيخ إلى أن المؤمن إذا عرفَ ربَّه أحبَّه، وإذا أحبَّه أقبلَ إليه، وإذا وجدَ حلاوةَ الإقبال إليه لم ينظُر إلى الدنيا بعينِ الشهوة، ولم ينظُر إلى الآخرة بعين الفترة. وحبُّ الله يحمِلُ المرءَ على فعل الواجِبات وتركِ المُحرَّمات، ويحمِلُ العبدَ على فعل المُستحبَّات، وينهَاهُ عن المكرُوهات. وحبُّ الله يملاُ القلبَ بلذَّة الإيمان وحلاوتِه، "ذاقَ طعمَ الإيمان من رضِيَ بالله ربًّا، وبالسلام دينًا، وبمُحمَّدٍ رسولاً".
وقال وفقه الله: محبَّةُ الله تُخرِجُ من القلب محبَّةَ كلَّ ما يكرهُه الله، وتنبعِثُ الجوارِحُ بمحبَّة الله إلى الطاعات، وتغدُو النفسُ مُطمئنَّة، وفي الحديث القُدسي: "...فإذا أحبَبتُه كنتُ سمعَه الذي يسمعُ به، وبصرَه الذي يُبصِرُ به، ويدَه التي يبطِشُ بها، ورِجلَه التي يمشِي بها".
وأكَّد الشيخ أن المُحبَّ يجِدُ من لذَّة المحبَّة ما يُنسِيه المصائِب، ولا يجِد من مسِّها ما يجِدُ غيرُه. محبَّةُ الله من أقوَى الأسباب في الصبر عن مُخالَفتِه ومعاصِيه؛ فإن المحبَّ لمن يحبُّ مُطيعُ. وكلما قوِيَ سُلطانُ المحبَّة في القلب كان اقتِضاؤُه للطاعة وترك المُخالفة أقوى، وإنما تصدُرُ المعصيةُ والمُخالفةُ من ضعفِ المحبَّة وسُلطانها.
وبيَّن فضيلته أن المُحبَّ الصادقَ عليه رقيبٌ من محبوبِه يرعَى قلبَه وجوارِحَه، والمحبَّةُ المُجرَّدة لا تُوجِبُ هذا الأثرَ ما لم تقترِن بإجلال المحبوب وتعظيمِه، فإذا قارنَها الإجلالُ والتعظيمُ أوجبَت هذا الحياءَ والطاعةَ، وإلا فالمحبَّةُ الخاليةُ عنهما إنما تُوجِبُ نوعَ أُنسٍ وانبِساطٍ وتذكيرٍ واشتِياقٍ، ولهذا يتخلَّفُ أثرُها ومُوجَبُها، ويُفتِّشُ العبدُ قلبَه فيرَى نوعَ محبَّةٍ لله، ولكن لا تحمِلُه على ترك معاصِيه. وسببُ ذلك: تجرُّدُها عن الإجلالِ والتعظيمِ، فما عمرَ القلبَ شيءٌ كالمحبَّة المُقترِنة بإجلال الله وتعظيمه، وتلك من أفضل مواهِب الله للعبد -أو أفضلُها-، وذلك فضلُ الله يُؤتيه من يشاء.
وقرر الشيخ أنه إذا تجرَّدَت المحبَّةُ عن الخضوعِ والذلِّ أصبحَت المحبَّةُ دعوَى لا قيمة لها، وهذا حالُ من ادَّعَى محبَّةَ الله، ولكنه لم يأتمِر بأمر الله، ولم يخضَع لسُنَّة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، ولم يُحكِّمها في أقوالِه وأعمالِه وعباداته.
وأضاف الشيخ أن من علامة محبَّة الله: محبَّة أهل طاعته، ومُوالاةُ أوليائِه، ومُعاداة أهل معصيته، ومُجاهدةُ أدائِه، ونصرُ أنصارِه، وكلما قوِيَت محبَّةُ العبد لله في قلبِه قوِيَت هذه الأعمال.
وقال حفظه الله: وهنا يجدُرُ بنا أن نعرِفَ الأسبابَ الجالِبَةَ لمحبَّةِ الله، ومنها: معرفةُ نعم الله على عباده التي لا تُعدُّ ولا تُحصَى، ومن الأسباب: معرفةُ الله تعالى بأسمائِه وصفاتِه وأفعالِه؛ فمن عرفَ اللهَ أحبَّه، ومن أحبَّ اللهَ أطاعَه، ومن أطاعَ الله أكرمَه، ومن أكرمَه الله أسكنَه في جِوارِه، ومن أسكنَه الله في جِوارِه فطُوبَى له.
وأضاف الشيخ: ومن أعظم الأسباب: التفكُّرُ في ملكوت السماوات والأرض وما خلقَ الله من شيءٍ من الآيات الدالَّة على عظمته وقُدرته وجلالِه وكمالِه وكِبريائِه ورأفتِه ورحمتِه ولُطفِه، إلى غير ذلك من أسماء الله الحُسنى وصفاتِه، فكلما قوِيَت معرفةُ العبد بالله قوِيَت محبَّتُه له ومحبَّتُه لطاعته.
وبين الشيخ أن من الأسباب الجالِبة لمحبَّة الله -عز وجل-: مُعاملةُ الله بالصدقِ والإخلاص، ومُخالفةُ الهوى؛ فإن ذلك سببٌ لفضل الله على عبدِه وأن يمنحَه محبَّتَه. ومن أعظم ما تُستجلَبُ به المحبَّة: كثرةُ ذكرِ الله؛ فمن أحبَّ شيئًا أكثرَ من ذِكرِه، قال الله تعالى: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28].
وختم الشيخ خطبته ببيان أنواع المحبة وأقسامها، فقال: تنقسم المحبة إلى أربعة أنواعٍ مع التفريق بينها:
أحدها: محبَّةُ الله، ولا تكفِي وحدَها في النجاة من عذابِ الله والفوزِ بثوابِِه؛ فإن المُشرِكين وعُبَّاد الصليب واليهود وغيرهم يُحبُّون الله.
الثاني: محبَّةُ ما يُحبُّ الله، وهذه هي التي تُدخِلُ في الإسلام وتُخرِجُ من الكفر، وأحبُّ الناس إلى الله أقومُهم بهذه المحبَّة وأشدُّهم فيها.
ثالثًا: الحبُّ في الله ولله، وهي من لوازِم محبَّة ما يُحبُّ، ولا تستقيمُ محبَّةُ ما يُحبُّ إلا فيه ولَه.
الرابع: المحبَّةُ مع الله، وهي المحبَّةُ الشركيَّةُ، وكلُّ من أحبَّ شيئًا مع الله لا لله ولا من أجلِه ولا فيه فقد اتَّخَذَه ندًّا من دون الله، وهذه هي محبَّةُ المُشرِكين: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) [البقرة: 165].
التعليقات