اقتباس
تشكيل جماعة أهل الحل والعقد يحتاج لقدر كبير من النزاهة والشفافية، إذ أنهم صفوة المجتمع، وعمود استقراره السياسي، لذلك فقد اختلف العلماء والمتخصصون في الآلية التي يتم تشكيل واختيار أعضاء جماعة الحل والعقد لعدة اتجاهات:
تكلمنا في مرة سابقة عن أسس وقواعد النظام السياسي في الإسلام والتي تمثل الإطار النظري لنظام الحكم في الإسلام والتي تميزت عن غيرها من الأنظمة الوضعية بخصوصيات كثيرة جعلتها النموذج الأمثل والقويم لعمارة الدنيا بالدين. وهذه المرة سوف نتكلم عن الإطار العملي لهذا النظام ممثلا في مؤسسات وهيئات وأجهزة تنطلق من خلالها لتمارس العمل السياسي وفق أحكام الشرع. وكما أن أسس وقواعد النظام السياسي الإسلامي كانت متفردة وغير مسبوقة فإن مؤسسات النظام أيضا جاءت متفردة وغير مسبوقة، والأهم من ذلك أنها مرنة متطورة ومتواكبة مع متغيرات العصر وتحولاته، ومن أهم مؤسسات النظام السياسي الإسلامي؛ مؤسسة أهل الحل والعقد، ومؤسسات السلطة الحاكمة وهي ثلاثة: تشريعية وقضائية وتنفيذية.
أولا: مؤسسة أهل الحل والعقد
التعريف اللغوي: أهل الرجل: عشيرته، وذوو قرباه، جمعها أهلون وأهالي، أهل الأمر: ولاته، وللبيت سكانه، وللمذهب: من يدين به، وللرجل: زوجته. أما الحل: حل العقدة ومنها قوله تعالى ( واحلل عقدة من لساني )، وحللت: نزلت، من حل الأحمال عند النزول، وحل العقدة: نقضها وفكها وفتحها، وهذا هو الأصل في معنى الحل. أما العقد فهو نقيض الحل، عقد يعقده عقدا وتعقادا، وعقّده وقد انعقد، وقد استعمل في العقود من البيوع، ثم استعمل في التصميم والاعتقاد الجازم، ومنها العهد ومنه قوله عز وجل ( عقدة النكاح ).
أما في الاصطلاح فقد تحدثت كتب الفقه والتفاسير والسير عن جماعة أهل الحل والعقد، ودورها في قيادة الأمة وصناعة قراراتها المصيرية، لذلك فقد تنوعت عبارات أهل العلم المعبرة عن هذه الجماعة وصفاتها وعناصرها المكونة، فالباقلاني مثلا قال عنه: " إنما يصير الإمام إماما بعقد من يعقد له الإمامة من أفاضل المسلمين الذين هم أهل الحل والعقد، والمؤتمنين على هذا الشأن "، وفي حين وصفهم الإمام الجويني بعبارة أخرى فقال عنهم في كتابه الشهير غياث الأمم: " الأفاضل المستقلون الذين حنكتهم التجارب، وهذبتهم المذاهب، وعرفوا الصفات المرعية فيمن يناط به أمر الرعية "، وقال عنهم البغدادي في أصول الدين: " أهل الاختيار الذين تقوم بهم الحجة، وببيعتهم تنعقد الخلافة "، وقال القلقشندي في مآثر الإنافة: " فجمع ـ أي الخليفةـ أهل الحل والعقد المعتزين للاعتبار، العارفين بالنقد من القضاة والعلماء والأمراء ووجوه الناس وأعيان الدولة والوزراء وأهل الخير والصلحاء وأرباب الرأي والنصحاء فاستشارهم ".
