محاسن ربنا -جل جلاله-

محمد بن عبدالرحمن محمد قاسم

2022-10-06 - 1444/03/10
التصنيفات: التوحيد
عناصر الخطبة
1/ صفات الله تعالى العُلى 2/ أسماؤه الحُسنى 3/ انتهاء المحامد والمكارم والفضائل له 4/ محاسنه تعالى تستدعي تعظيمه وطاعته
اهداف الخطبة

اقتباس

ولكمال قدرته لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء سبحانه أن يعلمه إياه. ولكمال قدرته خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسه من لغوب، ولا يعجزه أحد من خلقه ولا يفوته. ولكمال "غناه" استحال إضافة الولد والصاحبة والشريك والشفيع بدون إذنه إليه. ولكمال "عظمته وعلوه" وسع كرسيه السموات والأرض، ولم تسعه أرضه ولا سمواته، ولم تحط به مخلوقاته، بل هو العالي على كل شيء وهو بكل شيء محيط..

 

 

 

 

الحمد لله المتفرد بالعظمة والجلال، الكبير المتعال، حي قيوم لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام. 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الكبرياء رداؤه، والعظمة إزاره؛ وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، القائل: "اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله"، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه، المعظِّمين لأمر الله ونهيه.

أما بعد: فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى، واحمدوه أن عرَّفكم بنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- لتقدروه حق قدره. وتنالوا القرب إليه، والفوز بثوابه.

أخبركم سبحانه أنه "الأول" بلا بداية، فقال: (هو الأول). روى البخاري والترمذي عن عمران بن حصين -رضي الله عنه-، قال: دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- وعقلت ناقتي بالباب، فأتى ناس من بني تميم، فقال: "اقبلوا البشرى يا بني تميم". قالوا: بشَّرتنا فأعطنا، مرتين. فتغير وجهه. ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن، فقال: "اقبلوا البشرى يا أهل اليمن، إذ لم يقبلها بنو تميم". قالوا: قبلنا يا رسول الله. ثم قالوا: جئنا لنتفقه في الدين، ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان. قال:"كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السموات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء". لما سألوه عن بداية هذا العالم المشاهد أخبرهم أنه تعالى كان قبل كل شيء.

وفي الدعاء المشهور الذي رواه مسلم: "أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخَر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء"، فأوَّليَّته –سبحانه- سابقة على أولِيَّة ما سواه، وآخريته بقاؤه بعد كل شيء، وظاهريته –سبحانه- فوقيته وعلوه على كل شيء، وبُطونه –سبحانه- إحاطته بكل شيء، بحيث يكون أقرب إليه من نفسه، فما من أول إلا والله قبله، وما من آخر إلا والله بعده. و"الظاهر": علوه وعظمته. و"الباطن": قربه ودنوه.

وعن أبي رزين العقيلي، قال: قلت: يا رسول الله! أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قال: "كان في عماء، ما فوقه هواء وما تحته هواء، ثم خلق عرشه على الماء، ثم استوى عليه" رواه الترمذي وابن ماجه وغيرهما. والعماء هو السحاب الكثيف المطبق، كقوله: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ) [البقرة:210].

ولنستمع -يا عباد الله- إلى ذكر بعض محاسن ربنا -جل وعلا- المتمثلة في صفاته العليا وأسمائه الحسنى، فمنها أنه (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البَقَرَة:255]، الذي لكمال حياته وقيُّوميته لا تأخذه سنة ولا نوم. "مالك السماوات والأرض" الذي لكمال ملكه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه. "العالم بكل شيء" الذي لكمال علمه يعلم ما بين أيدي الخلائق وما خلفهم، فلا تسقط ورقة إلا بعلمه، ولا تتحرك ذرة إلا بإذنه؛ يعلم دبيب الخواطر في القلوب حيث لا يطلع عليها الملَك، ويعلم ما سيكون منها حيث لا يطلع عليه القلب.

