مختصر خطبتي الحرمين 10 ربيع الآخر 1436هـ

ملتقى الخطباء - الفريق الإعلامي

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات:

اقتباس

إن هذه البلادَ تمُرُّ بتحديَّاتٍ عظيمة، تتلاطَمُ فيها الخُطوبُ، وتتشابَكُ فيها الفِتَن، وهي مُستهدَفةٌ لقَطعِ جُذورِها، ووأدِها في مهدِها؛ فهي معقِلُ الإسلام، ومأرِزُ الإيمان. ولكن ليعلَمَ الشانِئُون أنهم لن ينالُوا من عقيدتِها، ولن يبلُغُوا حِماها؛ فهي عصِيَّةُ على الطُّغيان، شديدةُ البأسِ على العُدوان، بناؤُها من الداخِلِ متين، وهي - بإذن الله - حِصنٌ حَصين. صُفُوفُها مُتراصَّة، لا يشُوبُها فُرَجٌ وخلَل، سيحفَظُها الله بيَقَظَة وُلاة أمرِها، وإخلاصِ عُلمائِها، مع الجِدِّ والعمل. كما أننا مُطالَبُون بنَبذِ كل صورِ الفُرقة أو من يدعُو إليها، بالقولِ أو بالفعلِ أو بحملِ السلاح، أو بالتحريضِ...

 

 

 

 

مكة المكرمة:

 

ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبدالله الخياط- حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: " نعمة الأمن وضرورة المحافظة عليها"، والتي تحدَّث فيها فضيلته عن نعمة الأمن، وأهميتها، وضرورة شكر الله على هذه النعمة التي أنعم بها علينا.

 

واستهل الشيخ بالوصية بتقوى الله -تعالى- فقال: أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-؛ فإن تقوى الله خير زاد تعدون به يوم المعاد.

 

وأضاف الشيخ: يخطئ فريق من الناس حين يغفل أو يتناسى وهو يذكر النعم ويعرض الآلاء أن الأمن أحد أكبر وأجل هذه النعم التي امتن الله بها على عباده وجعلها أساسًا ووعاءً جامعًا لضروبٍ من الخير وألوانٍ من المنافع.. ففي مقام التذكير بالآلاء بين -سبحانه- عظيم نعمته على قريش ببسط رداء الأمن عليهم حال سفرهم وارتحالهم في شتائهم وصيفهم وحال إقامتهم في البلد الأمين.. والأعراب من حوله ينهب بعضهم بعضاً ويقتل بعضهم بعضاً، فقال -عز اسمه-: ( لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ ) [قريش:1-4]، وقال -سبحانه-: ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ ) [العنكبوت:67].

 

وقال -حفظه الله-: فإذا اجتمع إلى الأمن من الخوف صحة الجسد من العلل والأسقام وتوفر ما يكفيه في يومه من قوتٍ حلالٍ فإنه يكون بذلك كمن أُعطِي الدنيا بأسرها.. أخبر بذلك الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى فقال -صلى الله عليه وسلم-: "من أصبح منكم آمنًا في سربه (أي في نفسه وفي شأنه كله) معافىً في جسده عنده قوت يومه فكأنما حِيزَتْ له الدنيا".

 

وأضاف فضيلته: وإذا كان للأمن هذه المنزلة فحقه الشكر لمسديه والثناء على معطيه -سبحانه- بالحفاظ عليه والحذر من كل ما يخل به أو يعكر صفوه أن يكون معول هدمٍ في بنيانه؛ لأن هذا حق نعم الله -تعالى- كافة على عباده، وبه يكون من الرب المجيد كما قال -سبحانه-: ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) [إبراهيم:7]، ولأن مصالح العباد كافةً ومنافع الخلق جميعًا متوقفة عليه؛ إذ بدونه لا تنتظم مصالحهم ولا تتحقق منافعهم ولا يهنأ لهم عيشٌ ولا تطيب لهم حياة.

