ما حكم الجمع بين صلاة الجمعة والعصر؟

خباب الحمد

2023-03-08 - 1444/08/16

اقتباس

قد اختلف العلماء في حكم الجمع بين صلاتي الجمعة والعصر، بسبب نزول المطر فمنهم من منع ذلك وهو قول جمهور الفقهاء عدا الشفعوية، وللشافعية شروطهم المُعتبرة التي ينصُّون عليها من أهمها استمرار هطول المطر.

ما حكم الجمع بين صلاة الجمعة والعصر؛ في أجواء يجتمع فيها فيها البَرْد والمطر مع الرياح الشديدة؟ وما حكم سقوط صلاة الجمعة في شدَّة البرد والمطر؟

 

قبل البدء بالإجابة؛ فقد قصدت تطويل المنشور بشيء من التفصيل من تدليل وتعليل؛ فليصطبر من يريد مطالعته؛ فالمبحث المكتوب تشكّل لدي من رؤية خاصّة علّها تكون مُوفّقه للجمع بين فقه النص، وفقه النفس، وفقه الرّخص، ليتحصّل من خلال الاجتهاد في الشرائع الإصلاح للطبائع.

 

ثمّة وقفات لابدّ من التذكير بها:

·   أغلب الناس في المساجد ليسوا علماء شريعة؛ فلا يليق بهم أن تثور بينهم مناقشات غير علمية أشبه بالهيشات والمهاترات؛ حتى يتعصّب كُلٌ لرأيه الخاص، وربمّا يكون سبباً لحكاكة في النفس تحتاج لزمن حتّى تختفي.. هذا إن اختفت !!

 

·   هذه مسائل تكثر فيها الأوصاف التشنيعية بين الناس: فمن جمع بين الجمعة والعصر قيل عنه: متساهل، ومن لم يجمع قيل عنه: متشدد، وأرى أنّ هذه العبارات من الأليق وجوباً تركها؛ فهي مسألة علمية لا ينبغي أن يوصف قول قائل بها بعبارات نبز ولمز؛ فما على هذا تعاهدت محافل الفقه.

 

·    كُلٌّ أدرى بِنِيّته وأعلم بمقصده في الجمع من عدمه؛ فمنهم من يريد أن يتخفف من التكليف ليرمي هذا الحِمل من على ظهره، كما يُصرح، أو ليرتاح منها كما يُلمح، ومنهم من لا يجمع بالناس من باب النكاية بهم؛ والمعلوم من مقاصد شرعنا أنّه أتى للهداية والرعاية؛ ولم يأت للوِصاية والنّكاية، ومنهم من يفعل الفعل بعد دراسةٍ وفهم، والله يقول: (بل الإنسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره).

 

·        الأفضل عند جمهور الفقهاء ترك الجمع بين الصلاتين، ويصلي كل صلاة في وقتها، لوجود الأدلّة العامّة المؤكّدة لصلاةِ كل صلاة في وقتها.

 

وأقول وبالله التوفيق قولاً حُكمياً لا أتقصّد فيه ذكر أقول الفقهاء من كتبهم المذهبية؛ فغاية ما هُنالك عرض المسألة الفقهية بتيسير وتبسيطٍ، فأسوق ذلك على وجه من القراءة الخاصّة، ومن رغب الرجوع فكتب الفقهاء بين الأيادي....

 

قد اختلف العلماء في حكم الجمع بين صلاتي الجمعة والعصر، بسبب نزول المطر فمنهم من منع ذلك وهو قول جمهور الفقهاء عدا الشفعوية، وللشافعية شروطهم المُعتبرة التي ينصُّون عليها من أهمها استمرار هطول المطر.

حُجّة المانعين في ذلك :

ما ثبت عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ الجُمُعَةِ، إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَحَطَ المَطَرُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا، فَدَعَا فَمُطِرْنَا، فَمَا كِدْنَا أَنْ نَصِلَ إِلَى مَنَازِلِنَا فَمَا زِلْنَا نُمْطَرُ إِلَى الجُمُعَةِ المُقْبِلَةِ، قَالَ: فَقَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَوْ غَيْرُهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَصْرِفَهُ عَنَّا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا" قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ السَّحَابَ يَتَقَطَّعُ يَمِينًا وَشِمَالاً، يُمْطَرُونَ وَلاَ يُمْطَرُ أَهْلُ المَدِينَةِ.(صحيح البخاري (1015) .

