اقتباس
إن مِن أخطرِ ما تُعانِيه المُجتمعات: مُحاولةَ إسقاط الرُّموز، والنَّيل مِن القُدوات، وهَزِّ الثِّقة بالأُسوات، وإن لمواقِعِ التواصُلِ الاجتماعيِّ في ذلك أثرًا خطيرًا على الناشِئة والشبابِ والأجيالِ في بثِّ الشَّائِعات ضدَّ رُموز الأمة وقُدواتها.. ومَن أرادَ القُدوةَ فليَقتَدِ بهَديِ سيِّد المُرسَلين، والصحابةِ المَيامِين، وسلَفِ الأمةِ مِن العلماء الربَّانيِّين والأئمَّة الصالِحين، فالقُدوةُ لا ولم ولن تتحقَّق إلا باتِّباع السلَف الصالِح..
مكة المكرمة:
ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "كيف نكون قُدوة؟"، والتي تحدَّث فيها عن أهمية القُدوة في حياةِ الناسِ عامَّة، مُبيِّنًا أن أعظمَ القُدوات همُ الأنبياء والمُرسَلُون، وفي مُقدِّمتهم نبيُّنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث جاءَت الآياتُ القرآنيَّةُ تُبيِّنُ عِظَم مكانتِه ووجوبِ الاقتِداءِ والائتِساء به، ثم وجَّهَ العديدَ من التوجيهاتِ والنصائِح للعلماء والمُربِّين والمُوظَّفين والشبابِ على ضرورةِ الاهتِمامِ بالقُدواتِ وسُلُوكِ سبيلِ السالِفين من العلماء والأئمَّة.
واستهل الشيخ بالوصية بتقوى الله -تعالى- فقال: اتقوا الله يا عباد الله؛ فإن تقوى الله سبيل النجاة.
وأضاف الشيخ: في عالَمٍ يمُوجُ بالفِتَنِ والاضطِراب، ويعُجُّ بالفِرَق والطوائِفِ والاحتِراب، كلٌّ يدَّعِي الحقَّ واحتِكارَ الحقيقةِ والصواب، ويرَى من نفسِه أنه القُدوة، وبه تكونُ الإِمَّةُ والأُسوَة. ومع كثرة التحديَّات والأزمَات، والتحوُّلات والمُتغيِّرات، يحتاجُ المرءُ إلى تلمُّس طريقِ النجاة، وإعمالِ النَّقل والعَقل في أمورِه مع الحِلمِ والأناةِ، وهنا تبرُزُ من بين الثَّنايَا قضيَّةٌ من أهمِّ وأعظم القضايَا، هي سببُ خيرِ الأفرادِ والمُجتمعات، وتشيِيد الأمجادِ والحضارات، ألا وهي: قضيَّةُ الأُسوة والقُدوة، والتأسِّي والاهتِداء، والاتِّباع والاقتِداء، وهي قضيَّةٌ ما أعظمَها وأجَلَّها!
وقال حفظه الله: لقد أولَى القرآنُ الكريمُ موضوعَ القُدوةِ اهتِمامًا كبيرًا، وعنايةً بالِغةً؛ فحثَّ على الاقتِداء والائتِساء بالرُّسُل والأنبِياء، فقال - عزَّ مِن قائل -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام: 90]، وآياتُ التأسِّي والاقتِداء في كتابِ الله كثيرةٌ جليلةٌ، وأشهرُها الاقتِداءُ بسيِّد الأنبِياء نبيِّنا وحبيبِنا وقُدوتِنا وشفيعِنا وقُرَّة أعيُنِنا مُحمدِ بن عبد الله، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21].
وقال وفقه الله: ولقد عُنِيَ النبيُّ القُدوة - صلى الله عليه وسلم - بوَضعِ المَثَل والأُسوة أمامَ أعيُن الصحابةِ ونواظِرِهم؛ فكان - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «صلُّوا كما رأيتُمُوني أُصلِّي» (رواه البخاري). وكان يعملُ العملَ أمامَ الصحابةِ - رضي الله عنهم -، ثم يقول لهم: «أيها الناس! إنما صنَعتُ هذا لتأتمُّوا بِي، ولتعلَّمُوا منِّي» (متفق عليه). وكان يقولُ: «خُذُوا عنِّي مناسِكَكم» (رواه مسلم).
ولقد حثَّ - صلى الله عليه وسلم - على الاقتِداء به، وبخُلفائِه الراشِدين، فقال - عليه الصلاة والسلام -: «ليكُم بسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلفاء الراشِدين المهديِّين، عضُّوا عليها بالنواجِذِ» (رواه الترمذي، وقال: "حديثٌ صحيح").
