عناصر الخطبة
1/حقيقة الدعوة السلفية ومنهجها 2/أبرز ركائز ومقومات الدعوة السلفية 3/منهج وعقيدة الدعوة السلفية في ولاة الأمر 4/أوليات الدعوة السلفية في الترابط الأسرياهداف الخطبة
اقتباس
الصحيح أن الدعوة السلفية، أو إن شئت، فقل: الدعوة إلى الكتاب والسنة، أو دعوة السلف الصالح؛ هي الدعوةُ الإسلاميةُ، الدعوةُ إلى دينِ الإسلامِ الصافي من الخزعبلاتِ والخرافات، النقيِّ من البدعِ والأفكارِ والآراءِ البشرية، الخالصِ من الشركِ والوثنيَّة، يستقي منهجيتَه وطريقتَه وشِرْعَتَه من...
الخطبة الأولى:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة الكرام: لقد كثرت الدعوات الدينية، التي تعتقد أنها إصلاحية، وكلٌّ منها يدَّعي أنها على حقٍّ وصواب، وغيرها على باطل أو خطأ.
والصحيح أن الدعوة السلفية، أو إن شئت فقل: الدعوة إلى الكتاب والسنة، أو دعوة السلف الصالح؛ هي الدعوةُ الإسلاميةُ، الدعوةُ إلى دينِ الإسلامِ الصافي من الخزعبلاتِ والخرافات، النقيِّ من البدعِ والأفكارِ والآراءِ البشرية، الخالصِ من الشركِ والوثنيَّة.
يستقي منهجيتَه وطريقتَه وشِرْعَتَه من النبعِ الصافي؛ كتابِ الله -تعالى-، وهديِ رسوله محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وعلى منهاج الصحابةِ الكرامِ -رضي الله تعالى عنهم-، وتلامذتِهم وأتباعِهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، عن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ خَيْرَكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ"، قَالَ عِمْرَانُ -رضي الله عنه-: "فَلا أَدْرِي أَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ قَرْنِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثَةً" [متفق عليه].
ومن أبرز دعائم الدعوة السلفية وأهمِّ أركانها: العلم قبل القول والعمل، لقوله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) [محمد: 19].
والعلمُ والتعلُّمُ والتعليمُ يشملُ التوحيدَ أوَّلاً؛ لأنَّه أساسُ التوحُّدِ والاجتماعِ، ثم العبادةَ، والمعاملةَ والسلوكَ، معَ الإخلاصِ لله -سبحانَه- في كلِّ الأحوالِ وكلِّ الأزمانِ، قال سبحانه: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) 163].
إنَّ التوحيدَ، هو أبرزُ مقوماتِ الدعوةِ الإسلاميةِ السلفيةِ، فتوحيدُ الله -جل جلاله- في أسمائِه وصفاتِه، وألوهيَّتِه وربوبيَّتِه، والدعوةِ إلى ذلك؛ هو ما أوحاه الله إلى أنبيائه ورسله -عليهم الصلاة والسلام-؛ أن يدعوا الناسَ إليه، ويحذروهم من الشركِ، وعبادةِ الأوثانِ والأصنامِ، وهذا قَبْلَ الجَرْحِ والتعديلِ، والطعنِ والتشويه، قال سبحانه: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل: 36].
فيجبُ إشغالُ جُلِّ الأوقاتِ وغالبِها في تعلُّم التوحيد والدعوة إليه، فليس من الدعوةِ السليمةِ التخلِّي عن ذلك الركنِ الركينِ، وشَغْلُ الوقتَ وصرفُ الجُهدِ في القال والقيل، وما تقول في فلان وعلان؟! والموالاةُ والمعاداةُ على ذلك، ومقاطعةُ دروسِ أهلِ العلمِ وطَلَبَتِه، والتحذيرُ من العلماءِ والدعاةِ، والطعنُ في الدعوةِ بالطعنِ في دعاتها، مَنْ كان هذا ديدنُه؛ فهو بعيدٌ عن المنهج وإن ادَّعاه.
ثم الاتباع، فإنَّ مما تتميَّزُ به هذه الدعوةُ المباركة، وهو أساسٌ فيها؛ اتباعُ الدليلِ من الكتابِ والسنةِ، ومنهجِ سلفِ الأمةِ في الاعتقادات والعبادات، والمعاملاتِ والأخلاقِ والسلوكِ، فكلُّ اعتقادٍ أو عبادةٍ لم يكن عليها دليلٌ ثابتٌ معتبر، ولم تُقَرّ عند السلف؛ فهي بدعةٌ مردودة؛ لقد ثبت عن عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" [مسلم].
