اقتباس
ألا يعلمُ العابِثون بالدماء أن عِصمةَ الدم أعلى درجات الأمن الدنيوي، فإذا ضاعَ فما سِواه من صُور الأمن أضيَع! أ لأجل الدنيا يُسفكُ الدمُ الحرام؟! أ لأجل حظٍّ دنيويٍّ زائِل تُزهقُ أرواحٌ دون جَريرة؟! ألا متى تصحُو أمَّتُنا من غفلتها لتعِي خطورةَ ما يُدمِي القلوب، ويُبكِي العيون من مآسِي إخواننا المُسلمين في كل مكان؛ حيث تُسالُ دماؤُهم بغير حقٍّ ولا هدًى ولا كتابٍ مُنير. يستنشِقُ القاتِلون الطُّغيانَ والجبروت، فيستنثِرون الدماءَ والرقابَ والأشلاء! إنهم قُساةُ القلوب، غِلاظُ الأكباد...
مكة المكرمة:
ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "التجرد لله تعالى في الإحرام"، والتي تحدَّث فيها عن التجرُّد لله تعالى بإخلاص العبادة له وحده، واتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -، مُمثِّلاً ذلك في الإحرام وسائر مناسك الحج، كما حذّرَ من سفك دماء المسلمين وانتهاك حُرماتهم.
واستهل الشيخ بالوصية بتقوى الله -تعالى- فقال: فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - سبحانه -؛ فهي الزادُ في المسير، والرفيقُ المُؤنسُ بعد الرحيل.
وأضاف الشيخ: لقد أكرمَ الله عبادَه بمواسِم للخيرات مُترادِفة، بها تحيا قلوبُهم، وتزكُو نفوسُهم. جعلَها الله موارِد للتزوُّد بالطاعة، وتجديد العهد مع الله، والخُلوص من عوالِق الدنيا وصوارِفها. فما أن ودَّعوا شهر البركات والرحمات إلا ويلُوحُ لهم في الأُفق موسِمُ الذكر والتهليل، والتكبير والتلبية. موسِم الوقوف بعرفة، والحج الأكبر، ورمي الجِمار، وقضاء التَّفَث، والطواف بالبيت العتيق. موسِم تعظيم شعائر الله المُذكِية للتقوى في النفوس.
وقال حفظه الله: لقد جمع الله لعباده في موسِم الحج أنواعَ العبادة الثلاثة: القولية، والبدنية، والمالية. ولعِظم شأن هذه الأعمال الثلاثة كان من الحكمة أن يسبِقَها تجرُّدٌ من عوالِق الدنيا، ونزعٌ لما يكون سببًا في جلب الصوارِف عنها. فكان أول عملٍ يعملُه الحاجُّ قبل النية والتلبية أن يتجرَّد من لُبس المخيط، وكأن في هذا التجرُّد إيذانًا بالصفاء، والخلُو من الغَشش، وكأن فيه نزعًا لاعتبارات المظاهر على المخابِر.
وقال وفقه الله: التجرُّدُ من المخيط - عباد الله - يجعلُ الحُجَّاج على حدٍّ سواء، مهما اختلفَت أصنامُهم شريفُهم ووضيعُهم، وغنيُّهم وفقيرُهم. فلو كان كلٌّ منهم على لباسِه المعهود لطفِقَت الأفئدةُ والأبصارُ مُشرئِبَّةً تتأمَّلُها وتنظرُ إليها، فيدِبُّ إليها الغيرةُ والحسد، والشحناء والبغضاء، فتتنافرُ القلوب حتى تبتعِد عن خالقها ومولاها.
وأضاف فضيلته: فكان التجرُّد من الثياب تجرُّدًا من الهوى، وحب الذات، والولَع بالدنيا، وتجرُّدًا من الإحَن والضغائن، وتتبُّع العورات، وقلَّة الإنصاف، حتى تكون النفوس مُهيَّأةً لتحمُّل أمانة العدل المُنافي للظلم والجَور، ليبلُغ المُتجرِّدُ بعد ذلكم كلِّه درجةَ المخمُوم الذي هو أفضلُ الناس.
