مختصر خطبتي الحرمين 15 من ربيع الآخر 1438هـ

ملتقى الخطباء - الفريق الإعلامي

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات:

اقتباس

النفس من أعدَى الأعداء للإنسان، ولا يدخلُ الشيطانُ إلا من بابِها، والنفسُ بما تتَّصِفُ به من الجهلِ والظُّلمِ تُبعِدُ صاحبَها عن التصديقِ بوعدِ الله، وتُثبِّطُه عن الاستِقامة، وتنحرِفُ بالإنسان عن الاعتِدال. ولا تسلَمُ النفسُ من الجهل إلا بالعملِ النافعِ الذي جاءت به الشريعةُ، ولا تسلَمُ من الظُّلم إلا بالعمل الصالح، ولا بُدَّ للمُسلم أن يرغَبَ إلى الله دائِمًا ويدعُوه لصلاحِ نفسِه.

 

 

 

مكة المكرمة:

 

ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "تزكية النفوس وتهذيب السلوك"، والتي تحدَّث فيها عن ضرورة تزكية العبد نفسَه وتطهيرِها، وأنها ليست شِعارات عاطفيَّة، أو كمالات خُلُقيَّة، مُبيِّنًا وجوب تصدِّي المُسلمين عمومهم وخصوصهم للذَّود عن دينهم ضدَّ حملات التشويه المُتعمَّد لهويَّتهم ومبادِئهم وقِيَمهم.

 

واستهل الشيخ بالوصية بتقوى الله -تعالى- فقال: فإن تقوَى الله تعالى هي الوصيَّة، وهي الزادُ المُدَّخرُ لذَوِي النفوسِ الزكيَّة، من اتَّقَى الله فإن الله تعالى هو مولاه وهو كافِيه، ومن اتَّقَى الناسَ فلن يُغنُوا عنه من الله شيئًا.

 

وأضاف الشيخ: القِيَمُ مبادِئُ في الحياة، ومظاهرُ في السلُوك، وهي جُزءٌ من عقيدة أي مُجتمعٍ، والفضيلةُ والأخلاقُ والمبادئُ قِيَمٌ مُطلقةٌ في دينِنا الحَنيف، تستمِدُّ أصولَها من شريعَتنا الغرَّاء، فهي عقيدةٌ وعبادة، وتأصيلُها وصيانتُها واجبٌ شرعيٌّ على المُربِّين والمُصلِحين. وقد تكاثَرَت النصوصُ في جانبِ السلُوكِ والأخلاقِ والقِيَم عامَّة، وفي جانبِ الفضيلَة خاصَّة، وجعلَها الله من أسباب الفلاح، وجعلَ أهلَها ورثَةَ الفردوس الأعلى من الجنة.

 

وقال حفظه الله: والحديثُ عن تزكِيةِ النفوس، وتطهيرِ الطِّباع، وتنمِيَة دواعِي العفَّة والطهارة ليست شِعاراتٍ عاطفيَّة، أو كمالاتٍ خُلُقيَّة؛ بل هي أصلُ تماسُك المُجتمع وبُنيَة أساسٍ لبقائِه، ومقصدٌ عظيمٌ من مقاصِدِ الشرع الحَنيف؛ وأخلاقُ الإسلام ليست رأيًا بشريًّا ولا نظامًا وضعيًّا، ولكنها ربَّانيَّة المصدر، عباديَّة المقصِد، يُرادُ بها وجهُ الله ورِضوانُه، تملِكُ على المُسلم قلبَه فيدفعُه إليها إيمانُه، وهي ثابتةٌ كاملةٌ لا تتردَّدُ مع الأهواء.

 

وتابع فضيلته: ومن فضلِ الله تعالى على هذه الأمة المُحمدية أنها تمسَّكَت بدينِ ربِّها، والْتَزَمَت شِرعتَه مع تطاوُل القُرون وعوادِي الزمان، وتوارَثَت قِيَمه ومبادِئَه، وتربَّت عليه الأجيال، وتميَّزَت به أمةُ الإسلام. ومن سُنَّة الله في خلقِه أن يعترِيَهم الضعفُ والنقصُ ما بين فترةٍ وأُخرى، إلا أن تسارُعَ التغيُّر ومقدارَ التأثُّر في هذه الأزمان المُتأخِّرة لم يعُدْ خافِيًا على أدنَى مُتأمِّل.