 

وقال -وفقه الله-: ولما كان هذا الحفاظ على هذه النعمة لازمًا ومتعينًا في كل الديار فإنه أشد لزومًا وآكد وجوبًا وأقوى تعينًا في هذه الديار المباركة والمنافع الشريفة بلاد الحرمين الشريفين- حفظها الله وأدام عليها نعمه الظاهرة والباطنة.. فإن طبيعة الرسالة السامية التي تحملها هذه البلاد للعالمين وصفة المهمة الشريفة المسندة إليها باعتبارها بلدًا جعله الله -تعالى- قبلة للمسلمين ومقصدًا للعابدين وملتقى للإخوة في الدين ومثابةً للناس.. لا يقضون من تكرار زيارته الوطر ولا ينالهم بالتردد عليه سأم.. مع ما أفاض الله عليها من خيراتٍ وما أفاء عليها من بركاتٍ، جعلت منها قوة اقتصادية رئيسة يعتد بها في الملمات ويرجع إليها في الأزمات والمضائق المستحكمات..

 

وأكَّد فضيلته على أن: كل أولئك مما يوجب لهذه البلاد خصوصية أمنية تستوجب من ماشٍ على أرضها آخذٍ بحظها من خيراتها أن يكون في الحفاظ على أمنها نصيبٌ برعايته حق رعايته والعناية به وبذل الوسع في ذلك؛ فإن أمن هذه البلاد وقوتها ورخاءها أمنٌ وقوةٌ ورخاءٌ للمسلمين أجمعين.. لا يرتاب في ذلك عاقلٌ منصفٌ متجردٌ من أكدار الضغائن، سالمٌ من أوضار الأحقاد، ناج وبعيد من تأثير الدعايات المضللة والمزاعم التي لا تسندها الأدلة ولا تقوم على صحتها البراهين.

 

وأضاف الشيخ: وإذا كان للجهات المختصة بالأمن دورها المباشرة والمؤثر الذي تؤديها بكل حزمٍ- والحمد لله كثيرا على ذلك، ونسأل الله لها المزيد من التوفيق والتسديد- فإن لأهل هذه البلاد جميعاً دورهم ولكل وافدٍ عليها أيضا دوره الذي يتعين عليه القيام به؛ ولا عذر له في التقاعس عنه أو التنصل منه لأن مظلة الأمن تظلهم جميعاً، ولأن الإخلال بالأمن أو الانتقاص منه مضرٌّ بهم جميعا، ولأن التعاون والتضامن شأن المؤمن مع أخيه المؤمن.. كما جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحهما عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك بين أصابعه الشريفة -صلى الله عليه وسلم- "..

 

وبيَّن الشيخ -حفظه الله-: أن في التعاون على الخير -ومنه التعاون على حفظ أمن المسلمين وحماية مقدساتهم ودرء الخطر عن ثرواتهم وخيراتهم- أن في ذلك امتثالاً لأمر الله الذي أمر به عباده المؤمنين في محكم كتابه بقوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) [المائدة:2].

 

وختم الشيخ خطبته بوصية جامعة للمصلين فقال: واعملوا على القيام بمسئولياتكم كافة.. ومنها شكر الله على نعمة الأمن التي امتن بها على عباده في هذه البلاد، ومنها الحذر من التشبه في الانتقاص منه أو الإخلال به بكل تصرفٍ يضر ولا ينفع ويفرق ولا يجمع ويفسد ولا يصلح، وبالحرص على حفظ اللسان والقلم من كل كلام لا مصلحة فيه عبر مقالةٍ تُنشر أو حوارٍ يُذاع أو تصريحٍ يُبث أو غير ذلك من الوسائل؛ فإن مسئولية الكلمة ومسئولية الأمن لا تفترقان، وبالعناية بهما ورعايتهما حق رعايتهما تكون السلامة -بإذن الله- من كل الغوائل والآفات..