وقال حفظه الله: التجرُّد - عباد الله - هو خلُوص الشيء من مُخالطة غيره له؛ فالتجرُّد من المخيط هو نزعُ الثياب ليحلَّ الإحرام محلَّها، والتجرُّد من الشرك هو ترك كل عبادةٍ سوى عبادة الله وحده، والتجرُّد من البدعة هو تركُ كل سبيلٍ غير سبيلِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وألا يعبُد المرءُ ربَّه إلا بما شرَع.
وقال وفقه الله: حقيقة التجرُّد يرجعُ إلى عُنصرين رئيسين لا ثالث لهما: أحدهما: التجرُّد في الإخلاص. والآخر: التجرُّد في المُتابعة. فتجرُّد الإخلاص ينفي كل شائبةٍ من شوائِب الشرك الأكبر والأصغر، الخفيِّ منه والجليِّ؛ فإن من تجرَّد في إخلاصه لله لم يُشرِك معه غيرَه. وأما تجرُّد المُتابعة فهو عُنصرٌ عظيم، وسِياجٌ منيع، يتمُّ الحفاظُ من خلاله على عُنصر التجرُّد في الإخلاص؛ إذ لا نفعَ في إخلاصٍ لا تتحقَّقُ فيه مُتابعةُ النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وأضاف فضيلته: إذا تحقَّق هذان التجرُّدان - عباد الله - فلا تسألوا حينَئذٍ عن حُسن انتظام الناس في حياتهم القلوية والعملية؛ لأن من تجرَّد لله في إخلاصِه ومُتابعته فحريٌّ به أن يُصيبَ الحكمةَ إذا نطَق، وأن يعدِل إذا حكَم، وأن يُنصِف إذا وصَف، وأن يُعرِض عن اللغو إذا سمِعه، وأن يملأ الله قلبَه في الحُكم على الآخرين بالمنطق العدليِّ لا العاطفيِّ. فلا تمنعُه عيُ الرضا عن الإقرار بالعيب، كما لا تدفعُه عينُ السخط إلى التجنِّي والبُهتان.
وقال حفظه الله: إن من أعظم الحقوق التي يجبُ المُسارعةُ في التجرُّد الصحيح فيها هي دماءُ المُسلمين؛ فبأيِّ حقٍّ وأيِّ تبريرٍ يستبيحُ أحدُنا دمَ أخيه المُسلم؟! وبأيِّ حقٍّ وأيِّ ذنبٍ تُزهقُ النفسُ المعصومة، ويُعبثُ بانتظام الحياة الآمِنة الهانِئة؟! ألا يعلمُ العابِثون بالدماء أن عِصمةَ الدم أعلى درجات الأمن الدنيوي، فإذا ضاعَ فما سِواه من صُور الأمن أضيَع!
وقال وفقه الله: أ لأجل الدنيا يُسفكُ الدمُ الحرام؟! أ لأجل حظٍّ دنيويٍّ زائِل تُزهقُ أرواحٌ دون جَريرة؟! ألا متى تصحُو أمَّتُنا من غفلتها لتعِي خطورةَ ما يُدمِي القلوب، ويُبكِي العيون من مآسِي إخواننا المُسلمين في كل مكان؛ حيث تُسالُ دماؤُهم بغير حقٍّ ولا هدًى ولا كتابٍ مُنير.
