عناصر الخطبة
1/ معاناة البشرية قديما وحديثا من الطغاة الأنانيين المستبدين 2/ دروس مستفادة من آيات كريمة في إهلاك الظلمة 3/ تحذير الظالمين من عقاب الآخرة الأشداهداف الخطبة
اقتباس
تشهد الأرض بمختلف بقاعها وبلدانها ومجتمعاتها، كما يشهد تاريخ البشرية بكل عصوره، هلاك أناس من عالم البشر جسدا ولكنهم ليسوا من عالم البشر قلبا وعقلا وعقيدة وإنسانية، إنهم أناس لا يذكرهم التاريخ إلا مع ذكر الدماء والمذابح والمجازر، ولا يذكر لهم الناس وصفا إلا وصف العدوانية والشيطانية والظلامية والبطش والقمع والكره للحق، ولا تعرف لهم الحضارة فضلا إلا بحثهم عن المجد لذواتهم، والثراء لأنفسهم، فمَن هم هؤلاء؟ ..
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله.
وبعد:
أيها المؤمنون: تشهد الأرض بمختلف بقاعها وبلدانها ومجتمعاتها، كما يشهد تاريخ البشرية بكل عصوره، هلاك أناس من عالم البشر جسدا ولكنهم ليسوا من عالم البشر قلبا وعقلا وعقيدة وإنسانية، إنهم أناس لا يذكرهم التاريخ إلا مع ذكر الدماء والمذابح والمجازر، ولا يذكر لهم الناس وصفا إلا وصف العدوانية والشيطانية والظلامية والبطش والقمع والكره للحق، ولا تعرف لهم الحضارة فضلا إلا بحثهم عن المجد لذواتهم، والثراء لأنفسهم، فمَن هم هؤلاء؟.
إنهم الطغاة في الأرض، والظلَمة للخَلق، والقتَلة لبني البشر؛ ولقد عانت البشرية من هؤلاء قديما وحديثا، وذاقت من هؤلاء الويلات، وما يتمنى الناس الذين يعاصرونهم شيئا كما يتمنون زوالهم، ولا يرجون أمرا كما يرجون أن يروا في هؤلاء الطغاة يوما عبوسا قمطريرا.
وكما شهد تاريخ البشرية وحاضرها ظهور طُغاة عُتاة ظلَمة، سواء من الأمة المسلمة أو من الأمم الكافرة، شهد كذلك هلاكهم وزوالهم بنهايات مأساوية هي أقل ما يستحقونه.
ويحفل التاريخ بشخوص مظلمة من هؤلاء، وأسماء منكرة يعرفها فقراء كل زمان، وروّاد كل حضارة، ودعاة كل عصر، ومصلحو كل جيل؛ لأنهم الأكثر معاناة من نار هؤلاء الطغاة والظلَمة.
وكان لأمتنا الإسلامية، وبخاصة في زماننا هذا، حظٌّ لا بأس به من أمثال هؤلاء، والذين مَنَّ اللهُ على أهله أن يشاهدوا فيه هلاك بعض هؤلاء الطغاة الفجَرة وجنودهم وزوال ملكهم واندثار شخوصهم ونهايتهم بنهايات مأساوية، ذاقوا فيها شيئا يسيرا مما جرعوه للآلاف من أبناء الأمة المستضعفة.
ودعونا -أيها الأخوة المؤمنون- في هذه الخطبة أن نلقي السمع إلى طائفة من آيات ربنا العزيز الحكيم وهو يخاطب بها عباده بعد هلاك الطغاة الظلمة. فماذا يقول ربنا لعباده عند هلاك الطغاة، وبعد نقض أمرهم، وتدمير ملكهم، وتنكيس رايتهم؟.
أولا: التفكّر في مصير الطغاة بعد هلاكهم: يأمرك الله -أيها الإنسان- أن تتفكر في عاقبة الظالمين، يقول الله تعالى: (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) [يونس:39]، ولكن من هم الظالمون؟ من هم الطغاة الظلَمة في ميزان القرآن الكريم؟.
الطغاةُ الظلمةُ هُم المعادون لدعوة الله في الأرض، إنهم أولئك الذين قال الله عنهم: (ألا لعنة الله على الظالمين * الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً) [الأعراف:44-45].