فلا يعبدون الله -سبحانه- إلاَّ بما شرع، على هديِ رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
وكلُّ معاملةٍ أو سلوكٍ مخالفٍ لنصٍّ من الكتابِ أو السنة، أو ورد عن السلف منافاتُه؛ فهو مما تجتنبه الدعوة السلفية الحقَّة، وتحذِّر منه. فالأصل في الأشياء الدنيوية الإباحة إلاَّ ما ورد النص بحَظْرِه.
ومن ركائز هذه الدعوةِ الطيبة: حبُّ الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- كافَّة، وطاعتُهم وتوقيرُهم، والترضي عنهم، والذبُّ عن حياضِهم، والدفاعُ عن حوزتهم، وعدمُ الاعتقادِ فيهم أو في أحدهم بعصمةٍ، أو صفةٍ من صفات الربوبية أو الألوهية، خلافا للرافضة، وكذلك من منهج الدعوة السليمة عدمُ الطعنِ فيهم، كما يفعل الرافضة، أو تكفيرِهم كما يفعل الخوارج.
وتفضيلُهم -رضي الله عنهم- أجمعين على درجات، تبدأ بالخلفاء الأربعة؛ أبي بكر ثم عمر، ثم عثمان ثم علي، ثم باقي العشرة، ثم آلِ بيته -صلى الله عليه وسلم- الأطهارِ، ثم الأولين السابقين من المهاجرين والأنصار، ثم مسلمةِ الفتحِ، ثم من لم يحضر إلا في حجة الوداع، على هذا الترتيب في الأفضلية -والله تعالى أعلم-.
ومن منهاج الدعوة الصحيحةِ: بُغْضُ البِدَعِ، والدعاةِ إليها.
والبدعةُ، هي كلُّ عبادةٍ مخترعةٍ في الدين، يُتَقرَّبُ بها إلى الله -جلَّ جلاله-؛ لم تأتِ في دين الله، فلقد أبعدَ عن منهجِ السلفِ محبُّو البدع، ومؤيِّدو دعاتها، فالبدعة تهدم الدين، وتخرِّب الشريعة، وتَحُلُّ محِلَّ سُننِ الهُدَى، عن حَسَّان بنِ عطيةَ (130هـ) -رحمه الله تعالى- قال: "ما ابتدع قوم بدعةً في دينهم؛ إلا نزعَ اللهُ من سُنَّتِهم مثلَها، ثم لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة" [انظر: السلسلة الضعيفة عند ح (6707) (14/457)].
"وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وَكُلُّ ضَلالَةٍ فِي النَّارِ". كما في رواية النسائي وغيرِه.
ومهمةُ العلماء والدعاةِ المشهودِ لهم بالخيرية: بيانُ البدعِ، والتحذيرُ منها، ومن دعاتِها؛ بعدْلٍ وإنصاف، دون تجَنٍّ أو اعتساف، واستفراغُ الجُهدِ في إبداء النصيحة، وتجنُّب الفضيحة؛ لأنَّ الهدفَ المرجوَّ قبولُ هذه الدعوةِ الحقَّة، لا التنفيرُ منها، فإذا كان التنفيرُ بعمل مشروع كالتطويل في الصلاة مرفوضٌ شرعا؛ لأنه يشق على المسلمين، ويجلبُ الفتن، فكيف بالتنفير من الدين جملة بعمل غير مشروع؟!
عَنْ أَبِى مَسْعُودٍ الأَنْصَارِىِّ -رضي الله عنه- قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: إِنِّى لأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ مِنْ أَجْلِ فُلاَنٍ؛ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا -فمن أجل التطويل تأخر عن الصلاة-، فَمَا رَأَيْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- غَضِبَ فِى مَوْعِظَةٍ قَطُّ أَشَدَّ مِمَّا غَضِبَ يَوْمَئِذٍ، فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ أَمَّ النَّاسَ فَلْيُوجِزْ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِهِ الْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ" [متفق عليه].