وأكد الشيخ أن الاقتِداء والمُحاكاة غريزةٌ فِطريَّةٌ في الإنسانِ؛ لأنه اجتِماعيٌّ بطبعِه، فهو يُؤثِّرُ ويتأثَّرُ بمَن حولَه، وإن للقُدوة أركانًا وشُروطًا: فأركانُها أربعة: المُقتَدِي، والمُقتَدَى به، والمُقتَدَى فيه، ووسِيلةُ الاقتِداء. وأهمُّ شُروطِها: الإيمانُ بالله تعالى؛ لأنه أساسُ قَبولِ العمل، وإخلاصُ الدينِ له، ثم الاستِعانةُ بالله؛ فمَن خابَ مَن استعانَ بالله، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: 5].
وبيَّن الشيخ أن القُدوة أنواع، وأجَلُّها وأعظمُها: القُدوةُ المُطلَقة، وتعنِي: الاقتِداء بالشخصِ في كل أفعالِهِ وأقوالِه وتصرُّفاتِه، ولا تصِحُّ لأحدٍ إلا لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فلقد تمَّت به القُدوة، وتألَّقَت في أبهَى وأسمَى صُورِها في شَخصِه - صلى الله عليه وسلم -، فجعلَ الله التأسِّيَ به من علاماتِ الإخلاصِ لله - سبحانه - والإيمانِ باليومِ الآخر.
وأكد فضيلته: أن مِن أخطرِ ما تُعانِيه المُجتمعات: مُحاولةَ إسقاط الرُّموز، والنَّيل مِن القُدوات، وهَزِّ الثِّقة بالأُسوات، وإن لمواقِعِ التواصُلِ الاجتماعيِّ في ذلك أثرًا خطيرًا على الناشِئة والشبابِ والأجيالِ في بثِّ الشَّائِعات ضدَّ رُموز الأمة وقُدواتها. ومَن أرادَ القُدوةَ فليَقتَدِ بهَديِ سيِّد المُرسَلين، والصحابةِ المَيامِين، وسلَفِ الأمةِ مِن العلماء الربَّانيِّين والأئمَّة الصالِحين، فالقُدوةُ لا ولم ولن تتحقَّق إلا باتِّباع السلَف الصالِح؛ لأنهم تأسَّوا بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حقَّ التأسِّي، فبلَغُوا الذِّروَة.
وهذه دعوةٌ حانِيةٌ مِن مهدِ الإسلام للتأسِّي بسيِّد الأنامِ - عليه الصلاة والسلام - ظاهِرًا وباطِنًا، والاقتِداء بالصحابةِ - رضي الله عنهم أجمعين -، والبُعد عن البِدَع والمُحدَثات، ومُخالفة أهلِ الأهواءِ والضَّلالاتِ؛ لتتحقَّقَ القُدوةُ، وتسلَمَ القُدوات، ويُنالُ الأجرُ والتوفيقُ في الحياةِ وبعد المماتِ.
وختم الشيخ خطبته بالتأكيد أن القدوة مسؤولية جماعية، فقال: فالبَيتُ، والأسرةُ، والمسجِدُ، والمُؤسَّساتُ التعليميَّةُ، ووسائلُ الإعلام، ومواقِعُ التواصُل كلٌّ مسؤُولٌ في مجالِه عن تحقيقِ القُدوةِ والتغلُّب على مُعوِّقاتها، بل ومُحاربة كلِّ ما مِن شأنِه أن يقِفَ حائِلًا بين تعزيزِ وتوطِيدِ أركانِها، وتحقيقِ شُروطِها.
إن القُدوةَ الحسنةَ التي يُحقِّقُها المُسلمُ عُمومًا بسِيرتِه الحسنةِ هي في حقيقةِ أمرِها دعوةٌ عمليَّةٌ للإسلام، بكلِّ ما يحمِلُه مِن مبادِئ وقِيَمٍ تدعُو إلى الخير، وتحُثُّ على الفَضِيلةِ والإعمار، وقد انتشَرَ الإسلامُ بالقُدوة، وحُسن المُعاملَة، والتسامُحِ عبرَ التأريخِ.
فيا أيها الآباء والأمهات: كونُوا قُدوةً لأبنائِكم في القَولِ والعَملِ؛
ويا أيها العالِمُ الأرِيبُ .. والداعِيةُ والخَطيبُ! أن تكون قُدوةً ذلك أيسَرُ وأسرَعُ في إيصالِ المعانِي، وأبلَغُ مِن كثيرٍ مِن المواعِظِ والنصائِحِ القولِيَّة.
يا أيها المُعلِّمُ والمُربِّي! كُن قُدوةً لطُلَّابِك ومَن تتعهَّدُه بالتربِية؛ فإن العُيُونَ ترصُدُ قبل العُقُولِ.
يا أيها المُوظَّفُون! كُونُوا قُدوةً في المُحافظةِ على الأمانةِ والمسؤوليَّة، والنَّزاهةِ ومُكافحةِ الفساد.
والمرأةُ المُسلِمةُ قُدوةٌ في صلاحِها، وحِجابِها، وعفافِها، وحِشمَتِها، وعدمِ اختِلاطِها بالرِّجال.