 

وأكد الشيخ أن التغيُّر والتغيير سِمةٌ بشريَّةٌ ومظهرٌ من مظاهر الحياة، وهو مفهومٌ مُحايِدٌ لوصفِ حالة التبدُّل، فلا يُمدَحُ ولا يُذمُّ إلا بحسب موضوعِه وهدفِه؛ فتغييرُ الخطأ للصواب، والفساد إلى الصلاح، والشرِّ إلى الخير، والضعفِ إلى القوة، والفشل إلى النجاح كلُّ ذلك مطلوبٌ ومحمودٌ، لكن الفتنة والبلاء حين يُبدَّلُ الحقُّ بالباطلِ، والمعروفُ بالمُنكَر، والفضيلةُ إلى ضِدِّها.

 

وقد قصَّ الله تعالى في كتابِه حالَ أمةٍ قبلَنا؛ لتكون عِبرةً لنا، وبيَّن الله تعالى مراحِلَ هذا التبديل لنعمةِ الله، وأوضحَ مظاهرَه في أخلاق القوم ومسالِكِهم؛ ليجتنِبَ المُسلمون المزالِقَ التي هوَت بغيرهم؛ لأن الأُمم لا تُنكَبُ جُزافًا، ولكنها قوانينُ الله وسُننُه التي يخضَعُ لها الأولون والآخرُون.

 

وقال وفقه الله: وحياةُ المُؤمنين المُتمسِّكين بدينِهم المبنيَّةُ على العبوديَّة لله تعالى على الطُّهر والعفافِ والفضيلَة هي حياةٌ محفُوفةٌ بالمخاطِر، تعتَرِيها رياحُ التأثير من كل جانِبٍ، وتهُبُّ عليها عواصِفُ الفتن، وتزيدُ المخاطِرُ بانفِتاح الإعلام بكل قنواتِه المُتنوِّعة ووسائل التواصُل الاجتماعيِّ غير المُنضبِطة، وتسلُّط أهل الشرِّ والفساد.

 

وحذَّر فضيلته من المَيل العظيم الذي ذكرَه الله تعالى تُصوِّرُه موجةُ الفُجُور المُنظَّم المُسلَّط على الأمة عبر مُؤسَّسات وأحزاب، وظواهر اجتماعيَّة محمُومة تُمكِّنُ للفساد الأخلاقيِّ والدعايَة له بشتَّى الوسائِل؛ لتحقيقِ أهدافٍ تؤُولُ في النهايةِ إلى مُحاصَرَة التديُّن في حياةِ الناس؛ لعلمِهم أن الدعوةَ إلى الله لا تنتعِشُ في مُجتمعٍ مُستهترٍ بالقِيَم، غارِقٍ في الشهوات. فأيُّ أمةٍ تُفرَّغُ من عقائِدِها وأخلاقِها، فإن ديانتَها مُتلاشيَةٌ بالتَّبَع، ومُضمحِلَّةٌ بالتأكيد، ولا يبقَى بعد ذلك من الأمةِ إلا اسمٌ، ولا من وجودِها إلا رسمٌ.

 

وأشار الشيخ إلى أن إغراق المُجتمع في الفساد الخُلُقيِّ بشتَّى أنواعه هدف مقصُود لكل القُوَى المُعادِية للمدِّ الإسلاميِّ، وتحت مُسمَّياتٍ مُختلفة، ويصِفُون المُجتمعات المُسلمة بالتطرُّف والإرهاب، ويُرهِقُونَها بكل بلِيَّةٍ بزَعم مُحاربَة التطرُّف، ويضُخُّون التفسيقَ القسْريَّ باسمِ: التحديث، والانفِتاح، وغايتُه سَلخُ المُجتمع من هويَّته الإسلامية وتحوُّلُه لغيرها، وإفراغُ المُسلمين من عقيدةِ أسلافِهم. وهذا يستدعِي وقفةً مُخلِصةً من عامَّة المُسلمين وخاصَّتهم، للذَّود عن مُعتقداتهم وقِيَم الفاضِلة؛ فمُستقبلُنا رهنٌ بوفائِنا لدينِنا.