وعَنْ جَابِرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "كَانَ مُعَاذٌ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثُمَّ يَأْتِي فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ، فَصَلَّى لَيْلَةً مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْعِشَاءَ، ثُمَّ أَتَى قَوْمَهُ فَأَمَّهُمْ، فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَانْحَرَفَ رَجُلٌ فَسَلَّمَ، ثُمَّ صَلَّى وَحْدَهُ وَانْصَرَفَ، فَقَالُوا لَهُ: أَنَافَقْتَ يَا فُلانُ؟! قَالَ: لا وَاللَّهِ! وَلآتِيَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلأُخْبِرَنَّهُ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا أَصْحَابُ نَوَاضِحَ نَعْمَلُ بِالنَّهَارِ، وَإِنَّ مُعَاذًا صَلَّى مَعَكَ الْعِشَاءَ، ثُمَّ أَتَى فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ. فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى مُعَاذٍ، فَقَالَ: "يَا مُعَاذُ! أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟ اقْرَأْ: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا). (وَالضُّحَى). (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى) (وَسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) [متفق عليه].
وإلا فكيف تقبل الدعوة السليمة، وهي منـزوعةٌ من الرفق، مشينةٌ بالعنف؟! عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ الرِّفْقَ لا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ، وَلا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ" [رواه مسلم].
وعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يَا عَائِشَةُ! إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ" [مسلم].
وهذا توجيه نبويٌّ لعائشة -رضي الله تعالى عنها- بسبب لعنِها الناقة وضربِها عندما لم تستجب للحثِّ على السير، والإسراعِ فيه، فكيف بالدعاة اليوم الذين جعلوا هدفَهم من الدعوة استخدامَ العنفِ والتنفير؟! بل يجلبون السبَّ والطعن واللعن على العلماء وعلى الدعوة، وحتى على دين الإسلام، وهذا خلاف المنهج السليم -ونسأل الله السلامة-.
ومما تهتم به دعوة السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين: طاعةُ أولياءِ الأمور: إذا أردت أن تعرفَ نفسَك أنَّك على الجادَّة في هذا الزمان؛ فاسألْ ذاتَك عن أولياء أمورك، فإن كنت لهم سامعًا مطيعاً فأنت على المنهج، وإلاَّ؛ فتفقَّد منهجيَّتَك، واتباعَك لنبيِّك -صلى الله عليه وسلم- وسلفِك الصالح!.
وأولو الأمر أصناف: ففي الدين؛ أولياءُ أمورِنا العلماءُ، وفي الخاصة؛ الوالدان، وعلى مستوى المجتمعِ أولياءُ أمورِنا كبارُ العائلة، والوجهاءُ والمخاتيرُ، أما على مستوى الدولة والحكومة، فالوزراء والأمراء والمحافظين، والقضاة والنواب، أما من يمثلنا على مستوى الدولِ والأممِ فهو وليُّ أمرِنا خليفةً كان أو سلطاناً، أو ملكاً أو رئيساً معترفا به رسميًّا، فمراسيمه سارية، وقراراته جارية، وطلباته مقبولة غير مردودة.
هؤلاء هم أولياء الأمور؛ من العلماء إلى الأمراء.
فحُبُّ العلماءِ والدعاةِ وطاعتُهم تُقَدَّم على طاعة الوالدين في أمور الدين، هكذا هي الدعوة الإسلامية، دعوةُ الصحابة ومن اهتدى بهم، احترامُ العلماءِ وتوقيرُهم، ففي الحديث: عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ" [أحمد، (5443) في صحيح الجامع].
وفي رواية: "ويجلّ عالمنا" [العسكرى فى الأمثال عن عبادة بن الصامت].
وما حبُّهم وطاعتُهم وخدمتُهم إلاَّ لأنهم الواسطةُ بين الخلق والخالق؛ في تبليغِ دينِ الله -عزَّ وجلَّ-، فهم ورثةُ الأنبياء، وتصلي عليهم الحيتانُ في البحار، والنملُ في الأجحار، وهم في ليالي الجهل كالأقمار.
قال الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى-: "واقعُ كثيرٍ من شبابِ الصحوةِ المزعومةِ اليوم، الذين يردُّ بعضُهم على بعض، ويطعنُ بعضُهم في بعضٍ للضغينةِ لا النصيحة، ووصلَ تعدِّيهم وشرُّهم إلى بعضِ العلماءِ وأفاضلِهم، ونبزوهم بشتى الألقاب، غيرَ متأدِّبين بأدبِ الإسلام: "ليس منا من لم يرحمْ صغيرَنا، ويوقِّرْ كبيرَنا، ويعرِفْ لعالمنا حقَّه"، ومغرورين بنُتَفٍ من العلمِ جمعوه من هنا وهناك، حتى توهَّموا أنهم على شيء، وليسوا على شيء، كما جاء في بعض أحاديث الفتن [الصحيحة 1682)].
