عناصر الخطبة
1/مجازاة العباد على أعمالهم يوم القيامة 2/أسرار تخصيص يوم الدين بالذكر 3/الملك الحقيقي لله وحده 4/تفرد الله بالملك والعظمة والهيمنة يوم القيامةاقتباس
الله -تعالى- وحده مالِكُ يوم الدِّين، ومالِك الدنيا؛ ولكنْ ظهور ملكوتِه، ومُلكِه، وسلطانِه، إنما يكون في ذلك اليوم العظيم، فلا يستطيع أحدٌ أنْ يدَّعي المُلْكَ يومَ الدِّين؛ لأنه المالِكُ لخزائن السموات والأرض، بيده الخير، يرزق مَنْ يشاء، وهو المالك للموت والحياة والنشور، والنفعِ والضُّر، وإليه يُرجع الأمرُ كلُّه، فهو...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: يُجازي اللهُ -تعالى- عِبادَه على أعمالهم في يوم الدِّين سواء كانت خيراً أو شراً؛ لأنه مالِكُ يومِ الدِّين، قال سبحانه: (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ)[النور: 25] أي: جزاءَ أعمالِهم بالعدل والحساب على تلك الأعمال. ومنه قول الكافرين: (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ)[الصافات: 53] أي: مَجْزِيُّون ومُحاسَبون! ومنه قوله تعالى: (فَلَوْلاَ إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ)[الواقعة: 86] أي: غيرَ مَجْزِيِّين بأعمالكم ومُحاسَبين عليها.
عباد الله: الله -سبحانه وتعالى- هو مالِكُ المُلك، ومالِكُ الدنيا، ومالِكُ يومِ الدِّين؛ وقد خُصِّص يومُ الدِّين بالذِّكر في قوله تعالى: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)[الفاتحة: 4]؛ لتعظِيمِه وتهويله، فالإضافة أحياناً تكون للتعظيم والتشريف؛ كما قال سبحانه في شأن ناقةِ صالح -عليه السلام-: (هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ)[الأعراف: 73] مع أنَّ كلَّ النُّوقِ خَلَقَها اللهُ -تعالى-، وكقوله: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ)[الجن: 18] مع أنَّ الأرضَ كُلَّها لله.
وخُصِّصَ يوم الدِّين بالذِّكر؛ لبيان تفرُّدِ الله -تعالى- بإجراء الأمر، وفَصْلِ القضاءِ فيه، فلا يدَّعي أحدٌ هنالك شيئاً، ولا يتكلَّمُ أحدٌ إلاَّ بإذنه، فقد كان هنا في الدنيا مَنْ يدَّعي المُنازعةَ له سبحانه في المُلك؛ كفرعون ونَمرود، وغيرهما، وفي ذلك اليوم العظيم لا يُنازِعه أحدٌ البتَّة في مُلكه، ولا يتكلَّم أحدٌ إلاَّ بإذنه، قال سبحانه: (لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)؟ (لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)[غافر: 16]، وقال سبحانه: (وَخَشَعَتْ الأَصْوَاتُ لِلْرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا)[طه: 108]، وقال تعالى: (يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ)[هود: 105].
ومما يؤكِّد مُلْكَه سبحانه وتعالى يومَ الدِّين، مَجيءُ الآيةِ الكريمة بقراءتين مشهورتين: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (مَلِكِ يوْمِ الدِّينِ)، وكلاهما قراءةٌ مُعتمدة، ذَكَرَها القُرَّاءُ والمفسرون.
فأمَّا توجيهُ قراءةِ (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ)؛ لأنَّ المُلْكَ لله -تعالى-: "يومَ الدِّين خالصًا دون جميع خَلقِه، الذين كان بعضُهم في الدنيا مُلوكًا جبابرة يُنازعونه المُلك، ويُدافعونه الانفرادَ بالكبرياءِ والعظمة، والسلطانِ والجبروت. فأيقنوا بلقاءِ اللهِ يومَ الدِّين أنهم الصَّغَرةُ الأذِلَّة، وأنَّ له -من دُونهم ودونِ غيرِهم- المُلكَ والكبرياءَ، والعِزَّةَ والبَهاءَ؛ كما قال جلَّ ذِكرُه وتقدَّست أسماؤه في تنزيله: (يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)[غافر: 16] فأخبر تعالى ذكره أنه المُنفرد يومئذ بالمُلك دون ملوك الدنيا.