وفقهاء المذاهب أجمعوا على أن الولاية لا تنعقد لإمام أو خليفة إلا بعد موافقة ومبايعة أهل الحل والعقد. قال ابن نجيم الحنفي في البحر الرائق: " وتنعقد بيعة أهل والعقد من العلماء المجتهدين والرؤساء ". وقال الخرشي المالكي في شرح مختصر خليل: " لأن العلماء، وهم أهل الحل والعقد ينكرون عليه ذلك ويأخذون عليه " وقال الدسوقي في الشرح الكبير: " وأما بيعة أهل الحل والعقد، وهم من اجتمع فيهم ثلاثة أمور: العلم بشروط الإمام، والعدالة، والرأي ". قال الإمام النووي الشافعي في روضة الطالبين: " وفي العدد الذي تنعقد الإمامة ببيعتهم ستة أوجه.. والسادس هو الأصح: أن المعتبر بيعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء وسائر وجوه الناس الذين يتيسر حضورهم.. . ". قال ابن مفلح الحنبلي في شرح المقنع: " ولابد من بيعة أهل الحل والعقد من العلماء ووجوه الناس ".
أما العلماء المعاصرين، فعباراتهم أيضا تدور في فلك عبارات السابقين مع إضافات مقتضى العصر. قال رشيد رضا في تفسيره المنار: " إجماع أولي الأمر، وهم أهل الحل والعقد الذين تثق بهم الأمة من العلماء والرؤساء في الجيش، والمصالح العامة كالتجارة والصناعة والزراعة، وكذا رؤساء العمال، والأحزاب، ومديرو الجرائد المحترمة، وطاعتهم حينئذ طاعة أولى الأمر ". وعرفهم المودودي: " أهل الحل والعقد هم الحائزون لثقة العامة، الذين يطمئن إليهم الناس لإخلاصهم ونصحهم وأمانتهم وأهليتهم ". وعرفتهم الموسوعة الفقهية الكويتية: " أهل الشوكة من العلماء والرؤساء ووجوه الناس، الذين يحصل بهم مقصود الولاية، وهو القدرة والتمكين ".
ومن هذه التعريفات القديمة والمعاصرة، الفقهية والتاريخية يتبين لنا أن هناك عدة اتجاهات لتعريف أهل الحل والعقد: الأول: أنهم العلماء المجتهدون. الثاني: أنهم العلماء، والرؤساء أصحاب السلطة الاجتماعية والسياسية، ووجوه الناس وسادتهم من الأغنياء وذوو النسب والشرف والوجاهة. الثالث: أنهم الأشراف والأعيان من كبار القوم وأصحاب المكانة الاجتماعية العالية. الربع: أنهم أفاضل المسلمين المؤتمنون المخلصون. ويعتبر الاتجاه الثاني الأكثر شيوعا واستعمالا والأقرب لمفهوم أهل الحل والعقد وطبيعة دورهم في الحياة السياسية والعامة للمسلمين.
الأدلة من الكتاب والسنة على مشروعية جماعة أهل الحل والعقد:
1 ـ قوله عز وجل ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) [ النساء 59 ] فهذه الآية الكريمة تأمر المسلمين بطاعة أولي الأمر، وهذا يعني أنهم لهم نفوذا وسلطانا، قال ابن تيمية - رحمه الله -: " أولوا الأمر: أصحاب الأمر وذووه، وهم الذين يأمرون، وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة وأهل العلم والكلام، فلهذا كان أولوا الأمر صنفين: العلماء والأمراء ". قال ابن العربي: " الصحيح عندي أنهم الأمراء والعلماء جميعا، أما الأمراء فلأن أصل الأمر منهم والحكم إليهم، وأما العلماء فلأن سؤالهم واجب متعين على الخلق، وجوابهم لازم، وامتثال فتواهم واجب، لا سيما وقد قدمنا أن كل هؤلاء حاكم، وقد سماهم الله تعالى بذلك فقال ( يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار ) [ المائدة 44 ]، قال الإمام الجصاص الحنفي في أحكام القرآن بعد أن ذكر اختلاف أهل العلم حول أولي الأمر: أهم العلماء أم الأمراء: " وليس بممتنع أن يكون هذا الأمر للفريقين، إذا ليس في تقديم الحكم بالعدل ما يوجب الاقتصار بطاعة أولي الأمر على الأمراء دون غيرهم ".