وختم الشيخ خطبته بالتحذير من قُساة القلوب، غِلاظُ الأكباد، من عصاباتٍ طاغيةٍ مُعتديةٍ أباحَت لنفسها أنواعَ الإجرام من قتلٍ وسلبٍ وإخلالٍ بالأمن إلا لها وعليها، فهي في نظرها من يستحقُّ الحياة لا غيرها، فتُبيحُ لنفسها الانقلابَ والقتلَ والاستِهتارَ بالأرواح وحقوق الجِوار. حتى أدمنَت رؤية الدماء، فلا تنتشِي إلا بها. ألا فبشِّر القاتل بقتله ولو بعد حينٍ. فأيُّ خُلُقٍ يحملُ هؤلاء، وأيُّ ذمةٍ يلقَون بها الحكمَ العدلَ؛ فإن أول ما يُقضَى في ذلك اليوم الدماء. فالويلُ ثم الويلُ لمن قدِم على الله في ذلك اليوم وفي رقبته دمُ امرئٍ مُسلم! فكيف بمن في رقبته ما لا يُحصَى من الدماء المعصُومة؟!.
المدينة المنورة:
ألقى فضيلة الشيخ عبد البارئ بن عواض الثبيتي - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "أثر العلم في النفوس"، تحدَّث فيها عن العلم وآثاره في نفوس المُسلمين، مُبيِّنًا فضلَه وأهميتَه في حياة الأفراد والأُمم، وأن رُقيِّ أمة الإسلام ونجاحها في الدارَين إنما هو بالعلم والعمل به، كما ذكَّر بأن العلمَ ليس بحمل الشهادات ولا التباهي بها؛ وإنما للعلم آثارٌ مذكورٌ بعضُها في ثنايا الخطبة.
واستهل الشيخ بالوصية بتقوى الله -تعالى- فقال: فأُوصِيكم ونفسي بتقوى الله، قال الله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة: 282].
وأضاف الشيخ: العلمُ نورٌ يُضيءُ الطريق، ويهدي السالِكين، وهو ركيزةُ التقدُّم والتطوُّر والتنمية، وسبيلُ النهوض بالعالَم الإسلامي لبناءِ حضارةٍ مُشرقة، واقتصادٍ متينٍ، وإنسانٍ مُتَّزن. فضلُ العلم وأهميتُه مبسوطٌ في كتب أهل العلم، ولعلَّنا نُسلِّط الضوءَ في حديثنا على أمرٍ قد نغفُلُ عنه، عن القيمةِ الحقيقية للعلم؛ أثره وثمرته. فهذه الجهودُ التي تُبذلُ، والأموالُ التي تُنفق، والمباني التي تُشيَّد، والعملُ الدَّءوب .. كلها تتعاضَدُ لتحقيق الأثر المنشُود والهدف الأسمَى.
وقال حفظه الله: وإذا أردنا معرفةَ فاعلية المناهِج وطرائِق التعليم، فعلينا قياسُ أثر العلم في النفس والحياة والتنمية، وهذا يُجلِّي لنا الحقائِق، ويُبيِّن مواطِن القوةِ والضعف، وتقدُّم الأمم لا يُقاسُ بكم المعلومات التي تُحشَى بها الرؤوس، ولا بقدر المحفُوظات التي تلوكُها الأفواه، وإنما تُقاسُ بأثر هذا العلم في السيرة والسريرة والحياة والتنمية.
وقال وفقه الله: وتشتدُّ حاجة أمَّتنا اليوم إلى تنمية أثر العلم في جميع المجالات والميادين، والذي أضعفَ تأثيرَ العلم، وأفقدَه شيئًا من قيمته أن جعلَه بعضُ المُنتسِبين إليه ثوبًا يتجمَّلون به، وحليةً يُفاخِرون بشهاداتها، وسُلَّمًا لبلوغ الجاه وتحصيل المال، وإشباعًا لشهوةٍ خفيّةٍ من حبِّ الظهور، والتفوُّق على الأقران، أو طلبًا لمحمَدة الناس.
وأضاف فضيلته: يتفاوَتُ تحقُّق أثر العلم في النفوس، ويختلفُ باختلافها؛ والإيمانُ هو الضابطُ للعلم، والمُوجِّهُ للمسالِك، حتى يُحقِّق أثرَه النافع، وإذا لم يقترِن العلمُ بالإيمان غدَا خيرُه شرًّا، ونفعُه ضُرًّا، وأثرُه وبالاً على الفرد والأمة. فالذين يستكبِرون في الأرض، ويجحَدون نعمَ الله، ويُنكِرون خالقَهم، وينتهي بهم الحالُ إلى الكفر والإلحاد لم يُزكِّ الإيمانُ علمَهم وقلوبَهم.