وصرفوا قلوبَ كثيرٍ من الناسِ عنهم، بأقوالٍ وفتاوى ينبىء عن جهل بالغ، مما يذكِّرنُا بأنهم من الذين أشار إليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله في الحديث الصحيح: "إن الله لا يقبضُ العلمَ انتزاعاً ينتزعُه من العباد، ولكنْ يقبضُ العلمَ بقبْضِ العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالماً؛ اتخذ الناسُ رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتَوا بغير علمٍ، فضَلُّوا وأضَلُّوا" [متفق عليه، وهو مخرج في "الروض النضير" ( 579 )] أ. هـ، السلسلة الضعيفة تحت (6753) (14/557)].
أي -والله- ولولا العلماء؛ لاتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا.
فالنَّيلُ من أعراض العلماء، وسبُّهم والطعنُ فيهم؛ ليس من هدي السلف، بل هو من منهاج أهلِ البدعِ ليصرفوا الناس عن عِلْمِهم، ليبقى الجهالُ سادةً، والمتعالمون الصغارُ هم العلماء والكبار القادة.
ومما يركز عليه الدين، وتحث عليه الشريعة، واهتم به السلف الصالح، بعد طاعة العلماء؛ السمعُ والطاعةُ لوليِّ الأمرِ، ومَنْ ولاَّه من الأمراءِ والوزراءِ، والقضاةِ والمحافظين وغيرِهم.
إن الدعوةَ الحقَّةَ السليمةَ في هذا المجال؛ واضحةُ المعالمِ بيِّنةُ الآثار، فهي تتقي بهذا المنهاج نحو أولياء الأمور فتناً جسيمة، وآثاراً سلبيةً ذميمة، ويتضح هذا المنهاجُ السليمُ، في الطاعة لولي الأمر ما لم يأمر بمعصية، وإن ظَلم بأخْذِ مالٍ ليس من حقِّهِ في تقديرنا، أو ظَلَم بحبسٍ أو تعذيبٍ بغير حقٍّ في حُسباننا، فعلينا السمعُ والطاعةُ، قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ -رضي الله عنه- في حديثه قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَهَلْ وَرَاءَ ذَلِكَ الْخَيْرِ شَرٌّ؟! قَالَ: "نَعَمْ!" قُلْتُ: كَيْفَ؟! قَالَ: "يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ؛ لا يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ، وَلا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ؛ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثْمَانِ إِنْسٍ" قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ؟! قَالَ: "تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأَمِيرِ؛ وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ، وَأُخِذَ مَالُكَ، فَاسْمَعْ وَأَطِعْ" [مسلم].
السمعُ والطاعة؛ وإن قدّرنا أنَّ وليَّ الأمر لم يهتدِ بهدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو دار في خَلَدِنا أنه استنَّ بغير سنته.
أما متى لا سمعَ ولا طاعةَ لوليِّ الأمرِ أو غيرِه؟ فهذا عندما يأمرُ بمعصية، ولا بُدَّ من نصحه وإرشاده من قِبَل العلماء، فلا خروجَ عن طاعته في المعروف، بل صبرٌ على ظلمه، ودعاءٌ حتى يأتيَ الله بالفتحِ أو أمْرٍ مِن عنده، ونحج معه ونجاهد من ورائه أي بإذنه، بَرًّا كان أو فاجرا.
ومن منهاج الدعوة الصحيحة: الدعاءُ لولاةِ الأمور بالهدايةِ والتوفيق، وإقامةِ العدلِ ونصرِ المظلوم، والنصرِ على أعداءِ الأمة، وأن يحُلَّ على أيديهم الأمنُ والرخاءُ لشعوبهم ورعاياهم، وأن يرزقَهم البطانةَ الصالحةَ التي تأمرهم بالخير وتحضُّهم عليه، ويجنِّبَهم بطانةَ السوءِ التي تأمرهم بالشرِّ وتحضُّهم عليه.
قال الإمام أبو عثمان الصابوني -رحمه الله- في "عقيدة السلف أصحاب الحديث" (106): "ويرون الدعاء لهم -أي لولاة الأمور- بالإصلاح، والتوفيقِ والصلاح، وبسطِ العدلِ في الرعية، ولا يرون الخروج عليهم بالسيف، وإن رأوا منهم العدولَ عن العدل إلى الجَورِ والحَيف، ويرون قتالَ الفئةِ الباغيةِ حتى ترجعَ إلى طاعةِ الإمام العدل" أ. هـ.
