اقتباس
وقد وجدت هذه السلطة مع الدولة الإسلامية في جميع عصورها، بدء من عصر النبوة على يد النبي- صلى الله عليه وسلم -، حيث كان أول قاض في الإسلام، وقضاؤه ملزما، لكونه يجمع بين صفة المشرع، وصفة القاضي، وبالتالي لا يمكن الخروج أو الاعتراض على قضائه،
تكلمنا في الجزء الأول من مؤسسات النظام الإسلامي عن مؤسسة " أهل الحل والعقد " وقد توقفنا عند الحديث عن دورهم ومسئولياتهم وأعمالهم.
فإن الغاية من وجود مؤسسات النظام السياسي في الإسلام ومنها مؤسسة أهل الحل والعقد ضمان تطبيق المشروع الإسلامي وتنفيذه عمليا على أرض الواقع، وتحويل الأسس والمبادئ والنظريات السياسية في الإسلام، إلى حقائق مطبقة وملموسة ومترجمة في هيئة قرارات ومشروعات وخطط وبرامج. وتعد وظيفة أهل الحل والعقد جزءا من مجموع الوظائف العامة التي يقوم بها جهاز الحكم في الإسلام، وعلى رأسها إقامة حكم الله عز وجل، وتطبيق شريعته، وحراسة الدين، وسياسة الناس بهذا الدين، بما يحقق مصالح الناس، ويدرء عنهم المفاسد، سواء فيما يتعلق بأمور الدين أم الدنيا.
كتب الفقه القديمة التي تحدثت عن السياسة الشرعية لم تذكر لأهل الحل والعقد سوى مهمة واحدة، وهي مهمة التولية والعزل فقط، وذلك لأن الحديث عنهم كان في ثنايا الكلام عن طرق انعقاد الإمامة، والحق أنه ليس ثمة دليل واحد البتة يحصر دور أهل الحل والعقد في التولية والعزل فحسب، بل إن طبيعة هذه المؤسسة الهامة وكيفية تكوينها ومكانة وصفات ومؤهلات الأعضاء المشاركين فيها، كل ذلك يجعل من دور هذه الهيئة أكبر وأعم وأشمل من دور التولية والعزل، وإن كان هذا الدور هو الأهم والأخطر لمؤسسة الحل والعقد.
فبالنظر لمستجدات العصر، واتساع الدول والكثافة السكانية، والتغييرات الواسعة التي طرأت على الصلاحيات والمسئوليات لكل من الحاكم والمحكومين ومؤسسات الحكم والتنفيذ، حيث لم يعد الحاكم أو الإمام منوطا بمفرده في وضع السياسات وتنفيذها، بل صار يمارس صلاحياته من خلال مؤسسات وهيئات معاونة لها جزء من صلاحياته ومهامه، وبالتالي يتضح لنا أن حصر دور أهل الحل والعقد في دور التولية والعزل، هو تحجير غير لائق على مؤسسات الدولة، وذوي الكفاءة والمهارة والتخصص، من ممارسة النفع العام في وقت تحتاج فيه الأمة لجهود كل مخلص فيها.
ومن أهم الوظائف المستجدة على عمل مؤسسة أهل الحل والعقد؛ وظيفة المتابعة والرقابة والتقييم لأعمال الحاكم ومؤسساته التنفيذية، وذلك بغرض الحفاظ على التزام الحاكم بقواعد الشرع والعدل عند ممارسته لسلطاته السياسية. هذه المهمة لها أسانيدها الشرعية الكثيرة من الكتاب والسنة، خاصة تلك المتعلقة بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالحفاظ على شرعية النظام الحاكم والتزامه بالشرع من أعظم الأمور ومن أجلى المعروف، وأهل الحل والعقد، بصفاتهم المذكورة سلفا، هم أليق فئة تناط بها مهام الحسبة في النظام السياسي، حيث يمكنهم متابعة ومراقبة أداء وكلاء الحاكم والإمام من الوزراء والمسئولين والمحافظين، لضمان التزامهم بالشريعة، كما يمكنهم أيضا متابعة التشريعات واللوائح والتنظيمات التي يصدرها الحاكم، ومتابعة الاتفاقيات والمواثيق والعلاقات الخارجية والدولية، وتقيين آثارها على الداخل، والمشاركة في صنع القرارات الخطيرة والمصيرية مثل قرارات الحرب والسلم، بالجملة فإن أهل الحل والعقد يقع على عاتقهم مسئولية الرقابة على أعمال الحكومة. هذا بالإضافة إلى دورهم الأصلي المنصوص عليه في كتب السياسة الشرعية؛ وهو كونهم أهل شورى الحاكم، حيث يجب على الحاكم مشورتهم وسماع آرائهم في القضايا العامة والنوازل والمستجدات.