 

 

المدينة النبوية:

 

ألقى فضيلة الشيخ عبد البارئ بن عواض الثبيتي - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "البيعة وأحكامها"، والتي تحدَّث فيها عن البيعة للحاكم، مع ذكر فوائدها وأهميتها، وبيان الأحكام المُتعلِّقة بها، في ضوء الكتاب والسنة.

 

واستهل فضيلته خطبته بنصح المصلين بتقوى الله قائلاً: أما بعد: فأُوصِيكم ونفسي بتقوى الله.

 

وأضاف الشيخ: في حياة الأُمم محطَّاتٌ تاريخيَّةٌ، ومُنعطَفاتٌ قوية. تكشِفُ مكنونَها، وتُبرِزُ قِيَمَها، وأصالةَ معدِنِها. تظهرُ حقيقةُ الأُمم وقتَ المِحَن والشدائِد .. صلابةَ بُنيان .. ورُسُوخَ فهمٍ وعلمٍ.

 

مِحَنٌ وشدائد تعصِفُ بأُممٍ فتسقُطُ وتهوِي، وأُممٌ تقوَى ويشتدُّ ساعِدُها، وتتعمَّقُ جُذورُها، بل وتتفجَّرُ طاقاتُها، وتسمُوا هِممُها. موتُ زُعماء الأمة وقادة الوطن - رحمهم الله وغفرَ لهم- حدثٌ عظيمٌ له أثرُه، ومُصابٌ جَلَلٌ له وقعُه، وثُلمةٌ في البُنيان يُرَى صدعُه. لكنَّ هذه الشدائِد لا تُوهِنُ عزمَ الرجال، ولا تفُتُّ في عضُدِ الأوطان، ولا تُوقِفُ عجَلَةَ الحياة؛ فهي أمةٌ ولُود.

 

وقال -حفظه الله-: احتضَنَ الجميعُ الأحداث، وذابَت الفوارِق، وقوِيَت الصِّلات في لقاء البَيعة، ومشهَد تراصِّ الصفوف؛ حيث بايَعَ الناسُ حُكَّامَهم، وسيُسجِّلُ التأريخُ لوُلاة أمرِنا وعلمائِنا وبنِي قومِنا هذا اللقاءَ المَهيب، والموقِفَ الرَّهيب، (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) [الأنفال: 60].

 

وأضاف -وفقه الله-: شهِدَ وطنُنا هذا الميثاقَ الإسلاميَّ العظيمَ، وجسَّد عمليًّا تلاحُمَ البُنيان. قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [الفتح: 10]. وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «ومن بايَعَ إمامًا فأعطاهُ صفقَةَ يدِه، وثمرَةَ قلبِه فليُطِعهُ إن استَطَاع».

 

وبيَّن فضيلته أن بيعة الملك سلمان: بَيعةٌ وَقَتِ البلادَ الشُّرورَ، وحصَّنَت الحِمَى، واستقرَّ الأمرُ، ودخلَ الناسُ بها ساحةَ الأمان. هدوءُ العُقلاء، وثقةُ الصادقين؛ فلا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعةَ إلا بإمارة، ولا إمارةَ إلا بطاعةٍ. قال الإمام الماورديُّ - رحمه الله -: "لا بُدَّ للناسِ من سُلطانٍ قاهرٍ، تأتلِفُ برُمَّته الأهوِيةُ المُختلِفة، وتجتمِعُ بهَيبَتِه القلوبُ المُتفرِّقة، وتُكفُّ بسَطوَته الأيدي المُتغالِبة، وتُقمَعُ مع خوفِه النفوسُ المُتعانِدة والمُتعادِية؛ لأن في طبائِع الناس من حبِّ المُغالَبَة والقهرِ لمن عانَدُوه ما لا ينكَفُّون عنه إلا بمانعٍ قويٍّ ورادِعٍ ملِيٍّ". اهـ كلامُه - رحمه الله -.