وقال حفظه الله: يُؤتِي العلمُ أُكلَه، ويزهُو أثرُه حين يُربَطُ بأصالة الكتاب والسنة في الثقافة والفِكر والأدب، ولا يُمكِنُ للأمة أن تُثبِت وجودَها، وتكون لها الرِّيادةُ وموقِعُ الصدارة إذا فقدَت وأهملَت أصالتَها، أو تناسَت لُغتَها وتاريخَها.
وقال وفقه الله: للقرآن أثرٌ لا ينتهي مدَدُه، ولا ينضَبُ فيضُه .. حِكَمٌ وأحكامٌ، نماءٌ وتنمية، ينقلُ الفردَ والأمةَ إلى الدرجات العُلى في الدنيا والأخرى. ما اقتربَ منه عبدٌ إلا سمَا وارتقَى، وما هجرَه إنسانٌ إلا شقِيَ وهوَى، يبنِي الشخصيةَ السوِيَّة، ويرفعُ ذكرَ الأمة، ويدلُّها على منهج الحضارة والسيادَة.
وأضاف الشيخ: والعلمُ له أثرٌ على الأخلاق التي هي مِقياسُ رِفعة الأمة، فالعلمُ وحده بلا تربيةٍ لا يصنعُ جيلاً ناجِحًا؛ فإذا هذَّبَ العلمُ الخُلُق، وقوَّم السُّلوك، ونقَّى السَريرة، وطهَّر السيرة، فهذا هو العلمُ المأمول، والأثرُ المنشُود.
وتعجب فضيلته قائلاً: ما قيمةُ العلم إذا كان الحسدُ مُتربِّعًا في النفوس، والضغينةُ تملأُ القلوب، والمجالِسُ تُحلَّى بالغِيبة والنميمة وانتِقاص الناس واحتِقارهم؟! ما قيمةُ العلم إذا كان صاحبُه يُبارِزُ بمُحادَّة شرعه، ويخونُ دينَه ووطنَه وأمَّتَه، ويكذِبُ في أعماله ومُعاملاته، ويهتِكُ جلالَ العلم بسُوء سُلوكه، ويُطفِئَ إشراقَه بسيِّئ أفعاله؟!
وقال حفظه الله: البحثُ المُثمِر هو الذي يُقدِّمُ اختراعًا يخدِم البشرية، واكتِشافًا يُسهِّلُ حياتَها، وهو البحثُ الذي يتناولُ نوازِل الأمة، ويعرِضُ حُكم الشرع فيها، والحُلولَ لها، وهو البحثُ الذي يُشخِصُ واقعَ الأمة والمخاطِر المُحدِقة بها، ويرسِمُ مُستقبلَها، ويُحدِّدُ معالِمَ العزِّ والتمكين.
وقال وفقه الله: ويظهرُ أثرُ العلم في القُدرة على التحصين من الشُّبهات، والمذاهب الباطلة، والأفكار التفكيرية، وهذا لا يتأتَّى إلا بالفِقه في الدين وربط الشباب بمناهِج الشريعَة، خاصَّةً أن تأثيرَ الفئات الضالّة يتسلَلُ بسبب قُصورٍ في الفهم، وضعفٍ في العقل، وجهلٍ بأحكام الدين.
وختم الشيخ خطبته بذكر أجلُّ أثرٍ للعلم على صاحبِه: أنه يدُومُ أجرُه كلما انتُفِع به، حتى بعد موتِه؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "إذا ماتَ الإنسانُ انقطعَ عملُه إلا من ثلاثة: إلا من صدقةٍ جارِية، أو علمٍ يُنتفَعُ به، أو ولدٍ صالحٍ يدعُو له".
التعليقات