 

وأكد الشيح أنه في سنواتٍ قريبةٍ مضَت أكثَرَ الغيورُون من كُتَّاب المُسلمين الذين شهِدُوا تمكُّن الاستِعمار من ديارِهم وجلاءَه بعد ذلك، أكثَرُوا من شهاداتهم ومُشاهداتهم على حِرصِ المُستعمِرِ على هدم الأخلاق خُطوةً خُطوةً، حتى رأى الواحِدُ منهم تحوُّلاتٍ كاملةً خلال عِقدَين أو ثلاثةٍ من الزمان؛ ذلك أن خلخَلَةَ منظومة الأخلاق وبثَّ الشهوات هدم، والهدمُ سريعةٌ تداعِياتُه، ودانِيةٌ تبِعَاتُه. ثم إن الذين تساهَلُوا في عقائِدِهم وقِيَمهم، ورامُوا مُجاراةَ غيرهم لم يظفَرُوا بشيءٍ، فلا الأخلاقُ بقِيَت، ولا الحضارةُ بُنِيَت.

 

أشار الشيخ إلى أن بناءَ الشخصيَّة المُسلمة للمُجتمع، وتحصينَه ضدَّ مُحاولات الهَدم والتخريبِ تستدعِي ضرورةَ العمل الجادِّ في الدعوة إلى الله تعالى، والحثِّ على الأخلاق بتمثُّلها والدعوة إليها، والتذكير بالله واليوم الآخر، وبالحساب والعقاب، ورَبط الناس بالقُرآن وعِبَره وعِظاته، وحِكَمه وأحكامه. وإن نُصوصَ القرآن والسنَّة في مبدأ الفضيلَة تتضمَّنُ معنًى كليًّا قاطِعًا، وهو: أن مقصُودَ الله - جلَّ وعلا - هو التحفُّظُ والصيانةُ وسدُّ الذرائِع.

 

وأكد فضيلته: أن أي تغييرٍ ثقافيٍّ واجتماعيٍّ لا بُدَّ أن ينبُعَ من داخلِ المُجتمع المُسلم، وأن يلتزِمَ ثوابِتَ الدين وأُسس الهويَّة، وإن المُجتمعات أيًّا كانت تتقدَّمُ إذا امتلَكَت القُدرات اللازِمة لتأسيسِ الحضارة والمدنيَّة والعِمران البشريِّ، غيرَ أن المُجتمع المُسلمَ المُستنيرَ بنُور الله يظلُّ مُتَّسِقًا في تقدُّمه مع مُقتضَيَات الوحي الربَّانيِّ، بينما المُجتمعاتُ الكافِرة لا تُلقِي لأوامر الله بالاً، ولا ترفعُ بها رأسًا.

 

وهذا ما تتبايَنُ به المُجتمعاتُ في علاقاتها بأنفُسِها وبأفرادِها، فتعجزُ المُجتمعات الماديَّة عن إدراك الغايةِ المُثلَى لإعمار الأرض، وتُسفِرُ التحوُّلات الاجتماعيَّة إلى التفكُّك وانهِيار الأخلاق، وتبرُزُ مُشكِلاتٌ وأزماتٌ حادَّة ينهارُ معها بناءُ المُجتمع.

 

وأضاف الشيخ: إن تماسُكَ المُجتمع المُسلم مرهُونٌ - بإذن الله - بالمُبادَرَة بالإصلاح في نُور الوحي، والتمسُّك بهويَّته الإسلاميَّة في قِيَمه ومبادئِه. وإن مُدافعَة الشرِّ ضرورةٌ لا يُقصَدُ بها الانتِصارُ للرأي، لكنَّه - واللهِ - الخوفُ من استِكمال شرائِطِ العقوبات الإلهيَّة، ودفعًا لتفاقُم الفساد والخبَث.