وأمَّا توجيهُ قراءةِ (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)؛ لأنه لا يملك أحدٌ في ذلك اليومِ معه حُكماً كَمُلكِهم في الدنيا.
وقد ورد اسمُ اللهِ "المَلِك" خمسَ مرات في القرآن؛ منها قوله تعالى: (فَ تعالى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ)[طه: 114]؛ وقوله: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ)[الحشر: 23]؛ وقوله تعالى: (مَلِكِ النَّاسِ)[الناس: 2].
وأمَّا اسمُ اللهِ "المالِك" فقد ورد مرتين: في قوله تعالى: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)؛ وقوله سبحانه: (قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ)[آل عمران: 28].
أيها المسلمون: إنَّ المُلك الحقيقي لله -تعالى- وحده، لا يُشرِكه فيه أحد، وكلُّ مَنْ مَلَكَ شيئاً؛ فإنما هو بتمليك الله له؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ مَالِكَ إِلاَّ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-"(رواه مسلم)، وفي رواية: "لاَ مَلِكَ إِلاَّ اللَّهُ"(رواه مسلم)، بل قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَلِكُ الأَمْلاكِ، لاَ مَلِكَ إِلاَّ اللَّهُ"(صحيح، رواه أحمد في "المسند")، "وإنما اشتدَّ غضبُه عليه؛ لِمُنازعته لله في ربوبيته وألوهيته، فهو حقيق بأنْ يَمْقُتَه عليه، فيُهِينه غايةَ الهوان، ويُذِلُّه غاية الذُّل، ويجعلُه تحت أقدام خَلقِه؛ لجرأته، وعدمِ حيائه في تشبُّهِه به في الاسم الذي لا ينبغي إلاَّ له، فهو مَلِكُ المُلوك وحده، حاكِمُ الحُكَّام وحده، فهو الذي يَحكم عليهم كُلِّهم لا غيرُه"؛ كما قال سبحانه: (قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ)[آل عمران: 26]..
وقد يُسمَّى بعضُ المخلوقين مَلِكاً؛ إذا اتَّسع مُلكُه، إلاَّ أنَّ الذي يستحقُّ هذا الاسم حقيقةً هو اللهُ -تعالى-؛ مالِكُ المُلك، فهو الذي وهَبَ المُلكَ للملوك والسلاطين، وليس ذلك لأحدٍ غيرَه، يُؤتي الملكَ مَنْ يشاء، وينزع المُلكَ ممَّن يشاء، ويُعزُّ مَنْ يشاء ويُذِلُّ مَنْ يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير.
فكل المخلوقات لا تملِكُ شيئاً على وجه الحقيقة؛ لذا أنكر الله -تعالى- على المشركين الذي عبدوا هذه المخلوقات، وهي لا تُملك شيئاً: (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)]المائدة: 76]؛ وقال سبحانه: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنْ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ)]النحل: 73]؛ وقال سبحانه: (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ)[فاطر: 13].
ومن الناس مَنْ يطغى ويظنُّ أنه المالِك الحقيقي؛ وينسى أنه مُستخلَف فيما آتاه اللهُ -تعالى- من مُلْكٍ وجاهٍ وعقارٍ ومالٍ؛ كما قال سبحانه: (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ)[الحديد: 7]، ولذلك نرى مَنْ يتكبَّر ويتجبَّر ويظلم الناسَ بغير حق؛ كحال فرعون الذي نسى نفسَه وضعفَها وزعم لنفسِه المُلكَ؛ بل الألوهية، قال تعالى: (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلاَ تُبْصِرُونَ)[الزخرف: 51]؛ وقال سبحانه: (فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى)[النازعات: 23-24].
فلمَّا دعا قومَه إلى هذه الضلالة الكبرى، واستجابوا له؛ عاقبَهم اللهُ جميعاً: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ * فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ)[الزخرف: 54-56].
