اقتباس
وقد قام وجهاء وشرفاء إيرلندا بعد انتهاء هذه المجاعة بإظهار الامتنان من موقف الدَّولة العثمانية، وأرسلوا رسالةَ شكر جماعية يشكرون فيها السلطان "عبد المجيد" والدولةَ العثمانية على هذا المعروف الكريم الذي لم تقم به راعيتها الأكبر إنجلترا. وما زالت هذه الرسالة محفوظة في الأرشيف العثماني بتركيا حتى وقتنا هذا.
عرض التاريخ الإسلامي لحملات قاسية من التشويه والتحريف عبر عصوره كلها، فلا يكاد يوجد عصر إسلامي، ولا دولة إسلامية قوية، إلا وتعرض تاريخها للتشويه والتبديل، وذلك لأهداف كثيرة ترجع لغرض مقصود ممن تولى كبر هذه الجريمة الإنسانية. ولكن أبرز ما في جريمة التزوير الأممية، أن التزوير في المراحل التي سبقت الدولة العثمانية كان يقع بأيد مسلمة أو تدعي انتمائها إلى الإسلام وذلك في سبيل مصالح لها، أو نتيجة خلافات مذهبية أو سياسية. أما الدولة العثمانية فالأمر كان مختلفاً، فإن الذي تولى كبر تشويه تاريخها، وطمس إنجازاتها الحضارية والإنسانية هم الأوروبيون الذين تشربت قلوبهم بجرعات وشحنات ضخمة من الحقد والحسد على الدولة العثمانية التي صالت وجالت على الجبهة الأوروبية لقرون، وحققت انتصارات ضخمة وباهرة على الممالك والامبراطوريات القديمة في أوروبا.
فلم ينس الأوروبيون للعثمانيين، فتح القسطنطينية، وبلجراد، وفيينا، واليونان، وبلغاريا، ورومانيا، والمجر، وبولندا، ولم ينس الأوروبيون كيف قهرهم العثمانيون في كوسوفو، وفارنا، ونيكوبليس، وموهاكس، وكرزت، وباب الواد، وكيف تجلل بعار الهزيمة وفضيحة الانسحاب أمام الجيوش العثمانية عواهل النصرانية الكبار مثل: شارلكان، وسيمجوند، وبطرس الكبير، وغيرهم، ولم ينس الأوروبيون أن الدولة العثمانية نشرت الإسلام في شتى ربوع العالم، ووقفوا سداً منيعاً أمام حملات التنصير الأوروبي في أفريقيا وآسيا، لم ينس الأوروبيون كيف تحول أطفالهم الصغار الذين أخذوا كغنائم حرب بعد هزيمتهم أمام الدولة العثمانية، كيف تحولوا فيما بعد لأقوى سلاح للدولة العثمانية، وعماد الجيش العثماني (الانكشارية)، وكيف برز من هؤلاء الأرقاء أفذاذ، وقادة، وفاتحون كبار فيما بعد.
لذلك كله ولغيره شن الأوروبيون حملات تشويه قاسية وشنيعة على التاريخ العثماني، ولم يدعوا نقيصة ولا مذمة إلا وألصقوها بتاريخ العثمانيين، هذا غير الأكاذيب والفرى التي اخترعوها من خزان أحقادهم، من أجل تنفير الناس من تاريخ هذه الدولة العظيمة، حتى إن كثيراً من أبناء المسلمين الذين فتنوا بالثقافة الأوروبية أو وُضعت مناهجهم الدراسية بواسطة الأوروبيين -كما هو الحال في الدول العربية التي كانت خاضعة للاحتلال الأوروبي مثل مصر والشام والشمال الأفريقي- أصبحت الدولة العثمانية في نظرهم دولة احتلال تركي أشد خطراً وضرراً من الاحتلال الأوروبي نفسه، وأن الدولة العثمانية هي سبب تخلف وهمجية الدول العربية وكل البلاد التي كان يحكمها العثمانيون.
وهذا الموقف التاريخي الذي نحن بصدد ذكره أكبر مثال على إنسانية ورقي الدولة العثمانية والذي أنار سجلها التاريخي المنير بأحرف من نور تضاف إلى مواقف كثيرة مشابهة من قبل، تكون أكبر دليل على كذب أوروبا وافترائها على الدولة العثمانية، خاصة وأن الذي شهد في هذا الموقف هم الأوروبيون أنفسهم، والفضل ما شهد به الأعداء.
