عناصر الخطبة
1/ البلاء سنة من سنن الله في خلقه 2/ ما يورثه الصبر على البلاء 3/ أقوال العلماء في الإمام أحمد 4/ حادثة القول بخلق القرآن 5/ ذكر ما تعرض له الإمام أحمد من البلاء 6/ فضل العلماءاقتباس
هذا إمام أهل السنة والجماعة شهد له الأئمة بالفضل، وأثنى عليه العلماء بالصبر، قال فيه الإمام الشافعي -رحمه الله-: "رأيت ببغداد شابًا إذا قال: حدثنا، قال الناس كلهم: صدق"، وقال فيه: "خرجت من بغداد فما خلفت رجلاً أفضل ولا أعلم ولا أفقه ولا أتقى منه"، وقال فيه الرملي -رحمه الله-: "عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، وبالصالحين ما كان ألحقه، عرضت له الدنيا فأباها، والبدع فنفاها، قيل له: ما أكثر...
الخطبة الأولى:
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن سنة الله جارية على خلقه في هذه الحياة الدنيا، يجمع للناس بين الخير والشر ابتلاءً منه وامتحانًا، (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء:35]، فلا يخلو المرء من كوارث تصيبه ونوازل تحل بساحته في نفسه أو ولده وأهله.
ويعظم البلاء ويشتد في حياة الدعاة والمصلحين الذين يدعون إلى الله، ويعملون على تحكيم شريعته، ويجاهدون لإعلاء كلمته، فينقم عليهم أهل الأهواء ويعاديهم أنصار الباطل ويحاربهم المستبدون: (وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [البروج:8].
ولكن اعلم -يا عباد الله- أن البلايا والمحن تكشف عما في القلوب وتظهر مكنونات الصدور، ينتفي بها الزيف والرياء، وتنكشف الحقيقة بكل جلاء، تطهير لا يبقى معه زيف ولا دخل، وتصحيح لا يبقى فيه غش ولا خلل. وهو تمحيص وتطهير للمؤمنين: (وَلِيُمَحّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَـافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَـاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّـابِرِينَ) [آل عمران:141، 142]، ويقول تعالى: (وَلِيَبْتَلِىَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [آل عمران:154]، بسم الله الرحمن الرحيم: (آلـم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَـاذِبِينَ) [العنكبوت:1-3].
ولقد سئل المصطفى: أيّ الناس أشد بلاءً؟! فقال: "الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلاه الله حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وما عليه من خطيئة". رواه الإمام أحمد والترمذي قال: "حسن صحيح".
إن البلاء إذا أصاب المؤمن في ذات الله فصبر واحتسب فله بذلك العزة والكرامة.
إن من يصبر على مثل ذلك عزيز حقًّا، إنها نفوس سمت بعزة الله، وقويت بتأييد الله، فصبرت وصابرت ابتغاء مرضاة الله، تخرج من البلاء كالذهب الخالص بريقًا ولمعانًا، تخلصت من حظوظ النفس وشر الهوى وتعلقت بخالقها وبارئها.
عباد الله: إن هذه النعوت ليست محالة، بل هي -ولله الحمد- كانت ولا زالت واقعًا ملموسًا في تاريخنا الإسلامي، جبال شماء ضربت أروع الأمثلة في الصبر والتضحية لأداء رسالتها واستجابة لربها، ولم يزدها كيد الكائدين وتدبير الخائنين إلا قوة وثباتًا، ولم يثنها عن القول بكلمة الحق لا ضرب السياط ولا إراقة الدماء، إنهم على الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال؟! وليكن للباطل سلطانه، وليكن له هيلمانه، ولتكن معه جموعه وجنوده، إن هذا لا يصدّ المؤمن ولا يغير من الحق شيئًا.
إنها لمسة الإيمان في قلب متّصل ببارئه، فإذا هو قويّ قويم، وإذا بكلّ قوى الأرض ضئيلة أمامه، وكيف يخشى من قلبه متّصل بالله؟! ويأمل في حياة الخلد عند مليك مقتدر، (إِنَّمَا ذلِكُمُ الشَّيْطَـانُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران:175]. لسان حالهم ومقالهم: ماذا يفعل أعدائي بي؟! أنا جنتي في صدري، أين اتجهت فهي معي، أنا سجني خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.
إنها -والله- همم تتقاصر دونها همم الكثير منّا، ويعجز عن بلوغها من عمر قلبه بحبّ الدنيا والركون إليها.
وإليك -يا عبد الله- نماذج من ذلك ليحيا قلبك ولتتربى نفسك على هذه السمات العظيمة.