 

وأضاف الشيخ: أمرَنا الإسلامُ بلُزومِ جماعةِ المُسلمين؛ فهي المخرَجُ والمنجَا - بإذن الله -؛ قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أرادَ بُحبُوحةَ الجنة فليلزَم الجماعة؛ فإن الشيطانَ مع الواحِد، وهو من الاثنَين أبعَد».

 

وأكَّد فضيلته أن: يد الله مع الجماعة، ويد الله على الجماعة، ينصُرُهم .. يُؤيِّدُهم .. يُسدِّدُهم متى ما كانوا على الحقِّ مُجتمِعين، وطاعةِ الله وطاعةِ رسولِه سالِكين؛ قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثُ خِصالٍ لا يغلُّ عليهنَّ قلبُ مسلم: إخلاصُ العمل لله، ومُناصحةُ وُلاة الأمر، ولُزومُ الجماعة؛ فإن دعوتَهم تُحيطُ من ورائِهم».

 

وأضاف -حفظه الله-: لقد بدأَ البَيعةَ العلماءُ في ملحَمةِ اللُّحمةِ بين الحُكَّام والعُلماء. فالعُلماء مناراتُ الهُدى، ومعالِم الطريق، وهم أهلُ البصر الحَديد والرأي السديد، وهم في وطنِنا لبِناتُ بناءٍ مع حُكَّامنا، ومعاوِلُ هدمٍ للفسادِ والإفساد، ولأثرِهم البَليغ صِيانةُ الأمة والوطن.

 

وحذر الشيخ من مكر الأعداء فقال: يعمَدُ الأعداءُ إلى تشويهِ سُمعتِهم، وضَربِ مواقِفِهم للوَقيعَةِ بينهم وبين الحُكَّام، ونشرِ الفتنة والفوضَى، وبثِّ تيارات الغُلُوِّ والضلال. ومن واجبِ العُلماء: نُصحُ الحُكَّام، وما يجِبُ عليهم فعلُه، وما يجِبُ عليهم تركُه. والأصلُ في ذلك السرُّ.

 

وأضاف الشيخ: انبَرَى الناسُ للبَيعَة والطاعة على مُقتضَى شرعِ الله. وهذا ما تفرَّد به الإسلامُ عن غيرِه من المذاهِبِ الوضعيَّة؛ قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «ومن ماتَ وليس في عُنقِه بَيعَةٌ ماتَ ميتةً جاهليَّة». وهي: إعطاءُ العهد من المُبايِع على السمع والطاعة للإمام، في غير معصيةِ الله، في المنشَط والمكرَه، والعُسرِ واليُسر. ويكفِي في بَيعَة الإمام أن يقَعَ من أهلِ الحلِّ والعَقد، ولا يجِبُ الاستِيعاب، ولا يجِبُ على كل واحدٍ أن يأتي إلى الإمام فيضَعَ يدَه في يدِه ويُبايِعُه.

 

وقال -حفظه الله-: ومن مُقتضَى البَيعَة: النُّصحُ لوليِّ الأمر، والدعاءُ له بالتوفيق والهداية، وصلاحِ النيَّة والعمل، وصلاحِ البِطانة؛ ليُهيِّئَ الله له وزيرَ صدقٍ يُعينُه على الخير، يُذكِّرُه إذا نسِي، ويُعينُه إذا ذَكَر.

 

وأضاف الشيخ: والواجبُ على الرعيَّة وعلى أعيانِ الرعيَّة: التعاوُنُ مع وليِّ الأمر في إقامةِ الدين، وإصلاحِ أحوال المُسلمين بكلامٍ طيِّبٍ وأسلوبٍ حسنٍ. الأمةُ كلُّها، والوطنُ بجميعِ فِئاتِه كالجَسَدِ الواحِد: المودَّةُ شِعارُه، والرحمةُ دِثارُه.