 

والملحظ في الحديث أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعا وصلى الجمعة والمطر نازل يهطل، ولم يجمع العصر معها، وفي الأسبوع القادم دخل رجل يخبر رسول الله أنه قد تهدمت البيوت وانقطعت السبل حتى يرفع الله -تعالى- عنهم نزول المطر لمكان آخر، فدعا رسول الله، ولم يجمع بين الجمعة والعصر بحجَّة المطر الشديد!

 

وهذه من أقوى الحُجج الذي أوردوها؛ فضلاً عن ذكرهم للكثير من الفُروقات التي تصل إلى أكثر من عشرة فروقات بين صلاة الجمعة والظهر؛ إذ الجمع بينهما على الخلاف المعروف بينهم كذلك؛ كونهما شبيهتان ببعضهما؛ بخلاف صلاة الجمعة والعصر...

 

هذه المسألة = اجتهادية = ظنيّة = ليست قطعيّة، والخلاف فيها واسع.

 

رأيي الخاص أنّ قول الجمهور في عدم القول بالجمع بين الجمعة والعصر هو الأوفق والأرفق بالمصلين، وليس القول بعدم الجمع أنّه أخذ بالأشدّ والأصعب؛ بل قول من يرى عدم الجمع بين الجمعة والعصر، فيه تيسير كبير إن لوحظ سببه؛ فلا تحجب بصرك عن تيسير تراه؛ فيما هنالك تيسير لعلّه أدقّ لفهم الأدلّة في ذا الموضوع.

 

وذلك أنَّه إن نزل مطر شديد أو رياح كثيفة عاصفة أو برد شديد؛ جاز أن تصلي في بيتك، وهنا سر التيسير في الأمر، لما ثبت عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ: "إِذَا قُلْتَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَلا تَقُلْ: حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ، قُلْ: صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ"، قَالَ: فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا ذَاكَ، فَقَالَ: "أَتَعْجَبُونَ مِنْ ذَا؟! قَدْ فَعَلَ ذَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، إِنَّ الْجُمُعَةَ عَزْمَةٌ، وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُحْرِجَكُمْ فَتَمْشُوا فِي الطِّينِ وَالدَّحْضِ"(صحيح البخاري (901) صحيح مسلم (699).

 

نعم!

الحكم بعدم الذهاب لصلاة الجمعة في المسجد الجامع- يختلف باختلاف الأماكن والأحوال والأشخاص؛ فهنالك أماكن يشتدُّ فيها البرد كأعالي الجبال.. أو يكثر فيها الثلوج.. أو يكثر فيها الوحل والطين والدَّحض.. أو أن يكون الشخص كبيراً في السن لا يستطيع الذهاب..

أو يخشى على نفسه من المرض أو الضرر إن خرج لحضور الجمعة؛ فيجزئ لهؤلاء ترك صلاة الجمعة وصلاتها ظهراً في بيوتهم أربع ركعات؛ لأنّهم من أهل الأعذار..

 

وقد بوَّب الإمام البخاري في (صحيحه) (كتاب الجمعة): (الرخصة إن لم يحضر الجمعة في المطر).

وذكر حديث ابن عباس المذكور سابقاً، وفيه أنّه خاطب -رضي الله عنه- من استنكروا قوله: "صلوا في رحالكم" فقال لهم: "فعَلَه مَن هو خير مني، إن الجمعة عَزْمَةٌ، وإني كرهتُ أن أحرجك فتمشون في الطين والدَّحض".

 

والمقصود من قوله رحالكم: أي أماكن إقامتكم ومنازلكم.

 

وجاء في حديث صحيح عن ابن عمر، أنه نادى بالصلاة في ليلة ذات برد وريح ومطر، فقال في آخر ندائه: ألا صلّوا في رحالكم، ألا صلّوا في الرحال، ثم قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة باردة أو ذات مطر في السفر أن يقول: ألا صلّوا في رحالكم.(أخرجه البخاري 632، ومسلم 577).