وهنا يبرز تساؤل هام؛ ما هو الدور الذي تؤديه مؤسسة أهل الحل والعقد في حالة خلو الزمان من إمام لأي عارض من العوارض ؟
فقد يحدث خلو لمنصب الحاكم أو الإمام لعوارض كثيرة، منها الموت أو الاغتيال، أو الإقالة والعزل، أو الانقلاب السياسي أو العسكري، ومعروف أن خلو هذا المنصب الخطير يؤدي لشرور عريضة وفتن مستطيرة، قد تنشأ معها حروب طاحنة، كما من الممكن أن يخلو المنصب معنويا لا فعليا، وذلك في حالة تهاون الإمام والحاكم بقواعد العدل والشرع، فيفشو الظلم وتنتهك الحرمات وتعم الفوضى، ففي مثل هذه الحالات لابد لأهل الحل والعقد، وخاصة العلماء منهم أن يقودوا الأمة للخروج بها من أزمتها، قال إمام الحرمين؛ الإمام الجويني رحمه الله في كتابه "غياث الأمم ": " فإذا شغر الزمان عن الإمام، وخلا عن سلطان ذي نجدة وكفاية ودراية، فالأمور موكولة إلى العلماء، وحق على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم، ويصدروا في جميع الولايات عن رأيهم، فإن فعلوا ذلك، فقد اهتدوا إلى سواء السبيل، وصار علماء البلاد ولاة العباد، فإن عسر جمعهم على واحد، استبد أهل كل صقع وناحية باتباع عالمهم ". وليس معنى كلام الجويني أن يلغى أو يهمش دور باقي أعضاء مجلس الحل والعقد لصالح العلماء والفقهاء فحسب، ولكنه يبرز الجانب الذي يتحمل المسئولية بصورة أكبر من غيره.
وقد اتفق أهل العلم على مجموعة من الوظائف لأهل الحل والعقد عند خلو الزمان من الإمام منها: الوظائف العلمية مما يقوم بها صيانة الدين وحفظه، وإرشاد الناس وتوجيههم خاصة في أوقات النوازل والمهمات الكبرى، ومنها أيضا الوظائف الاجتماعية والسياسية وعلى رأسها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال الإمام الشوكاني في السيل الجرار: " فإذا قام بذلك ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ الإمام فهو رأس الأمة، وصاحب الولاية العامة، وكان قيامه مسقطا للوجوب على غيره، وإن لم يقم فالخطاب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باق على كل مكلف يقدر على ذلك، والعلماء والرؤساء لهم مزيد خصوصية في هذا؛ لأنهم رؤوس الناس والمميزون بينهم بعلو القدر ورفعة الشأن ".
ومن الوظائف أيضا الإصلاح بين المتنازعين خاصة في أوقات الفتن والأزمات وشيوع النزاعات وكثرة المؤامرات، ومن ذلك أيضا المحافظة على كيان الأمة وأمنها، وذلك بحراسة حدودها وثغورها من تهديدات الأعداء الخارجيين، وحراسة الداخل من المفسدين، ومن ذلك تسيير إدارة شئون الدولة المناط بها مصالح الأمة من الوزارات والهيئات الخدمية والمدنية.
وهنا أيضا يثور تساؤل آخر، وهو ما يتعلق بإقامة الحدود، وتوقيع العقوبات، هل يجوز لأهل الحل والعقد مباشرة هذا الدور عند خلو الزمان من إمام وحاكم ؟
اختلف أهل العلم في هذه المهمة تحديدا إلى قولين:
القول الأول: المنع، فقد ذهب جمهور العلماء من الأحناف والمالكية والمختار عند الشافعية، والراجح عند الحنابلة إلى أن الحدود لا يقيمها إلا الإمام ونوابه فقط، وليس لآحاد الرعية بما فيهم أهل الحل والعقد أن يقيموها حتى لو خلا الزمان من إمام. وقد استدلوا على ذلك بعدة أمور منها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي كان يقيم الحدود في حياته، ولم يكن غيره يقيمها، وكذلك خلفاؤه الراشدون ساروا على نهجه، فلم يكن يسمح لأحد أن يستوفي الحد بنفسه. ومن جهة المعقول، أنه لو جعل للناس استيفاء مالهم من حدود أو تعزيزات؛ لأدى إلى تعدي الناس بعضهم على بعض، وادعائهم استيفائهم حقوقهم، وفتح باب شر وفتنة كبير، كما أن فلسفة الزجر في الحدود مرتبطة ارتباطا وثيقا بقيام الإمام باستيفاء هذا الحد، حتى لا تتحول إقامة الحدود لنوع من الانتقام ورد الاعتبار.