 

وأضاف الشيخ: الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المُنكَر صَمَّامُ الأمان لهذه الأمة، ولا تزالُ الأمةُ بخيرٍ ما دامَت تُنكِرُ المُنكَر، فلا مناصَ من الاحتِساب لمُحاصَرَة هذا الطُّوفان الواسِع من التغييرات السلبِيَّة، ولتحقيقِ الواجبِ الكِفائيِّ الذي تندفعُ به العقوبةُ والمقتُ عن الأمة، وتنبيهُ الناس إلى ما يُحاكُ ضدَّهم، وبالكلمة الطيبة والحكمة والموعظة الحسنة. فإن معرفةَ الغايةِ من الخلق، والهدفِ من هذه الحياة هي أهم قضيَّةٍ تشغَلُ بالَ الإنسان، وهي محلُّ تأمُّلاته وفِكره.

 

وختم الشيخ خطبته بالتأكيد على أعظم القضايا وُضوحًا في القرآن الكريم، وأكثَرها حُضورًا في سُوره وآياتِه، وأشدَّها قوَّةً وتأثيرًا فقال: هي الإخبارُ عن الحياةِ الآخرة الأبديَّة؛ إما في الجنة حيث النعيم المُقيم، وإما في جهنَّم حيث العذاب الأليم، هذه القضيَّةُ الكُبرَى التي تتعلَّقُ بنهاية الإنسان ومصيرِه بعد الموتِ، وآياتُها من الكثرَة والتَّكرار والتفصيل والبيان ما يستدعِي أن يستحضِرَها المُسلمُ في كل أحوالِه وتصرُّفاته. فالغايةُ من الخلق، وإرسال الرُّسُل، وإنزال الكتب: تحقيقُ عبادة الله تعالى بتوحيده، وتعظيم أمره ونهيِه، والسَّير وفقَ ما يرضَاه - سبحانه -، واجتِناب أسباب غضبِه ومقتِه. وتظهرُ حقيقةُ اليقين بالله في مراحِلِ الضعفِ، وإنما يكونُ اليقينُ للواثِقِ بالله مهما حلَكَ الظلام، واشتدَّ الضيقُ، وتكالَبَت الخُطُوب.

 

 

المدينة المنورة:

 

ألقى فضيلة الشيخ علي بن عبد الرحمن الحذيفي - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "صوارِفُ العبد عن طريقِ الحقِّ"، والتي تحدَّث فيها عن وعدِ الله تعالى وأنه لا يُخلِفُ الميعاد، وما أعدَّه الله تعالى لعبادِه الطائِعِين من النعيم المُقيم، وما توعَّد به العُصاةَ والكافِرين من العذابِ الأليم، ثم ذكرَ ما يصرِفُ العبدَ عن طريقِ الحقِّ، وهي: النفسُ، والهوَى، والشيطان، والدنيا، كما بيَّن كيف يتَّقِي العبدُ هذه الأعداء ويفوزَ برِضوان الله تعالى وجنَّته يوم القيامة.

 

واستهل الشيخ بالوصية بتقوى الله -تعالى- فقال: فاتَّقُوا اللهَ تعالى بالمُسارَعَة إلى الخيرات، ومُجانَبَة المُحرَّمات؛ تفُوزوا بأعلَى الدرجات، وتنجُو من المُهلِكات.

 

وأضاف الشيخ: إن الله وعَدَكم وعدَ الحقِّ ولا خُلفَ لوعدِه، ولا مُعقِّبَ لحُكمه، وعَدَ عبادَه الطائِعِين بالحياة الطيبةِ في دُنياهم، ووعَدَهم بأحسن العاقِبَة في أُخراهم؛ يُحِلُّ عليهم رِضوانَه، ويُمتِّعهم بالنعيم المُقيم في جناتِ الخُلد مع النبيِّين والصالِحين الذين اتَّبَعُوا الصراطَ المُستقيم.