 

وفي الحديث كذلك أنَّ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ: "إِذَا قُلْتَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَلا تَقُلْ: حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ، قُلْ: صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ"، قَالَ: فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا ذَاكَ، فَقَالَ: "أَتَعْجَبُونَ مِنْ ذَا؟! قَدْ فَعَلَ ذَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، إِنَّ الْجُمُعَةَ عَزْمَةٌ، وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُحْرِجَكُمْ فَتَمْشُوا فِي الطِّينِ وَالدَّحْضِ"(صحيح البخاري (901) صحيح مسلم (699)

 

فكان ذلك في يوم الجمعة وبيَّن أنَّه عزمة، ثمَّ بين أنَّ ذلك من فعله عليه الصلاة والسلام وقوله؛ فالصحابة كانوا يوجِّهون الناس للبقاء في بيوتهم وقت المطر، ولم يطلبوا منهم الجمع في المساجد؛ أمَّا من صلَّى الجمعة في المسجد فعليه أن يصلي العصر في بيته مادام الوضع ماطراً يبل الثياب ويؤذي المارّة.

 

وقد ذكر الفقهاء أعذار ترك الجمعة شدّة برد، وظلمة شديدة، ومطر شديد، وريح في ليلة مظلمة كما في كتب الحنفية. وكذا هو مذكور في كتب المالكية، وحينما ذكر الإمام ابن عبد البر المالكي حديث أبي الجعد الضمري -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه و سلم- قال: "من ترك ثلاث جمع تهاونا من غير عذر طبع الله على قلبه" قال: "، وأما قوله في الحديث (من غير عذر)؛ فالعذر يتسع القول فيه وجملته كل مانع حائل بينه وبين الجمعة مما يتأذى به أو يخاف عدوانه أو يبطل بذلك فرضا لا بدل منه فمن ذلك السلطان الجائر يظلم، والمطر الوابل المتصل والمرض الحابس".

 

وقد نص فقهاء المذهب الشافعي على أن شدة الحر تبيح التخلف عن الجماعة إن حصل بها التأذي والمشقة وكذلك البرد. وعند الحنابلة لا تجب الجمعة على من في طريقه إليها مطر يبل الثياب، أو وحل يشق المشي إليها فيه..

 

فيتبيَّن أنَّ الفقهاء أجازوا ترك حضور صلاة الجمعة لأجل شدَّة البرد والمطر والرياح الشديدة؛ ويصليها المرء ظهراً.

 

وهنا يجدر توضيح عدّة قضايا:

أولا: أنّ من استطاع المجيء للمسجد بما يُيسّر وصوله ولم يجد في نفسه: (1) المشقة (2) المضرّة والأذى، وهما علّتا الحكم التي من أجلها شُرع الجمع، أو عدم المجيء للصلاة؛ فليس من أهل المعذرة؛ بل يجب عليه المجيء لحضور الجمعة، لأنّ الحكم يدور مع علّته وجوداً وعدماً.

 

ثانيا: أنّ من صلّى الجمعة مع الإمام وعمل بمذهب الجمهور -وهو الأصوب إن شاء الله -فإمّا أن يُغادر المسجد، وحين يأتي وقت العصر يذهب إلى صلاتها جماعة. أو أن يُصلّي العصر مع الإمام وينويها نافلة أو تطوعاً؛ ثمّ يصلي العصر في وقتها في المسجد؛ فإن لم يستطع المجيء وشقّ عليه لبردٍ شديد ومطر وابلٍ، فليُصلّ العصر في بيته، أليس هذا تيسيراً كذلك؟!

 

ثالثا: من صلّى بالمأمومين من خطباء المساجد؛ وكان شافعياً وأخذ بالعمل به مع بقيّة شرطهم؛ فإنّه قد فعل ما لا يصح فيه الإنكار؛ وليس من المناسب اتّخاذ الإمام بعدها محطّة للتهكّم به أو ادّعاء تساهله وتميُّعه؛ كما نرى ونشاهد من بعض المتفيهقين.