 

وقال -حفظه الله-: وللمودَّة بين الوُلاة والرعيَّة أهميةٌ كُبرى ومزِيَّةٌ عُظمى؛ قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «خِيارُ أئمَّتكم الذين تُحبُّونَهم ويُحبُّونَكم، وتُصلُّون عليهم ويُصلُّون عليكم، وشِرارُ أئمَّتكم الذين تُبغِضُونَهم ويُبغِضُونَكم، وتلعَنُونَهم ويلعَنُونَكم». قالوا: قُلنا: يا رسولَ الله! أفلا نُنابِذُهم عند ذلك؟ قال: «ما أقامُوا فيكم الصلاة، ألا من ولِيَ عليه والٍ فرآه يأتي شيئًا من معصيةِ الله فليَكرَه ما يأتي من معصيَةِ الله، ولا ينزِعنَّ يدًا من طاعةٍ».

 

وأضاف الشيخ: نرَى هذا التلاحُمَ الكبير، والأُلفَةَ الفاعِلة بين الحاكِم والمحكُوم، والراعِي والرعيَّة. الأمرُ الذي أزهَقَ كيدَ المُتربِّصين، ومكرَ المُزايِدين، وثبَّتَ أركانَ الولاية، وحفِظَ دعائِمَ السِّيادَة، فالتَأَمَ الشملُ، وذبَلَت العُنصريَّة، وزالَت العصبيَّة، وماتَت الضَّغينة، وعلا صوتُ الحقِّ والعدل، وغلَّبَ الوطنُ المصلحةَ العُليا؛ قال الله تعالى: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) [الأنفال: 63].

 

وأكد الشيخ على أن هذه البلادَ تمُرُّ بتحديَّاتٍ عظيمة، تتلاطَمُ فيها الخُطوبُ، وتتشابَكُ فيها الفِتَن، وهي مُستهدَفةٌ لقَطعِ جُذورِها، ووأدِها في مهدِها؛ فهي معقِلُ الإسلام، ومأرِزُ الإيمان. ولكن ليعلَمَ الشانِئُون أنهم لن ينالُوا من عقيدتِها، ولن يبلُغُوا حِماها؛ فهي عصِيَّةُ على الطُّغيان، شديدةُ البأسِ على العُدوان، بناؤُها من الداخِلِ متين، وهي - بإذن الله - حِصنٌ حَصين. صُفُوفُها مُتراصَّة، لا يشُوبُها فُرَجٌ وخلَل، سيحفَظُها الله بيَقَظَة وُلاة أمرِها، وإخلاصِ عُلمائِها، مع الجِدِّ والعمل.

 

كما أننا مُطالَبُون بنَبذِ كل صورِ الفُرقة أو من يدعُو إليها، بالقولِ أو بالفعلِ أو بحملِ السلاح، أو بالتحريضِ؛ قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [الأنعام: 159]، وقال: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال: 46]. وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تختلِفُوا؛ فإن من كان قبلَكم اختلَفُوا فهلَكُوا».

 

وأضاف -حفظه الله-: لقد ماتَ حاكمٌ وقامَ بالأمر حاكمٌ، والجميعُ يجعلُ الكتابَ والسنةَ أساسَ التحكيم، ومُرتكَزَ التشريع. وهذا سببُ سيادة الوطن، ونجاة الخلق، وسعادة الحياة، وطِيبِ العيش؛ قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) [الأنفال: 24]. وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «فإن هذا القرآن سببٌ طرَفُه بيدِ الله وطرَفُه بأيديكم، فتمسَّكُوا به؛ فإنكم لن تضِلُّوا ولن تهلِكُوا بعدَه أبدًا».

 

مات عنَّا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يترُكنا همَلاً نقتَاتُ على موائِدِ اللِّئام، ونتسوَّلُ الأنظمةَ والدساتِير؛ بل بيَّن لنا منهَجَ الحياة، ومكمَنَ التمكين، ومصدرَ الفلاح، فقال: «لقد تركتُ فيكم ما لن تضِلُّوا بعدَه إن اعتصَمتُم به: كتابَ الله».