فالله -تعالى- وحده مالِكُ يوم الدِّين، ومالِك الدنيا؛ ولكنْ ظهور ملكوتِه، ومُلكِه، وسلطانِه، إنما يكون في ذلك اليوم العظيم، فلا يستطيع أحدٌ أنْ يدَّعي المُلْكَ يومَ الدِّين؛ لأنه المالِكُ لخزائن السموات والأرض، بيده الخير، يرزق مَنْ يشاء، وهو المالك للموت والحياة والنشور، والنفعِ والضُّر، وإليه يُرجع الأمرُ كلُّه، فهو المالك لجميع الممالك العلوية والسفلية، وجميعُ مَنْ فيها مماليكُ لله، فقراءُ مُدَبَّرون.
وإذا كان المُلك المُطلق إنما هو لله وحده لا شريك له؛ فالطاعةُ المُطلقة إنما هي له وحده لا شريك له، وأمَّا غيرُه من الملوك والرؤساء والمدراء والمُتنفِّذين فطاعتهم مُقيَّدة بطاعة الله -تعالى-.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ...
أيها المسلمون: إنَّ الله -تبارك وتعالى- هو مالِكُ يومِ الدِّين ومَلِكُه؛ كما قال تعالى: (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ)[الأنعام: 73]، وقال سبحانه: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ)[الحج: 56]، ويؤيده قول النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "يَقْبِضُ اللَّهُ الأَرْضَ، وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الأَرْضِ؟"(رواه البخاري ومسلم)، وقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "يَطْوِي اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- السَّمَوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟ ثُمَّ يَطْوِي الأَرَضِينَ بِشِمَالِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ"؟(رواه مسلم) فلا يُجيبه أحدٌ من طُغاةِ الأرضِ وفَراعِنتِها؛ لأنهم خاشعون صامتون خائفون (وَخَشَعَتْ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا)[طه: 108].
فالله -تبارك وتعالى- هو المَلِكُ المُتفرِّدُ بالمُلْكِ يوم القيامة؛ فهو "مَلِكٌ لا يُشبِه سائِرَ الملوك؛ لأنهم إنْ تصدَّقوا بشيءٍ انْتَقَص مُلْكُهم، وقَلَّتْ خزائنُهم. أما الحقُّ -سبحانه وتعالى- فَمُلْكه لا ينتقص بالعطاء والإحسان، بل يزداد؛ لأنه تبارك وتعالى إذا أعطاكَ ولداً واحداً لم يتوجَّه حُكْمُه إلاَّ على ذلك الولد الواحد، أمَّا لو أعطاك عشرةً من الأولاد كان حُكْمُه وتَكْليفُه لازماً على الكل، فثَبَتَ أنه -تعالى- كُلَّما كان أكثرَ عطاءً؛ كان أوسَعَ مُلْكاً"، فهذا من أهم الفُروق بين مُلْكِ اللهِ -تعالى- ومُلْكِ البشر؛ فمُلْكُ الله -تعالى- لا يَنْقُص أبداً؛ بل يزداد بالعطاء والإحسان.
ومن أهم الفوائد المستنبطة من قوله تعالى: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) إثباتُ مُلْكِ اللهِ -عزَّ وجلَّ-، ومَلكوتِه يومَ الدِّين، ففي ذلك اليوم تتلاشى جميع المُلكِيَّات، والملوك.
وفي الآية: إثبات البعث والجزاء، وحثٌّ للإنسان على أنْ يعمل لذلك اليوم الذي يُدان فيه العاملون"؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُرَاةً غُرْلاً (ير مختونين) بُهْمًا" (ليس فيهم شيء من العاهات والأعراض التي تكون في الدنيا؛ كالعمى والعور والعرج وغير ذلك. وقيل: ليس معهم شيء) "قال: قُلْنَا: وَمَا بُهْمًا؟ قَالَ: "لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الدَّيَّانُ، وَلاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ؛ وَلَهُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَقٌّ حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ. وَلاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ؛ وَلأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عِنْدَهُ حَقٌّ حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ، حَتَّى اللَّطْمَةُ" قَالَ: قُلْنَا: كَيْفَ وَإِنَّا إِنَّمَا نَأْتِي اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- عُرَاةً غُرْلاً بُهْمًا؟ قَالَ: "بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ"(صحيح، رواه أحمد في المسند"، والبخاري مختصراً).
التعليقات