لكن هذا الرأي وإن خالفناه الرأي؛ فإنّه لا يُمكن أن تكون نشأة حكمه بسبب بُعد نفسي صدر عن ضغوط الناس، وكثرة إلحاحهم، فضلاً عن الخوف من مواجهتهم، دعك من أخذ التوجيهات والأوامر منهم؛ فالناس عادّة تحب أن تُنهي الصلاة جمعاً، وعقبها يُمكن أن تخرج لأعالي الجبال لمشاهدة ثلوجٍ، أو تمشي بالشارع، أو تزور الأقارب، وغير ذلك؛ فالغفلة عن مآرب الناس ليس من سمت أهل الفقه والقياس..

 

فإذن يعود التقدير لمن تمذهب بفقه الشافعي أو أخذ بقوله؛ لكون المطر بالفعل قد نزل وبشروطه المعروفة المتعاهدة في كتبهم.

 

لكن لو أنّ الإمام قدّر تقديراً خاصاً بأن يُصلي بهم الجمعة؛ ثمّ يُوعز لأحدهم أن يُكمل بهم جمعاً صلاة العصر مع الجمعة؛ كما يفعل بعض الأئمة، فالمسألة خلافيّة ..إلاّ أنّ التقدير الفقهي وهو قول الحنابلة جواز ذلك.

خاصّة إذا كان ثمّة عُذر للإمام كأن يكون مستجداً في المسجد ويرغب تأليف القلوب، أو كانت البيئة شافعية كبعض مناطق شرق آسيا، أو غيرها من الدواعي المعقولة فلا إشكال في ذلك -إن شاء الله- وهذا بناء على فقهٍ طارئٍ؛ لكنّه في الأصل عليه أن يُوجّههم لما يعتقده ويدين لله به في مسألة كهذه.

 

رابعاً: بعضهم يحرص على الصلاة في المسجد لأجل الجماعة؛ والجماعة لها أجر كبير وفضل عظيم؛ ومع أنّ القول بوجوبها ليس قوياً؛ بل هما قولان مشهوران في المذاهب إمّا بكونها سنّة مؤكدة، أو فرض كفاية.

 

ومعلوم أنّ أهل المروء والفضل والصلاح مع هذا يحرصون عليها كما يحرص المرء على الاهتمام بمعيشته الدنيوية؛ ومع هذا كلّه فإنّ الذي أتى بسنيّة الجمع بين الصلاة للعذر؛ والذي أتى بحث المصلين على الصلاة في البيت وقت شدّة المطر، فإنّه هو الذي حثّ على صلاة الجماعة، كما أنّ فضل الجماعة تنالها بالصلاة مع أهل بيتك، وإن لم تتيسّر لك الجماعة فقد قمت بالسنّة؛ وفضل الله يؤتيه من يشاء؛ ولا يُنقصه عن عبده ما دام مواظباً على فعل الجماعة؛ وتركها لعذر!

 

خامساً: كلّما تعلّقت الرُخصة بدليل نقلي أو شِبه دليل نقلي مع تعليلٍ نصي كان ذلك ألصق بالصواب من البحث عن رخصة قُصِدَ بها إيجاد العلّة المستنبطة؛ ولهذا كان ترك حضور صلاة الجماعة أو الجمعة بسبب المشقّة والمضرّة أقعد وأوثق بالأدلّة والتعليلة، من القول بالجمع بين الصلاتين جماعة أو جمعة؛ ومن هنا ينصبّ نبع الأدلّة بالأخذ بالرُخصة الشرعية التي حثّت عليها شِرعتنا الإسلامية؛ فإنّه كما ثبت في الحديث : "إنّ الله يُحب أن تؤتى رُخصه كما يكره أن تؤتى معاصيه" وهي الرواية الأقوى من رواية : "كما يحب أن تؤتى عزائمه".

 

والحمد لله هو القائل:" يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ".

والقائل: "مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ".

 

وصلَّى الله وسلمَّ على رسوله القائل: "بعثت بالحنيفيَّة السمحة".

 

والقائل: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه".

التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life