المدينة المنورة:
ألقى فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البعيجان - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "شهر رجب بين الاتباع والابتِداع"، والتي تحدَّث فيها عن فضلِ وعظميةِ الأشهُر الحُرُم كما وردَت في الكتاب والسنَّة، ثم عرَّج على شهر رجب وما نسَبَه الناسُ من البِدَع والمُحدثات إليه، وما يقُومون فيه من العباداتِ مما لم يأذَن به الشارِعُ الحكيمُ، مُبيِّنًا في ثنايَا خُطبتِه أن العبادات توقيفية، وأن الواجِبَ على كل مُسلِم التِزام الكتابِ والسنَّة وعدم الزَّيغ عنهما، أو الزيادة عليهما.
واستهل الشيخ بالوصية بتقوى الله -تعالى- فقال: فاتقوا الله بالعمل بمرضاته، وهجر مُحرَّماته؛ لتفوزُوا برِضوانه ونعيم جناته، وتنجُوا من غضب عقوباته.
وأضاف الشيخ: إن الله تعالى قد فضَّل بعضَ الأوقات، وبعضَ الأيام، وبعضَ الشُّهُور على بعضٍ، وهذا الفضلُ يقتَضِي لها حُرمةً وتقدِيرًا، وقد يقتَضِي لها تخصِيصًا ببعضِ العباداتِ، لكنَّ ذلك كلَّه مُقيَّدٌ بالشرعِ وبالاتِّباع دُون الابتِداع.
وقد استقَرَّ في الشَّرع فضلُ وعظمةُ الأشهُرِ الحُرُم على غيرِها من الشُّهور، قال تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) [التوبة: 36].
ونحن في ظِلِّ شهرِ رجَب، وهو من الأشهُر الحُرُم التي نتعبَّدُ اللهَ بحُرمتِها، ونعرِفَ لها فضلَها وشرفَها، ونسألُ اللهَ أن يُوفِّقَنا فيه لِما يُحبُّه ويرضَاه. فعظِّمُوا ما عظَّمَ اللهُ، (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) [الحج: 30].
وأكد الشيخ أن أصلَ الدينِ وقاعِدتَه: شهادةُ أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسولُ الله، ومُقتضَى هاتَين الشهادتَين: الإخلاصُ والمُتابعَة؛ فلا يقبَلُ الله من العملِ إلا ما كان خالِصًا له، مُوافِقًا لهَديِ نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، فالعباداتُ توقِيفيَّةٌ لا مجالَ للرأيِ فيها، وكلُّ خيرٍ في اتِّباعِ مَن سلَف، وكلُّ شرٍّ في ابتِداعِ مَن خلَفَ. ولا يجوزُ لأحدٍ أن يُخصِّصَ عبادةً بزمانٍ أو مكانٍ لم يُخصِّصها الله ورسولُه بها؛ لأنَّا مُتعبَّدُون بشريعةِ الله لا بأهوائِنا وعواطِفِنا.
وأوضح فضيلته أن شهرَ رجَب شهرٌ مُبارَكٌ باعتِبارِه من الأشهُر الحُرُم، ولكن لا يعنِي ذلك أن يُخصَّ بعبادةٍ لم يأذَن بها الشرعُ؛ فلا يُخصَّ بصلاةٍ مخصُوصة، ولا بإحياءِ ليلةٍ مُعيَّنةٍ فيه أو الاحتِفال بها، فهو كغيرِه من الأشهُر الحُرُم، وكلُّ الأحاديث الوارِدةِ في ذلك موضُوعةٌ أو ضعيفةٌ لا يُبنَى عليها حُكمٌ شرعيٌّ.
وختم الشيخ خطبته بالحث على التمسُّك بهَديِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ولُزومِ غَرزِه، واقتِفاء أثَره، والحذَرَ الحذَرَ مِن البِدعِ والضلالاتِ، فقال: فتمسَّكُوا - عباد الله - بالسنَّة واجتَنِبُوا البِدَع، وتناصَحُوا وتواصَوا بالحقِّ، وتواصَوا بالصَّبرِ، فالحقُّ أحقُّ أن يُتَّبَع، والباطِلُ باطِلٌ لا يتبدَّلُ ولا يتغيَّر. فالذي يُريدُ النَّجاةَ والأجرَ والثوابِ فليَقتَصِر على ما شرَعَه اللهُ - سبحانه -، وليَحذَرِ البِدَعَ؛ فإنها فِتَنٌ وابتِلاءٌ، ومِحَنٌ ولأواء، ومعاصٍ وأوزار، وآثامٌ وآصارٌ تصُدُّ عن السنَّة، وتُشتِّتُ وِحدةَ الأمة، وتُفسِدُ الدينَ والعقلَ والفِطرةَ، وما ابتَدَعَ قَومٌ بِدعةً إلا ترَكُوا من السنَّة مِثلَها.
التعليقات