مجاعة إيرلندا الكبرى أسباب وتداعيات:
تعرضت كثير من الدول الأوروبية لعدد من المجاعات القاسية في العصور الوسطى، لكن كان أشدها قسوة تلك المجاعة التي ضربت إيرلندا؛ والتي تُعرف "بمجاعة إيرلندا الكبرى" أو "مجاعة البطاطس"، فيما بين أعوام 1845 و1852م؛ وذلك لفساد المحصول الرئيس الذي يعتمد عليه أغلبيَّة الشعب الإيرلندي في المعيشة، ألا وهو محصول البطاطس، وقد تسببت المجاعة في وفاة مليون إنسان، وهجرة مليون آخر من إيرلندا، فانخفضت نسبة السكان بحوالي 20%-25% بالمئة في الجزيرة، كان ثلث سكان إيرلندا يعتمد على أكل البطاطس كمصدر وحيد في التغذية بسبب الفقر، وفي أربعينيات القرن التاسع عشر أتلفت آفة زراعية تُسمى (باللفحة المتأخرة) محاصيل البطاطس في أنحاء أوروبا، وكذلك تضررت إيرلندا، ولكن بشكل كبير فتفاقمت فيها الخسائر البشرية ويرجع ذلك إلى عدد من الأسباب الدينية والاقتصادية والسياسية والثقافية، لقد غيرت هذه المجاعة المشهد السكاني والسياسي والثقافي في إيرلندا إلى الأبد، وأصبحت نقطة تاريخية فاصلة في تاريخها.
"لقد أرسلَ الله الآفة الزراعية، وصنعَ الإنجليزُ المجاعة" بهذه العبارة البليغة اختصر السياسي والصحفي الإيرلندي "جميس ميتشل" حقيقة هذه المجاعة الكبرى، فلقد عاشت إيرلندا قصة اضطهاد ديني بشع؛ أوقعته الأقلية البروتستانتية على الأكثرية الكاثوليكية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، حيث مُنع الكاثوليك من تملك الأراضي ومن التعليم ومن حق الانتخاب ومن دخول البرلمان الإيرلندي آنذاك، كما سن قانوناً يُلزم الكاثوليك بتقسيم تركة الميت من الأرض بين الأبناء بالتساوي، وإذا ما غير الأخ الأكبر مذهبه إلى البروتستانتية يحصل على التركة كاملة. هذه القوانين الاستعمارية الجائرة أفقرت الأكثرية الإيرلندية، وأدت إلى تدهور حالتهم الاقتصادية طوال عقود طويلة قبل المجاعة الكبرى، وفي المقابل مكنت هذه القوانين الأقليةَ من السيطرة على مفاصل الحياة. عندما حكمت المملكةُ المتحدة إيرلندا في 1801م احتكرت الاقتصاد الإيرلندي أكثر من ذي قبل، وازدادت أعداد الإيرلنديين وعاشوا في ظروف صعبة حينئذ، وقد واجهت الحكومات البريطانية المتعاقبة مشكلة كيفية الحكم في بلد وصفها رئيس الوزراء البريطاني بينجامين دزرائيلي في عام 1844م بأن "سكانها جائعون وارستقراطيوها غائبون عنها، ولديها مذهب كنسي مختلف، بالإضافة إلى وجود ضعف تنفيذي فيها لا مثيل له في العالم".
أدى قانون تقسيم التركة المفروض على الكاثوليك قبل الحكم البريطاني إلى تناقص ملكيتهم من الأراضي، فصارت حصصهم الزراعية محدودة للغاية، ولم تكف قطع الأرض الزراعية الفلاح لينوع في مزروعاته كي يحصل على محاصيل متنوعة ولتربية الماشية، كذلك لم يجدوا نباتاً ينتج محصولاً على مساحة محدودة من الأرض ويكفي لإطعام عوائلهم غير البطاطس، لذا زرعوا البطاطس بكثرة، وبالتالي أصبح نظام إيرلندا زراعي أحادي وهو عامل مهم أدى إلى كارثة المجاعة. ألقى الإيرلنديون اللوم على حكومة انجلترا، خاصة وأنها تقاعست عن إغاثة إيرلندا الجزيرة التي تعتبرها جزء منها، لم تقدم الطعام مباشرة إلى المنكوبين، ولم تغلق باب التصدير من إيرلندا، لكي تنخفض قيمة الأغذية ومن ثم يتمكن معظم سكان إيرلندا الفقراء الذين كانوا يعيشون على البطاطس الرخيص من الشراء، ولم تفتح الباب أمام الاستيراد الأجنبي، فلم يجد الكثير من السكان الفقراء في إيرلندا ما يأكلوه، وهلكوا بأعداد ضخمة بمعايير الزمان.