وقال الإمام الطحاوي -رحمه الله- في "العقيدة الطحاوية": "ولا نرى الخروجَ على أئمتِنا وولاةِ أُمورنا، وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننـزِعُ يداً من طاعتهم، ونرى طاعتَهم من طاعةِ اللهِ عزَّ وجلَّ فريضةً، ما لم يأمروا بمعصيةٍٍ، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة" أ. هـ.
وقال الإمام البربهاري -رحمه الله- في "شرح السنة" (113-114 ): "إذا رأيت الرجلَ يدعو على السلطان فاعلم أنه صاحبُ هوىً، وإذا رأيت الرجلَ يدعو للسلطانِ بالصلاحِ فاعلم أنه صاحبُ سنةٍ إن شاء الله.
يقول الفضيل بن عياضٍ: "لو كانت لي دعوةٌ ما جعلتها إلا في السلطان" فأٌمِرْنَا أن ندعو لهم بالصلاحِ، ولم نُؤمر أن ندعوَ عليهم، وإن ظلموا وجاروا؛ لأنَّ ظلمَهم وجَوْرَهم على أنفسهم، وصلاحَهم لأنفسهم وللمسلمين" انتهى باختصار.
وسئل الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله- كما في "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة" (8/210) عن من يمتنع عن الدعاء لولي الأمر، فقال: "هذا من جهلِه، وعدمِ بصيرته؛ لأن الدعاءَ لوليِّ الأمرِ من أعظمِ القربات، ومن أفضلِ الطاعاتِ، ومن النصيحة لله ولعباده، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لما قيل له: إن دوساً عصت وهم كفار؛ قال: "اللهم اهد دوساً وأت بهم"، فهداهم الله وأتوه مسلمين. فالمؤمن يدعو للناس بالخير، والسلطانُ أولى من يدعى له، لأن صلاحَه صلاحٌ للأمَّة، فالدعاء له من أهمِّ الدعاءِ، ومن أهمِّ النصح .." الخ.
وقال الشيخ العباد -حفظه الله تعالى-: "وكذلك من طريقة أهل السنة والجماعة: الدعاءُ للولاةِ، وعدمُ الدعاءِ عليهم، وعلامةُ أهلِ السنةِ أنهم يدعون للولاة، وعلامةُ أهلِ البدعِ أنهم يدعون على الولاة".
ومن حِفاظِ هذه الدعوةِ الطيبةِ المباركةِ على الترابطِ الأُسريِّ: جَعلَت في سُلَّمِ الأولويَّات طاعةَ الآباءِ وكبارِ الإخوةِ والأقارب، فحبُّهم وطاعتُهم من منهج هذه الدعوةِ المباركة؛ دعوةِ الإسلام، من عقَّ والديه أو أحدَهما فهو في سلفيته كاذب، ويحلُم أنه سلفيٌّ من بات وأحدُهما أو كلاهما عليه غاضب، ولو كان الوالدان كافرَين، أو مشركَين أو مبتدعَين؛ فواجب علينا مصاحبتها في الدنيا معروفا، ولا نطيعهما في مخالفة الدين، قال سبحانه: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [لقمان: 15].
وعَنْ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ، فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، إِلاَّ أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلا سَمْعَ وَلا طَاعَةَ" [مسلم].
وعَنْ عَلِيٍّ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ".. لا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ" [متفق عليه].
وكذلك من هو أكبر منك من إخوانك وأقاربك: طاعتُهم في المعروف، فاحترامُ كبارِ الإخوةِ والأقاربِ، وحُسْنُ معاملتهم من أهم مقومات هذه الدعوة، وانظر نفسك أين أنت مما ورد عن أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ؟ قَالَ: "أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أَبُوكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ" [مسلم].
وما ورد عن طارق المحاربي -رضي الله عنه- مرفوعا: "ابدأْ بمنْ تعولُ؛ أُمَّكَ وَأَبَاكَ، وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ فَأَدْنَاكَ" [رواه النسائي، وحسنه في إرواء الغليل (2171) و(1400) في صحيح الجامع].
خالف نبيَّك؛ ثم ادَّعِ أنك سلفيٌّ وعلى المنهج! فوا عجباه!.