إنهم الذين يجعلون الحق باطلا والباطل حقا، إنهم الذين يقفون في طريق الدعوة الإسلامية، وفي طريق الدعاة، إنهم الذين يشرِّعون الباطل ويدعون الناس إليه، قال ابن كثير: (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا)، أي: يصدُّون الناسَ عن اتِّباع سبيل الله وشرعه، وما جاءت به الأنبياء، ويبغون أن تكون السبيل معوجة غير مستقيمة، حتى لا يتبعها أحد. اه.
الطغاةُ الظلَمةُ هم المجرمون القتَلة الذين يستضعفون عباد الله ويسومونهم سوء العذاب، إنهم أولئك الذين قال الله عنهم: (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِين) [الأعراف: 84].
الطغاةُ الظلَمةُ هم المفسدون الذين يعطِّلون منهج الله عن العمل، وينشرون السوء والمنكر ويأكلون أموال الأمة، ويتمتعون بثرواتهم، أولئك الذين قال الله عنهم: (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) [الأعراف:103].
الطغاةُ الظلَمةُ هم الكذّابون الدجّالون، الذين يزوّرون الحقائق، ويجمّلون البهتان، أولئك الذين قال الله عنهم: (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [الزخرف:25]، (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ)، انظر وتأمل واعتبر يا مَن ما زلت على ظلمك وجبروتك وطغيانك وغرورك، (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأرْضِ) [غافر:82].
فكم سبقك مِن الطُّغاة الظلَمة الذين كانت عاقبتهم مُشينةً مخزية، فهلاّ اعتبرت بهم قبل أن تدور الدائرة عليك! (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ)، انظر -أيها المؤمن- إلى مصير الظلَمة والطغاة، انظر لِتَرَ وعْدَ الله لحمَلةِ دعوته وصدق الله مع عباده المستضعفين، انظر وتأمّل وتفكر لتشاهد نصر الله المبين.
ثانيا: مشاهدة قدرة الله في إهلاك الطغاة الظلمة: فالله هو مَن يهلك الطغاة والظلَمة بما يشاء من الأسباب، قال سبحانه: (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) [إبراهيم:13]؛ ليعرف الخلق قوة الله الجبَّارة، ليفهم الطاغية الذي يستكبر بقوته، ويغتر بأمنه، وينسى قوة الله التي هي أعظم وأشد من قوته، قال تعالى: (وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) [فصلت:15]؟ فهو -سبحانه- الذي يدمرهم بقوَّته، ويهلكهم بجبروته؛ فتصبح حالهم يرثى لها، كما قال تعالى: (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا) [النمل:52].
ليقتنع هؤلاء أنّ الله العظيم حينما يقول: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) [الشعراء:227]، فكلامه حق وكائن لا محالة، ولو تأخر شيئا قليلا أو طويلا لحكمة يريدها الحق سبحانه: (وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدَاً) [الكهف:59].
ليشاهد المؤمن حينما يرى إهلاك الله للطغاة ملك الله الحقيقي الذي لا يزول، وصِدْقَ قوله -سبحانه- حينما يقول: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء) [آل عمران:26].
ليعلم الخلق جميعا أن هناك ربا هو رب السموات ورب هذه الأرض، يتصرف فيهما بإرادته المطلقة، وحكمته العجيبة، قال الله تعالى: (إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف:128].
فيا من تظلِم، ويلك من رب منتقم من الظالمين والطغاة! وويلك ثم ويلك من دعوة المظلوم فهي -والله!- كفيلة أن تزيل المنصب، وتثلّ العرش، وتضعف القوي، وتفرق الأسرة، وتشتت الإمرة، وتهدم البيوت، وتشل الأجساد! تلك الدعوة التي حذّر منها الرسول -صلى الله عليه وسلم-: دعوة المظلوم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب"، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اتقوا دعوة المظلوم؛ فإنها تحمل على الغمام، يقول الله -عز وجل-: وعِزَّتِي وجَلَالي لأنْصُرَنَّكَ! ولو بعد حين".