 

وقال -وفقه الله-: لقد يمَّمَ الشرقُ والغربُ وجهَهُ شطرَ مبادِئ وضعيَّة، وقيَمٍ ذابِلة، فعاشَت شقاءَ الحياة، وحياةَ النَّكَد. ويمَّمَت هذه البلادُ شطرَ البيت الحرام، تُوحِّدُ ربًّا، وتتلُو آياتِه، في مناهِجها وجامِعاتها ومحاكمِها. يمَّمَ الشرقُ والغربُ شطرَ دُورِ الخَنَا والغِنا، يبنُون ويُشيِّدُون. ويمَّمَت هذه البلادُ شطرَ المسجِدَين المُبارَكَين، تُحيِي بهما الذكرَى المُبين، وترفعُ بهما رايةَ الإسلام العظيم، مع توسِعةٍ شامِلةٍ، وإنفاقٍ لا حدَّ له، وبَذلٍ لا نهايةَ له؛ خدمةً للحاجِّ والمُعتمِرِ والزائِر، وعمَّرَت المساجِدَ بالدروس العلمية، وحلقَات تحفيظِ القُرآن. وهذا أساسُ العِزِّ ودوامُه.

 

وأضاف فضيلته: ماتَ حاكمٌ وتسنَّمَ الأمرَ حاكمٌ، والأمرُ في وطنِنا ماسِكٌ وقائِم. نشدُو بقوَّته، وتشرئِبُّ الأعناقُ لتنمِيَته، وندعُو لزيادتِه. اللهم استُر عوراتِنا وآمِن روعاتِنا. (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا) [البقرة: 126]. بالأمنِ تُحفَظُ النفوس، وتُصانُ الأعراضُ والأموال، وتقومُ الدعوةُ إلى الله، وتُقامُ الجُمَعُ والجماعات، والعالَمُ كلُّه يتطلَّعُ ليتفَيَّأَ ظِلالَ الأمن؛ فقد زادَت بُؤَرُ الصِّراع، ومواطِنُ القلاقِل، واضطرَبَت النفوسُ، واحتارَت العقول. وإذا سيطرَ الخوفُ على الفرد شُلَّت حركتُه، وتعطَّل نشاطُه، وفسَدَت حياتُه، وتحطَّمَت أركانُه.

 

وبيّن الشيخ أن الأمن الفاعل الذي يتحقَّقُ به أمنُ الدنيا والآخرة، هو الأمنُ بمفهومِه الشامِل الذي يتضمَّنُ تأمينَ حِمَى الدين من أن يُستباح، وتحصينَ العقيدة من الزَّيغ والشُّبُهات، وتحقيقَ الأمن الفِكريِّ لشبابِ الأمة من التطرُّف والغُلُوِّ وتياراتِ التغريبِ، وتأمينَ فُرَص العمل، وتقليصَ البَطالَة، وأمنَ العقول من السُّقوط في براثِن الشُّبُهات ومزالِق الشهوات. قال الله تعالى: (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)[الأنعام: 81، 82].

 

 وأوصى الشيخ في ختام خطبته بالاهتمام بالحسبة والحفاظ على أمن المجتمع فقال: ولا غرْوَ أن يستتِبَّ الأمرُ لهذه البلاد المُبارَكة؛ فهي بشعيرَة الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر فريدة. هذه الشَّعيرة شريانُ الأمن النابِض، يقوَى بقوَّتها، ويضعُفُ بالتساهُل بها. ولا يشكُّ عاقلٌ أن أمرَ الدين والدنيا لا يستقيمُ إلا في وُجود الأمن؛ قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «فوالذي نفسِي بيدِه؛ ليُتِمَّنَّ الله هذا الأمر حتى تخرُجَ الضَّعينةُ من الحِيرة حتى تطُوفَ بالبَيت في غير جِوارِ أحد».

 

 

التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life