القول الثاني: الجواز، وإليه ذهب بعض مجتهدي المذاهب مثل الجويني والماوردي والهيتمي الشافعية، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن حزم الظاهري، والشوكاني، وأدلتهم في ذلك قوله عز وجل: ( والسارق والسرقة فاقطعوا أيديهما ) [ المائدة 38 ]، وقوله ( الزانية والزاني فاجلدوا ) [ النور2]، وقوله ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ) [ النور 4 ]، ووجه الدلالة في هذه الآيات: أن الخطاب قد توجه لعموم المسلمين، ومسئولية إقامة الدين ليست محصورة في شخص بعينه، وإن تفاوت حجم المسئوليات من شخص لآخر، قال ابن تيمية - رحمه الله -: " خاطب الله المؤمنين بالحدود خطابا مطلقا ـ وذكر الآيات السابقة ـ
وقد علم أن المخاطب بالفعل لابد أن يكون قادرا عليه، والعاجزون لا يجب عليهم، وقد عُلم أن هذا ـ أي إقامة الحدود ـ فرض على الكفاية وهو مثل الجهاد، بل هو نوع من الجهاد، والقدرة هي السلطان، لذلك وجب إقامة الحدود على ذي السلطان ونوابه. ....، ولو عجز بعض الأمراء عن إقامة الحدود والحقوق أو إضاعته لذلك، لكان ذلك الفرض على القادر عليه،. .... والأصل أن هذه الواجبات تقام على أحسن الوجوه، فمتى أمكن إقامتها من أمير لم يحتج اثنين، ومتى لم يقم إلا بعدد ومن غير سلطان أقيمت، إذا لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها، فإنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ". هذا من جهة المنقول أما من جهة المعقول: فالقول بسقوط إقامة الحدود عند خلو الزمان من إمام قول ظاهر الفساد، لما فيه من إسقاط لحدود الله - عز وجل -، والإسلام موجود والأمة موجودة والشرع موجود، فكيف يهدر ذلك كله بسبب غياب فرد من المسلمين ؟. أيضا مقصد الشريعة من الحدود والقصاص والتعزير، تأديب الجاني، وترضية المجني عليه، وزجر من تسول له نفسه الاقتداء بالجاني، وهي أمور تحقق باستيفاء الحد بغض النظر عمن يقوم بهذا الاستيفاء، ما دام تم استيفاؤه بالعدل ولم يترتب عليه مفاسد. وأخيرا فإن لازم قول المانعين من إقامة الحدود عند غياب الإمام شيوع الجرائم وانتشار المفاسد وسفك الدماء وانتهاك الأعراض، بعد أمنوا العقوبة.
والراجح في المسألة والله أعلم؛ القول الثاني الذي يري إقامة الحدود بمعرفة أهل الحل والعقد عند غياب الإمام، وذلك لقوة أدلتهم، وتوافقها مع مقاصد الشريعة، كما أنه لا تعارض بين أدلة الفريقين، ولكن يجب أن يعلم أن هذا القول لا يعني إطلاق الأمر على عواهنه لكل أحد؛ بدعوى غياب الإمام، ففي غياب الإمام ينتقل التكليف لأهل الحل والعقد، لا لعموم وآحاد المسلمين، وأهل الحل والعقد قد ارتضاهم الناس وخضعوا لهم ورضوا بهم، فلا يجوز لعموم الناس الافتيات على حق الإمام ومن ينوب عنه، ثم أهل الحل والعقد في مباشرة إقامة الحدود، لفي في ذلك من مفاسد كثيرة وفتن عظيمة.
ثانيا: مؤسسات السلطة الحاكمة
تعتبر السلطة الحاكمة للدولة هي الأصل الذي ينبثق منه سائر السلطات في الدولة، والتي من خلالها تمارس الدولة سلطتها في جميع نواحي الحياة وهي: السلطة التشريعية، السلطة التنفيذية، السلطة القضائية. وهذه السلطات يختلف مضمونها في النظام الإسلامي عن نظائرها في النظم الوضعية المعاصرة، لذلك يحتاج الأمر لمزيد توضيح وتفصيل.