ثالثاً: حَمْدُك لله إذ أهلك الطغاة الظلمة: قال الله لعباده ماذا يفعلون حينما يهلك الطغاة والظلمة، قال الله تعالى: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام:45]، أن يحمدوه إذا ما خلصهم من الطاغية والظالم وجنوده، (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، أي: آخرهم كما قال غير واحد من اهل التفسير، والمراد أنهم استؤصلوا ولم يبق منهم أحد، (والحمد للَّهِ رَبّ العالمين) على ما جرى عليهم من النكال والإهلاك.
إنه الحمد على تخليص أهل الأرض من عقائدهم الفاسدة، وأعمالهم الخبيثة، فهي نعمة جليلة يستحق ربنا أن يحمد عليها، وهذا مِنه تعالى تعليم للعباد أن يحمدوه على مثل ذلك.
إنه الحمد على شفاء الله صدور المظلومين والمقهورين، قال تعالى: (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) [التوبة:14]، يشف تلك الصدور التي طالما ضاقت وحشْرجت وأزّت وأخْتنقت فما وجدت من يوسعها، يشف صدور أمهاتٍ بكت لموت أطفالها، وآباء نحبوا لفقد أولادهم، وزوجات نشفت دموعهن لفراق أزواجهن، (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، فلك الحمد يا رب على هلاك كل طاغية وكل ظالم وكل مستبد.
رابعا: دعاؤك الله ألا تكون من أنصار الطغاة الظلمة: أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وهو أمر لكل مؤمن، أن لا يجعله في زمرة الظالمين الهالكين، فقال -سبحانه-: (قلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ * رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) [المؤمنون:93-94]، قال أهل التفسير: يقول تعالى آمرًا نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أن يدعو هذا الدعاء عند حلول النقم: (رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ)، أي: عاقبتَهم، وإني شاهدٌ ذلك فلا تجعلني فيهم. اه.
فيا ويْلَ من يناصر الطغاة! ويا ويل من يقاتل معهم! ويا ويل من يُقتل معهم ولأجلهم! فإن الله جمع في وعيده بين الطاغية وجنوده، وأنصاره وأعوانه، فقال سبحانه: (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) [القصص:40].
ولذلك حذّرك الله -أيها المؤمن- أن تكون نصيرا للظلم وللطغيان، وللظالمين وللطغاة، خشية أن يَمَسَّكَ عذاب من الله في آخرتك، فقال سبحانه: (ولا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) [هود:113].
قال السعدي: (وَلا تَرْكَنُوا) أي: لا تميلوا، (إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) فإنكم، إذا ملتم إليهم، ووافقتموهم على ظلمهم، أو رضيتم ما هم عليه من الظلم، (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) إن فعلتم ذلك، (وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ) يمنعونكم من عذاب الله، ولا يحصلون لكم شيئا، من ثواب الله، (ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) أي: لا يدفع عنكم العذاب إذا مسَّكُم، ففي هذه الآية: التحذير من الركون إلى كل ظالم، والمراد بالركون: الميل والانضمام إليه بظلمه وموافقته على ذلك، والرضا بما هو عليه من الظلم.
وإذا كان هذا الوعيد في الركون إلى الظلمة، فكيف حال الظلمة بأنفسهم؟! نسأل الله العافية من الظلم. اه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
أيها الطغاة الظلمة، ويْلَكُمْ من الآخرة! وجَّهَ اللهُ وعيدَهُ لكل طاغيةٍ وظالمٍ بأن عذابا في الآخرة ينتظره سواء أفْلَت من عذاب الدنيا أم لم يفلِت، فقال ربنا العزيز -سبحانه-: (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [غافر:52]، وقال -سبحانه-: (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابَاً كَبِيرَاً) [الفرقان:19].
ومهما لقي الطاغية في دنياه من خزي، ومهما واجه من سوء المصير، فما ينتظره في الآخرة أعظم بكثير، قال الله العزيز -سبحانه-: (لهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ) [الرعد:34]، وقال سبحانه: (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) [طه:127]، وقال -سبحانه-: (لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى) [فصلت:16]، وقال -سبحانه-: (كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [القلم:33].
كُلّ هذا ليرتدع الظالم عن ظلمه، وليتوقف الطاغية عن طغيانه، وليرجع المستبد عن استبداده قبل أن يقع في حفرة البرزخ، فعندها لن يفلت من عذاب شديد وشاق وكبير ودائم.
اللهم اجعل أعمالنا صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحد فيها شيئا يا رب العالمين.
التعليقات