"البصير" الذي لكمال بصره يرى تفاصيل خلق الذرة الصغيرة وأعضاءها ولحمها ودمها ومخها وعروقها، ويرى دبيبها على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، ويرى ما تحت الأرضين السبع ،كما يرى ما فوق السموات السبع.

"السميع" الذي قد استوى في سمعه سر القول وجهره، وسع سمعه الأصوات، فلا تختلف عليه أصوات الخلق، ولا تشتبه عليه، ولا يشغله منها سمع عن سمع، ولا تغلطه المسائل، ولا يبرمه كثرة السائلين. قالت عائشة رضي الله عنها وعن أبيها: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة تشكو إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإني ليخفى علي بعض كلامها، فأنزل الله عز وجل: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [المجَادلة:1].

"القدير" الذي لكمال قدرته يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ويجعل المؤمن مؤمنًا، والكافر كافرًا، والبَر برًا، والفاجر فاجرًا، وهو الذي جعل إبراهيم وآله أئمة يدعون إليه ويهدون بأمره، وجعل فرعون وقومه أئمة يدعون إلى النار.

ولكمال قدرته لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء سبحانه أن يعلمه إياه. ولكمال قدرته خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسه من لغوب، ولا يعجزه أحد من خلقه ولا يفوته. ولكمال "غناه" استحال إضافة الولد والصاحبة والشريك والشفيع بدون إذنه إليه. ولكمال "عظمته وعلوه" وسع كرسيه السموات والأرض، ولم تسعه أرضه ولا سمواته، ولم تحط به مخلوقاته، بل هو العالي على كل شيء وهو بكل شيء محيط. ولا تنفد "كلماته" ولا تبدل، ولو أن البحر يمده سبعة أبحر مدادًا، وأشجار الأرض أقلامًا، فكتب بذلك المداد وبتلك الأقلام، لنفد المداد، وفنيت الأقلام، ولم تنفد كلماته، إذ هي غير مخلوقة، ويستحيل أن يَفْنَى غيرُ المخلوق بالمخلوق.

وهو سبحانه يحب رسله وعباده المؤمنين، ويحبونه، بل لا شيء أحب إليهم منه، ولا أشوق إليهم من لقائه، ولا أقر لأعينهم من رؤيته، ولا أحظى عندهم من قربه. وأنه سبحانه له "الحكمة البالغة" في خلقه وأمره، وله "النعمة السابغة" على خلقه، وكل نعمه منه فضل، وكل نقمة منه عدل.

وهو أَرحمُ بعباده من الوالدة بولدها، وأفرح بتوبة عبده من واجدٍ راحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المـَهْلَكَة بعد فقْدها واليأس منها. وهو –سبحانه- لم يكلف عباده إلا وسعهم، وهو دون طاقتهم، وأنه –سبحانه- لا يعاقب أحدًا بغير ذنب فعَلَه، ولا يعاقبه على فعل غيره، ولا يعاقبه بترك ما لا يقدر على فعله، ولا على ما لا قدرة له على تركه.

وأنه حليم، كريم، واجد، محسن، ودود، صبور، شكور، يطاع فيشكر، ويعصى فيغفر، لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، ولا أحب إليه المدح منه، ولا أحب إليه العذر منه، ولا أحد أحب إليه الإحسان منه، فهو محسن يحب المحسنين، شكور يحب الشاكرين، جميل يحب الجمال، طيب يحب كل طيب، نظيف يحب النظافة، عليم يحب العلماء من عباده، كريم يحب الكرماء، قويٌّ والمؤمن القوي أحب إليه من المؤمن الضعيف، بَرٌّ يحب الأبرار، عدل يحب أهل العدل، حيِيٌ سِتِّير يحب أهل الحياء والستر، عفو غفور يحب من يعفو عن عباده ويغفر لهم، صادق يحب الصادقين، رفيق يحب الرفق، جواد يحب الجود وأهله، رحيم يحب الرحماء، وتر يحب الوتر.
 