* وللترابطِ الاجتماعيِّ؛ لم تُهمِل الدعوةُ دورَ الوجهاءِ وعِلْيَةِ القومِ ممَّن لهم تأثيرٌ في المجتمع، بل حافظت على كبارِ العائلاتِ والقبائلِ ومسئوليها، والمخاتيرِ والوجهاءِ ورجالِ الإصلاحِ، فهؤلاء لهم كلمتُهم المسموعةُ، ولهم مكانتُهم بين أهليهم وذويهم، وإقصاؤهم وإبعادُهم عن معتركِهم في المجتمعِ يؤدي إلى خَلْخلةٍ في القيَمِ، وزَلْزلةٍ في بُنيانِ المجتمعِ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا".
وفي رواية: "ويجلّ كبيرَنا".
وفي رواية: "ويوقِّر كبيرَنا".
وفي رواية: "إنَّ من إجلالِ اللهِ إكرامَ ذي الشيبةِ المسلمِ" [انظر: صحيح الأدب المفرد].
وفي رواية: "ويعرف شرفَ كبيرِنا".
فليس من أهل الدعوة السليمة الصحيحة؛ من خالفَ ذلك، وأهانَ من أُمِرْنا بتوقيرِه وتبجيلِه، وتشريفِه ومعرفةِ حقه.
إنَّ الكبارَ لهم من التجرِبة والمعرفةِ ما ليس للصغار، حيث صهرتهم الحياةُ، وامتحنتْهُم التجارِب، وعاصروا من لم يعاصرْهم الصغار، فليس من منهج الصحابة والتابعين الحطُّ من أقدارِ هؤلاء واحتقارُهم، أو التشنيعُ عليهم، فبهم تجتمعُ كلمةُ العائلاتِ، وعلى أيديهم تفضُّ الخصومات، وهم الواسطةُ والشفعاءُ بين أفراد المجتمع مع بعضِهم؛ وبين الأفرادِ وأولياءِ الأمورِ لقضاء الحاجاتٍ، التي لا تُنالُ إلا بواسطتهم وجهودِهم، فإهمالُهم تحطيمٌ للمجتمع، وتدميرٌ للأمَّة، وإشاعةٌ للفوضى، ولا يمكن البتةَ أن يحُلَّ محلَّهم أيُّ حزبٍ أو تنظيمٍ، أو فصيلٍ أو حركةٍ، حتى الحكومةِ والشرطةِ ترجعُ إليهم في الإصلاحاتِ العشائرية، وفض الخصومات العائلية.
وهذا ما لا يخالف منهجَ سلفِ الأمَّة، بل تحضُّ عليه الدعوةُ الحقَّةُ، التي هي بالكتاب والسنة مدعومة، لا الدعوةُ المدَّعاةُ المزعومةُ الموهومةُ.
الخطبة الثانية:
والخلاصة: أنَّ من أرادَ الدعوةَ الصحيحةَ السليمةَ؛ يجدْها في دعوةِ الإسلام، دعوةِ السلف الصالح، ممن شهد لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالخيرية في القرون المفضلة، ومن سار على هديهم إلى يوم الدين، في التوحيد والعبادة، والمعاملة والسلوك، ونبْذِ البدعِ وأهلِها، من خوارجَ وروافضَ ومرجئةٍ وقدريةٍ.
قال البربهاري في شرح السنة: "فمن قدَّم أبا بكر وعمرَ، وعثمانَ وعليا على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يتكلَّمْ في الباقين إلا بخير، ودعا لهم؛ فقد خرج من التشيُّعِ أوَّلِه وآخرِه.
ومن قال: الإيمانُ قولٌ وعملٌ، يزيدُ وينقصُ؛ فقد خرج من الإرجاء أولِه وآخرِه.
ومن قال: الصلاةُ خلفَ كلِّ بَرٍّ وفاجرٍ، والجهادُ معَ كلِّ خليفةٍ، ولم يَرَ الخروجَ على السلطانِ بالسيفِ، ودعا لهم بالصلاحِ؛ فقد خرجَ منْ قولِ الخوارجِ أولِّه وآخرِه.
ومن قال: "المقاديرُ كلُّها من الله -عز وجلَّ-، خيرُها وشرُّها، يُضِلُّ من يشاءُ ويَهدي من يشاءُ؛ فقد خرجَ من قولِ القدريةِ أولِه وآخره، وهو صاحبُ سنة".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
التعليقات