أولا: السلطة التشريعية
في النظم الوضعية والدساتير البشرية تعرف السلطة التشريعية بأنها: " السلطة المختصة بعمل القوانين، وتقوم بالإشراف على أعمال السلطة التنفيذية "، أما السلطة التشريعية في النظام الإسلامي فهي: " السلطة المؤلفة من صفوة العلماء والمجتهدين في الشريعة، والمكلفة باستخلاص الأحكام الشرعية من مصادرها، ووضعها في شكل برامج تقدم للسلطة التنفيذية للتنفيذ والتطبيق، كما أن السلطة المنوط بها الإشراف على السلطات الأخرى فيما يتعلق بتطبيق أحكام الشريعة، والرقابة على أعمال الحكومة ومتابعتها ومحاسبتها ".
وهذا التعريف يعني أن السلطة التشريعية في النظام الإسلامي ينطلق من أساسين: تحديد معنى التشريع، ومفهوم السيادة. أما بالنسبة للأساس الأول وهو معنى التشريع، فالتشريع قد يراد به إيجاد وإنشاء شرع مبتدأ، وهو بذلك المعنى لا وجود له في الإسلام إلا لله - عز وجل وحده -، بالدلائل الثابتة، وقد يراد بالتشريع بيان حكم تقتضيه الشريعة القائمة، وهو بهذا المعنى ما تولاه خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وتابعوه، ومن سار على دربهم من العلماء المجتهدين والأئمة العاملين، فهؤلاء لم ينشئوا أحكاما مبتدأة، وإنما استنبطوا الأحكام من نصوص الشرع. أما بالنسبة للأساس الثاني، فترتبط سلطة التشريع في النظام الإسلامي بوضع السيادة فيها، حيث أن الله – تعالى - هو المشرع الأعلى في الدولة الإسلامية، وبالتالي لا يملك أحد سلطة تغيير أو تعديل ما قرره الله - عز وجل -، أما وضع القوانين والتشريعات التفصيلية لمبادئ وأحكام الشريعة أو لترجيح الأحكام في المسائل التي تعالجها نصوص شرعية ظنية، أو لوضع الحلول الملائمة للمستجدات والنوازل، فكل ذلك تحدده وتختص به السلطة التي يحددها الشعب المسلم والتي يراها أهلا للتعبير عن إرادته العامة، سواء كانت على شكل مجلس نيابي منتخب من قبل الشعب، أو هيئة شورية منبثقة من مؤسسة أهل الحل والعقد، وعلى هذا يتضح لنا عدة أمور خاصة بالسلطة التشريعية:
1ـ السلطة التشريعية في الإسلام لا تخرج عن دائرة علماء الشريعة المجتهدين
2 ـ السلطة التشريعية هي المكلفة شرعا والمختصة دستوريا، بالقيام بعملية التشريع، وعملها التشريعي لا يعدو أمرين: فهم النصوص، وبيان الحكم الدال عليه، أما في حالة غياب النص الصريح فعملهم القياس والاستنباط والاجتهاد.
ثانيا: السلطة التنفيذية
ويقصد بها: الهيئة الحاكمة التي تقوم بتنفيذ القوانين، وتسيير الإدارة والمرافق العامة، وهي تشمل كل المسئولين في الهيكل الوظيفي للدولة، ابتداء من رئيس البلاد أو حاكمها وإمامها حتى أدنى موظفيها، وهي بذلك أكبر سلطات البلاد وأكثرها تشعبا وانتشارا، وهي في الحقيقة تتكون من مؤسستين غير منفصلتين، الأولى: مؤسسة الخلافة أو الرئاسة، والثانية: الجهاز الإداري وهو منضو تحت مؤسسة الرئاسة، ويطلق الفقهاء المسلمون لفظة " الولاية العامة " على جميع سلطات الدولة التي يمارسها الخلفاء والوزراء والولاة والقضاة والأعوان، يعتبر الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من أوائل من وضع أسس ومبادئ السلطة التنفيذية في الإسلام. ومن سعة الإسلام ومرونته مع مقتضيات العصر، أنه لم يضع شكلا ثابتا للسلطة الحاكمة أو التنفيذية، ولا كيفية اختيارها، فالحكومة الإسلامية تتشكل وفق إرادة الشعب ووفق مقتضيات العصر، فقد يكون النظام رئاسيا، أو مختلطا، أو برلمانيا شوريا، المهم ألا تكون حكومة ديكتاتورية استبدادية طاغية، وغيرها من أشكال النظم الظالمة الجائرة التي تقوم على العسف والقهر والظلم مما يرفضه الإسلام وينهى عنه.