جهود الإغاثة وموقف الدولة العثمانية:
تعمدت بريطانيا عدم مساعدة الشعب الإيرلندي في أعوام المجاعة الأولى؛ لعدم اكتراثها بالشعب الإيرلندي، ولم تعمد إلى إزالة إيجارات الأراضي باهظة الثمن على المزارعين، بل استخدمت إنجلترا المجاعةَ كذريعة إهمال وإساءة معامَلة للإيرلنديين، مدعية أنهم جلبوا الفقر لأنفسهم من خلال التمسك بالكاثوليكية. مما أدى بكثير من الفلاحين الإيرلنديين لهجر الأراضي، والهيام على وجوههم؛ للبحث عن أي لقمة خبز لأولادهم. حاولت حكومة إنجلترا إنقاذ ماء وجهها أمام العالم، خاصة بعد الأخبار المروعة عن مآسي الإيرلنديين، ومع تزايد أعداد المهاجرين إلى أمريكا وإستراليا وباقي دول العالم، حتى إن 26% من سكان نيويورك كانوا من الإيرلنديين. فقد وجه رئيس الوزراء البريطاني روبرت بيل بشراء الذرة ودقيق الذرة بقيمة 100،000 جنيه سرًا من أميركا في خريف 1845م، إلا أن السفينةَ لم تصل إلا في بداية عام 1846م بسبب أحوال الطقس، وبيعت الذرةُ ببنس للرطل، إلا أنها لم تكن صالحة للأكل وصعبة الطبخ والهضم. ثم زاد رئيس الوزراء جون رسل الأمر سوءاً عندما أمر بإنشاء مشاريع تخلق وظائف للإيرلنديين، توظف حوالي نصف مليون شخص وقد أثبتت هذه المشاريع أنها فاشلة، بالإضافة إلى أن المسوؤل عن إدارة الإغاثة الحكومية البريطانية لإيرلندا قد أضعف من جهود الإغاثة؛ لأنه اعتقد أن "الله أرسل هذه المصيبة؛ لكي يعلم الإيرلنديين درسا".
في ظل تخاذل إنجلترا عن نَجدة رعاياها من الشعب الإيرلندي، تدخلت الدولة العثمانية على الرغم من كونها في أوج ضعفها واحتضارها الفعلي، ونهاية مجدها القديم في هذه الأثناء، سارعت لنجدة فقراء الشعب الإيرلندي، حيث هالها ما توارد إليها من أخبار عن تضور الفلاحين جوعًا، وموت الكثير من الأطفال والنساء في الطرقات، دون أي تحرك فعلي لإنقاذهم من هول هذه المجاعة، ورغم أزماتها الداخلية والخارجية، لم تنس الدولة العثمانية أنها دولة عظمى لها وزنها وحضورها العالمي والذي يفرض عليها التدخل لحال الأزمات الدولية خاصة الإنسانية منها، والتصرف بمقتضى حضارة وإنسانية هذه الدولة العظمى.
فقد أمر السلطان العثماني "عبد المجيد الأول" بالتبرع بعشرة آلاف جنيه إسترليني للفلاحين الإيرلنديين بعد علمه بهذه المأساة المفزعة من طبيبه الخاص، وكان حجم مساعدات الدولة العثمانية (المحتضرة) لإيرلندا خمسة أضعاف مساعدات جارتها بريطانيا. وعندما علمَت الملكة فيكتوريا ملكة بريطانيا بهذا المبلغ الضخم الذي تنوي الدولة العثمانية التبرع به، طلبت تخفيضه إلى ألف جنيه إسترليني؛ لأنها هي نفسها لم تتبرع إلا بألفَي جنيه إسترليني، لكن السلطان العثماني أرسل ألف جنيه ومعها ثلاثة سفن محملة بالأطعمة لإيرلندا، وقد منعت بريطانيا دخولَها لميناءَي "بلفاست" و"دبلن"؛ لشعورها بالإحراج والضيق من هذا التصرف العثماني الذي أظهر بشاعة وهمجية المحتل البريطاني لإيرلندا، إلا أن الأطعمة وصلت في نهاية الأمر إلى ميناء "دروكيدا" على مَتن السفن العثمانية، وتم توزيعها على الشعب الإيرلندي وسط بقية المساعدات الأخرى الوافدة، وقد قام وجهاء وشرفاء إيرلندا بعد انتهاء هذه المجاعة بإظهار الامتنان من موقف الدَّولة العثمانية، وأرسلوا رسالةَ شكر جماعية يشكرون فيها السلطان "عبدالمجيد" والدولةَ العثمانية على هذا المعروف الكريم الذي لم تقم به راعيتها الأكبر إنجلترا. وما زالت هذه الرسالة محفوظة في الأرشيف العثماني بتركيا حتى وقتنا هذا.
التعليقات