 

وقال حفظه الله: ووعدُ ربِّنا حقٌّ لا يتخلَّفُ منه شيءٌ، والمُؤمنون يُشاهِدُون ما وعَدَهم ربُّهم في حياتهم الدُّنيا، ويتتابَعُ عليهم ثوابُ الله، وتتَّصِلُ به وتترادَفُ عليهم آلاءُ الله، وسيجِدُون في الآخرة الأجرَ الموعُودَ، والنعيمَ الممدُودَ. وكما وعَدَ الله المُؤمنين الطائِعِين، توعَّد الكفَّارَ الجاحِدِين والعُصاةَ المُتمرِّدين، وما أنذَرَهم به من العذابِ واقِعٌ بهم، وحياتُهم في الدنيا أشقَى حياةٍ، قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه: 124]، ولو أُعطُوا الدنيا فهم في شقاءٍ.

 

وقال وفقه الله: وقد ابتُلِيَ الإنسانُ بما يصرِفُه عما ينفَعُه، ويُوقِعُه فيما يضُرُّه؛ ابتِلاءً وفتنةً تُثبِّطُ عن الطاعات، وتُزيِّنُ عن المعاصِي؛ ليعلَمَ الله من يُجاهِدُ نفسَه، ويُخالِفُ هواه، ممن يتَّبِعُ شيطانَه، وممن يُطيعُ هوَى نفسِه، فيُفاضِلُ الله بين المُهتَدين بالدرجات، ويُعاقِبُ أهلَ الأهواء الغاوِيَة بالدرَكَات.

 

وأكد الشيخ أن النفس من أعدَى الأعداء للإنسان، ولا يدخلُ الشيطانُ إلا من بابِها، والنفسُ بما تتَّصِفُ به من الجهلِ والظُّلمِ تُبعِدُ صاحبَها عن التصديقِ بوعدِ الله، وتُثبِّطُه عن الاستِقامة، وتنحرِفُ بالإنسان عن الاعتِدال. ولا تسلَمُ النفسُ من الجهل إلا بالعملِ النافعِ الذي جاءت به الشريعةُ، ولا تسلَمُ من الظُّلم إلا بالعمل الصالح، ولا بُدَّ للمُسلم أن يرغَبَ إلى الله دائِمًا ويدعُوه لصلاحِ نفسِه.

 

وتابع فضيلته: فإذا لم تتزكَّ النفس وتتطهَّر بالعلم الشرعيِّ والعملِ الصالحِ، استولَى عليها الجهلُ والظُّلمُ، واتَّحَدَت مع الهوَى، فكذَّب صاحبُها بوَعد الله، واتَّبَع الشهوات، فتردَّى في درَكَات الخُسرانِ والعذابِ والهوانِ، وخسِرَ الدنيا والآخرة، وإذا زُكِّيَت النفسُ وطُهِّرَت بالعلمِ النافعِ والعملِ الصالحِ، تحوَّلَت إلى نفسٍ مُصدِّقةٍ بوَعد الله، مُطمئنَّةٍ مُنيبةٍ إلى ربِّها، تُبشَّرُ بالكرامة عند الموت.

 

وقال وفقه الله: وقاطِعُ سُبُل الخير، والداعِي إلى كل معصِيةٍ وشرٍّ عدوُّ الإنسان الشيطانُ الرجيمُ، الرِّجسُ النَّجِسُ - نعوذُ بالله منه - جعلَه الله فتنةً للمُكلَّفين؛ من أطاعَه كان بأخبَثِ المنازِل، ومن عصَاه كان بأفضلِ المنازِل، لذَّتُه وسُرورُه ونعيمُه في الغوايَةِ والإفساد، يدعُو الإنسانَ إلى التكذيبِ بالوَعدِ والوعيدِ، ويُزيِّنُ له المُحرَّمات، ويصُدُّه عن الفرائِضِ والمُستحبَّات، ويعِدُه الأمانِيَ الباطِلَة، ويغُرُّه بالوسوسة الخبيثة.