ولقد ظهر النظام الحكومي في الإسلام مع نشوء الدولة في المدينة النبوية، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرسل إلى القبائل والأمصار والقرى عماله فمنهم من يصلي بالناس، ومنهم من يجمع الزكاة، ومنهم من يقضي بينهم بالكتاب والسنة، ومنهم من يقود الجيوش ويحرس الثغور، فقد أرسل معاذ بن جبل - رضي الله عنه - إلى اليمن قاضيا ونائبا عليهم، كما جعل عتاب بن أسيد - رضي الله عنه - عامله على مكة، وأعطاه راتبا على ذلك العمل درهما يوميا. ومع تطور العصر، وتشعب واتساع الدولة الإسلامية بعد حركة الفتوحات الإسلامية، ظهرت الحاجة لسلطة أكثر تعقيدا وتشعبا، ومن ثم كانت نشأة الدواوين الإدارية في عهد الخليفة الفذ العبقري عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، الذي يعتبر بحق من أفذاذ التاريخ البشري في الإدارة والقيادة.
وهنا ينبغي بيان أقسام الولايات العامة والخاصة لموظفي الجهاز التنفيذي للسلطة الحاكمة، وهي على أربعة أقسام ـ دون منصب الحاكم أو الإمام ـ كالأتي:
1 ـ القسم الأول: من تكون ولايته عامة في الأعمال العامة، وهم الوزراء، لأنهم يستنابون في جميع الأمور من غير تخصيص.
2 ـ القسم الثاني: من تكون ولايته عامة في أعمال خاصة، وهم أمراء الأقاليم والبلدان ـ المحافظين ـ لأن النظر فيما خصوا به من الأعمال عام في جميع الأمور.
3 ـ القسم الثالث: من تكون ولايته خاصة في الأعمال العامة، مثل قاضي القضاة، وأمراء الجيوش، وقادة أفرع القوات المسلحة، وجامعو الزكاة، لأن كل واحد منهم مقصور على نظر خاص في جميع الأعمال.
4 ـ القسم الرابع: من تكون ولايته خاصة في الأعمال الخاصة، مثل قاضي الإقليم المعين، أو قضاة كل فرع من فروع ودرجات التقاضي ـ استئناف، نقض، عليا ـ وجامعو زكاة إقليم معين، وأمير جيشه، ونقيب ثغره، وهكذا، لأن كل واحد منهم مخصوص بنظر عمل معين.
ثالثا: السلطة القضائية
ويقصد بها: " الجهة التي تملك إصدار الأحكام الشرعية، وتبت في القضايا المتنازع فيها على ضوء الكتاب والسنة، وإجماع علماء الأمة، والقياس الصحيح، أو بعبارة أخرى: " القوة والتمكن من تنفيذ أحكام الله تعالى بين العباد على جهة الإلزام ". هذه السلطة تتولى الفصل في المنازعات بين الخصوم، وتطبيق القانون عليها، وإقامة سوق العدل في الأرض.
وقد وجدت هذه السلطة مع الدولة الإسلامية في جميع عصورها، بدء من عصر النبوة على يد النبي- صلى الله عليه وسلم -، حيث كان أول قاض في الإسلام، وقضاؤه ملزما، لكونه يجمع بين صفة المشرع، وصفة القاضي، وبالتالي لا يمكن الخروج أو الاعتراض على قضائه، قال تعالى ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) [ الأحزاب 36 ]. وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم انتقلت سلطة القضاء إلى الخلفاء والصحابة - رضوان الله عليهم -، وكان عمر بن الخطاب أول من فصل بني الولاة والقضاة، فقد كان يرسل إلى كل مصر واليا وقاضيا، مثلما فعل في البصرة، أرسل إليها أبا موسى الأشعري واليا، وابن مسعود قاضيا.
بالجملة فإن النظام السياسي في الإسلام اشتمل على حكومة كاملة التشكيل، تامة الهيكل، لها أسانيدها الشرعية، وتفوق فيسموها وتفردها وعدالتها وكفاءتها وشمولها وتميزها كافة أنظمة الحكم الحديثة، وقل ذلك كله تتفرد بمرجعيتها الربانية.
مؤسسات النظام السياسي في الإسلام [ 1 ـ 2 ]
التعليقات