وبالجملة، فكلُّ صفةٍ عُليا، واسمٍ حسَن، وثناءٍ جميل، وكُلُّ حمدٍ ومدحٍ وتسبيحٍ وتنزيهٍ وتقديسٍ وجلالٍ وإكرامٍ، فهو لله عَزَّ وَجلَّ، على أكملِ الوُجُوه، وأتمِّها، وأدوَمِها.

وجميع ما يوصف به، ويذكر به، ويخبر عنه به، فهو محامد له، وثناء عليه، وتسبيح وتقديس؛ فسبحانه وبحمده! لا يُحصى أحدٌ من خلقه ثناءً عليه، لكثرة صفاته وكمالها؛ بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني به عليه خلقه، فله الحمد أولاً وآخرًا، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما ينبغي لكرم وجهه، وعز جلاله، ورفيع مجده، وعلوِّ جَدِّه.

فاتقوا الله -عباد الله- واقدروه حق قدره. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزُّمَر:67].

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله حمدًا كثيرًا على نعمائه، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارًا بألوهيته، واعترافًا بما يجب على الخلق من الأذعان لربوبيته.

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخليله أكرم الخلق وأزكاهم، وأعرفهم بالله وأتقاهم، صلوات الله وسلامه عليه وعلى إخوانه النبيين، والصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا عباد الله! قد ذم الله من لم يقدره حق قدره في ثلاثة مواضع من كتابه، فأخبر أنه لم يقدره حق قدره من أنكر إرساله للرسل وإنزال كتبه عليهم، ولم يقدره حق قدره من عبد معه إلهًا آخر، ولم يقدره حق قدره من جحد صفات كماله، ونعوت جلاله.

والإيمان به –سبحانه- لا يتم إلا بتعظيمه، ولا يتم تعظيمه إلا بتعظيم أمره ونهيه، فعلى قدر تعظيم العبد لله –سبحانه- يكون تعظيمه لأمره ونهيه، وتعظيم الأمر يدل على تعظيم الآمر.

وأول مراتب تعظيم الأمر التصديق به، ثم العزم الجازم على امتثاله، ثم المسارعة إليه والمبادرة إليه، رغم القواطع والموانع، ثم بذل الجهْدِ والنصح في الإتيان به على أكمل الوجوه، ثم فعله لكونه مأمورًا به، سواء ظهرت له حكمته أو لم تظهر؛ فإن ورد الشرع بذكر حكمة الأمر، أو فقهها العقل، كانت زيادة في البصيرة، وكانت الداعية إلى الامتثال، وإن لم تظهر له حكمته لم يوهن ذلك انقياده، ولم يقدح في امتثاله.

ولا يغتر المسلم بمن حذق في العلوم الصناعية والرياضية، واستنبطوا بعقولهم وجَودة قرائحهم وصحة أفكارهم ما عجز أكثر الناس عن تعلمه واستنباطه، فَيَظُنُّ أن معرفتهم بالعلوم الإلهية، والمعارف الربانية، كمعرفتهم بهذه العلوم الصناعية والرياضية، فهذا الظن، أو هذه البليَّة، جرَّأت كثيرًا من النفوس على تكذيب الرسل واستجهالهم.

وما عرف أصحاب هذه الشبهة أن الله –سبحانه- قد يعطي أجهل الناس به وبأسمائه وصفاته من الحذق في العلوم الرياضية، والصنائع العجيبة، ما تعجز عنه عقول أكثر الناس ومعارفهم؛ وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنتم أعلم بأمور دنياكم"، وقال بعض السلف: يبلغ من علم أحدهم بالدنيا أنه ينقر الدرهم بظفره فيعلم وزنه، ولا علم له بشيء من دينه؛ ولقد قال تعالى في علوم هؤلاء واغترارهم بها: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ، وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [غافر:83].

 

 

 

المرفقات
محاسن ربنا -جل جلاله-.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life