 

وبيَّن الشيخ أن للشيطانِ مع ابنِ آدم سبعة أحوالٍ: فهو يدعُوه إلى الكُفر - والعياذُ بالله -، فإن استجابَ الإنسانُ له، فقد بلغَ منه الشيطان الغايةَ، فإن لم يستجِب له في الكبائِر دعاه إلى صغائِر الذنوبِ ويُهوِّنُها عليه؛ حتى يُصِرَّ عليها، ويُكثِرَ منها، فتكون بالإصرار كبائِر، فيهلِك لمُجانَبَة التوبة. فإن لم يستجِب له في الصغائِر دعاه إلى الاشتِغال بالمُباحَات عن الاستِكثار من الطاعات، وشغلَه بها عن التزوُّد والاجتِهاد لآخرتِه، فإن نجَا من هذه دعاه إلى الاشتِغال بالأعمال المفضُولَة عن الأعمال الفاضِلَة؛ ليُنقِضً ثوابَه في الآخرة؛ فإن الأعمالَ الصالحةَ تتفاضَلُ في ثوابِها، فإن لم يقدِر الشيطانُ على هذا كلِّه، سلَّط جُندَه وأتباعَه على المُؤمن بأنواع الأذَى والشرِّ. ولا نجاةَ من شرِّ الشيطانِ إلا بمُداومَة الاستِعاذة بالله منه، ومُداومَة ذكرِ الله تعالى، والمُحافظَةِ على الصلواتِ جماعةً؛ فهي حِصنٌ وملاذٌ ونجاةٌ، وبالتوكُّل على الله، ومُداوَمَة جِهادِ الشيطان، والتحرُّز من ظُلم العباد.

 

وأكد الشيخ أن مما يصُدُّ عن الحقِّ والاستِقامة والخير: حُبّ الدنيا والرِّضا بها من الآخرة، وجمعها من حلالٍ وحرامٍ، والرُّكون إليها، ونِسيان الآخرة، والدُّنيا عدوَّةُ الإنسان، إذا استولَت على قلبِه فاشتغَلَ بها، وأعرضَ عن عمل الآخرة هلَكَ، وأكثرُ أهل الأرض آثَرُوا الدنيا، ولا نجاةَ من شرِّها وضرَرها، ولا وِقايةَ من سُوء أحوالِها إلا باكتِساب مالِها بالطُّرق المُباحَة المشرُوعة، وبالتمتُّع فيها بما أحلَّه الله من غير إسرافٍ، ومن غير بذَخٍ وتبذيرٍ، ومن غير استِعلاءٍ وتكبُّرٍ على الخلقِ، ومن غير فرَحٍ وبطَرٍ بها، ولا يستَطيلُ بقوَّته على حقوقِ العباد. ولا بُدَّ أن يعلَمَ حقيقتَها، وأنها متاعُ الغُرور، سريعةُ الزوال، مُتقلِّبةُ الأحوال، وأن يتذكَّر هذه الحقيقةَ دائِمًا، فذلك صلاحُ قلبِه.

 

وختم الشيخ خطبته بالتحذير من فتن الدنيا، فقال: إن ربَّنا قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [فاطر: 5]. وفي الحديث: «الكيِّسُ من دانَ نفسَه وعمِلَ لما بعد الموت، والعاجِزُ من أتبَعَ نفسَه هواها وتمنَّى على الله الأمانِي».

 

وعن ابن عباسٍ مرفوعًا: «إن للمَلَك لَمَّةً بالقلبِ؛ فلَمَّةُ الملَك تصديقٌ بالوَعد، وتصديقٌ بالحقِّ، وإن للشيطانِ لَمَّةٌ بالقلبِ؛ فلَمَّةُ الشيطان تكذيبٌ بالوَعد، وتكذيبٌ بالحقِّ».

 

والمُسلمُ عليه أن يُحاسِبَ نفسَه، ويُقيمَها على الصراط المُستقيم، ويحذَرَ من كيدِ الشيطان، ومن هوَى نفسِه، ومن الاغتِرار بالدنيا؛ فإن متاعَها قليلٌ.

 

 

التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life