هذا إمام أهل السنة والجماعة شهد له الأئمة بالفضل، وأثنى عليه العلماء بالصبر، قال فيه الإمام الشافعي -رحمه الله-: "رأيت ببغداد شابًا إذا قال: حدثنا، قال الناس كلهم: صدق"، وقال فيه: "خرجت من بغداد فما خلفت رجلاً أفضل ولا أعلم ولا أفقه ولا أتقى منه"، وقال فيه الرملي -رحمه الله-: "عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، وبالصالحين ما كان ألحقه، عرضت له الدنيا فأباها، والبدع فنفاها، قيل له: ما أكثر الداعي لك، قال: أخاف أن يكون هذا استدراجًا بأي شيء هذا".
أظنكم قد عرفتموه، قال فيه ابن معين: "أراد الناس منا أن نكون مثل أحمد بن حنبل، والله ما نقوى أن نكون مثله، ولا نطيق سلوك طريقه".
إنه الإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، إنه من أدخل الكير فخرج ذهبًا أحمر، وإن الصفحات المشرقة في حياة هذا الإمام لا يسمح لنا الوقت بذكرها، خاصة وأننا في زمن العجلة، زمن اقتصر فيه فضلاؤه على الواجبات وفرطوا في المندوبات، استكثروا من ساعات اللهو والعبث، وتقللوا من ساعات الجد والإيمان.
إخوة الإيمان: إن الصفحة المشرقة التي هي موضوعنا من حياة هذا الإمام الجهبذ هي محنته التي تعرّض لها، وهي القول بخلق القرآن، التي دعا إليها المأمون وقتل وسفك الدماء لأجلها، ووقف لها الإمام أحمد كالطود الشامخ، قال علي بن المديني: "إن الله أعز هذا الدين بأبي بكر الصديق يوم الردة وبأحمد يوم المحنة".
وكان أحمد عالمًا بما ورد بمثل حاله من الآيات المتلوة والأخبار المأثورة، وبلغه بما أوصي به في المنام واليقظة، فرضي وسلم إيمانًا واحتسابًا، وفاز بخير الدنيا ونعيم الآخرة إن شاء الله، وهيأه الله بما آتاه من ذلك لبلوغ أعلى منازل أهل البلاء في الله من أوليائه.
فعُرض القول بخلق على القرآن على أحمد فامتنع، وحُمل هو ومحمد بن نوح على بعير، وسُيِّرا إلى الخليفة لأمره بذلك وهما مقيّدان، وفي عرض الطريق جاورهما رجل من الأعراب، فسلم على الإمام أحمد وقال له: يا هذا: إنك وافد الناس، فلا تكن شؤمًا عليهم، وإنك رأس الناس اليوم، فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه فيجيبوا فتحمل أوزارهم يوم القيامة، وإن كنت تحبّ الله فاصبر على ما أنت فيه، فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل، وإنك إن لم تقتل تمت، وإن عشت عشت حميدًا، قال أحمد: وكان كلامه مما قوّى عزمي.
وبلغهم موت المأمون، فتولى بعده المعتصم فاشتدّ الأمر، قال: فردونا إلى بغداد في سفينة مع بعض الأسرى ونالني منهم أذى كثير، وكان في رجليه القيود، ومات صاحبه محمد بن نوح في الطريق، فصلى عليه وأودع بعد ذلك السجن نحوًا من ثمانية وعشرين شهرًا، وكان أحمد وهو في السجن هو الذي يصلي في أهل السجن والقيود في رجليه، ثم أخرج إلى الضرب بين يدي المعتصم بعد أن زيد في قيوده، قال أحمد: فلم أستطع أن أمشي بها، فربطتها في التكة وحملتها بيدي، ثم جاؤوني بدابة فحملت عليها، فكدت أن أسقط على وجهي من ثقل القيود، وليس معي أحد يمسكني، فسلم الله حتى جئنا دار المعتصم، فأدخلت في بيت وأغلق علي، وليس عندي سراج، فأردت الوضوء، فمددت يدي فإذا إناء فيه ماء، فتوضأت منه ثم قمت ولا أعرف القبلة، فلما أصبحت إذا أنا على القبلة ولله الحمد، ثم دعيت فأدخِلت على المعتصم، وبعد انتهاء المناظرة التي دارت بينه وبين خصومه بحضرة المعتصم في موضوع خلق القرآن قال: ثم لم يزالوا يقولون له: يا أمير المؤمنين: إنه ضال مضلّ كافر، فأمر بي فقمت بين العقابين، وجيء بكرسيّ فأقمت عليه وأمرني بعضهم أن آخذ بيدي بأيّ الخشبتين فلم أفهم، فتخلعت يداي، وجيء بالضرابين ومعهم السياط، فجعل أحدهم يضربني سوطين، ويقول له -يعني المعتصم-: شدّ قطَع الله يدك، ويجيء بالآخر فيضربني سوطين، ثم الآخر كذلك فضربوني أسواطًا، فأغمي علي وذهب عقلي مرارًا، فإذا سكن الضرب يعود علي عقلي، وقام المعتصم إليّ يدعوني إلى قولهم فلم أجبه، وجعلوا يقولون: ويحك!! الخليفة على رأسك، فلم أقبل، فأعادوا الضرب ثم عاد إليّ فلم أجبه، فأعادوا الضرب، ثم جاء الثالثة فدعاني فلم أعقل ما قال من شدة الضرب، ثم أعادوا الضرب فذهب عقلي، فلم أحس بالضرب، وأرعبه ذلك من أمري، وأمر بي فأطلقت من رجلي.
ثم أمر الخليفة بإطلاقه إلى أهله، وكان جميع ما ضرب نيفًا وثلاثين سوطًا، وقيل: ثمانين سوطًا، ولكن كان ضربًا مبرحًا شديدًا جدًّا.
ضاقت فلما استحكمت حلقـاتهـا *** فرجت وكنت أظنها لا تفرج
ولما رجع إلى منزله جاء الجراحي فقطع لحمًا ميتًا من جسده، وجعل يداويه، ولما شفاه الله بالعافية بقي مدة وإبهاماه يؤذيهما البرد، وجعل كل من آذاه في حل إلا أهل البدعة، وكان يتلو في ذلك قوله تعالى: (وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ) [النور: 22]، ويقول: ماذا ينفعك أن يعذب أخوك المسلم بسببك؟! وقد قال تعالى: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّـالِمِينَ) [الشورى:40]، وينادي المنادي يوم القيامة: ليقم من أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث أقسم عليهن: ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا، ومن تواضع لله رفعه الله".
عباد الله: هؤلاء هم نجوم الأمة بعد محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، إن سيرة واحدة منهم لعبرة وموقف، واحد منهم خير من كثير منّا، ولا أقول لنفسي ولكم إلا ما قاله الشاعر:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم *** إن التشبه بالكرام فلاح
سلام عليك يا إمام، وغفر الله لك وأجزل لك المثوبة، وجزاك عن أمة الإسلام خير الجزاء.
أسأل الله العلي العظيم الكريم من فضله أن يعظم أجره ويكثر مثله وينفعنا بعلمه ويحشرنا في زمرته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (منَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً) [الأحزاب:56].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
فإن الله -عز وجل وتقدست أسماؤه- اختص من خلقه من أحب فهداهم للإيمان، ثم اختص من سائر المؤمنين من أحب فتفضل عليهم فعلمهم الكتاب والحكمة وفقههم في الدين، وعلمهم التأويل وفضلهم على سائر المؤمنين، وذلك في كل زمان وأوان، رفعهم بالعلم وزينهم بالحكمة، بهم يعرف الحلال من الحرام والحق من الباطل، والضار من النافع والحسن من القبيح، فضلهم عظيم، ورثة الأنبياء وقرة عين الأولياء، الحيتان في البحار لهم تستغفر، والملائكة بأجنحتها لهم تخضع، والعلماء في القيامة بعد الأنبياء تشفع.
مجالسهم تفيد الحكمة، وبأعمالهم ينزجر أهل الغفلة، هم أفضل من العُبَّاد وأعلى درجة من الزهاد، حياتهم غنيمة، وموتهم مصيبة، يذكّرون الغافل ويعلّمون الجاهل، لا يتوقع لهم بائقة ولا يخاف منهم غائلة، الطاعة لهم من جميع الخلق واجبة، والمعصية لهم محرمة، من أطاعهم رشد ومن عصاهم غوى.
هم سراج العباد ومنار البلاد، وقوام الأمة وينابيع الحكمة، هم غيظ الشيطان، مثلهم في الأرض كمثل النجوم في السماء، يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، إذا انطمست النجوم تحيروا، وإذا أسفر عنها الظلام أبصروا.
إن من هذا وصفهم وهذه طباعهم حقيق علينا أن نعرف قدرهم، ونحزن لما يصيبهم من مكروه وبلاء، وندافع عنهم، ونكون لهم يدًا وذخرًا نذب عن أعراضهم، ونحذر من السعاية بهم لأجل أن يعبد الله وحده ويحقق التوحيد الخالص، فلقد جاء في الحديث القدسي: "من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب".
اللهم اجعلنا من أنصار دينك يا رب العلمين...
التعليقات