2 ـ قال تعالى ( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) [ النساء 83 ]، وأولوا الأمر هنا هم الأمراء والعلماء، قال الحسن وقتادة وابن أبي ليلى: هم أهل العلم والفقه، قال السدي: الأمراء والولاة، وقال الجصاص: " يجوز أن يريد به الفريقين من أهل الفقه والولاة لوقوع الاسم عليهم جميعا، كما قال في آية أخرى ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) [ التوبة 122 ] فأوجب الحذر بإنذراهم، وألزم المنذرين قبول قولهم، فجاز من أجل ذلك إطلاق اسم أولي الأمر عليهم؛ والأمراء أيضا يسمون بذلك لنفاذ أمورهم على من يلون عليه ".
3 ــ قال الله – تعالى -: ( ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا ) [ المائدة 12 ] قال القرطبي: " النقيب: كبير القوم القائم بأمورهم الذي ينقب عنهم وعن مصالحهم فيها "، قال ابن كثير: " عرفاء على قبائلهم بالمبايعة والسمع والطاعة " ويعضد هذا الوجه ما جرى في بيعة العقبة الثانية، حيث كان فيها اثنا عشر نقيبا؛ ثلاثة من الأوس، وتسعة من الخزرج، وقد قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلتها: " أخرجوا إلىّ منكم اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم " أخرجه أحمد.
4 ـ ما رواه البخاري في كتاب الوكالة باب إذا وهب شيئا لوكيل أو شفيع قوم جاز: أن رسول الله - صلى الله علبيه وسلم - قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين، فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أحب الحديث إلىّ أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين: إما السبي، وإما المال، وقد كنت استأنيت بهم " وفي نهاية الخبر بعد أن وافق المسلمون على إرجاع الفيء وطيبوه للنبي - صلى الله عليه وسلم -، قال لهم: " إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفعوا إلينا عرفاؤكم أمركم ". فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا.
كيفية تشكيل جماعة أهل الحل والعقد ؟
تشكيل جماعة أهل الحل والعقد يحتاج لقدر كبير من النزاهة والشفافية، إذ أنهم صفوة المجتمع، وعمود استقراره السياسي، لذلك فقد اختلف العلماء والمتخصصون في الآلية التي يتم تشكيل واختيار أعضاء جماعة الحل والعقد لعدة اتجاهات:
1 ـ أن صفاتهم تفصح عنهم تلقائيا، وهذا الاتجاه يمثله الفقهاء والأصوليون الذين ذهبوا إلى أن أهل الحل والعقد هم العلماء المجتهدون.
2 ـ أن الإمام هو الذي يعينهم، وقد احتج هذا الفريق بفعل عمر - رضي الله عنه - حين عين الستة من أهل الشورى، ولكن هذه الطريقة تنطوي على خطر شديد خاصة مع تغير الأزمنة، وشيوع المحاباة والفساد، ناهيك عن أن دور أهل الحل والعقد هو رقابة الإمام وتقويمه ومحاسبته وتجديد اختياره ومبايعته، مما يوجب ويحتم استقلالية أهل الحل والعقد في تأسيسها وتشكيلها عن سلطة الإمام والحاكم.
3 ـ عن طريق الانتخاب الحر المباشر، استنادا لقوله تعالى: ( وأمرهم شورى بينهم ) [ الشورى 38]، ولابد أن يكون الانتخاب بمراعاة الضوابط الشرعية لضمان سلامة هذه العملية من الحرية وعدم التلبيس وعدم استخدام وسائل التأثير غير الشرعية من إكراه وإغراء للتأثير على أصوات الناخبين واختياراتهم. ولعل في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار يوم العقبة الثانية ليختاروا نقباءهم بأنفسهم ما يستدل به لاعتبار الانتخاب أفضل وسيلة في اختيار أهل الحل والعقد. وقد ذهب معظم الباحثين المعاصرين لاختيار هذه الطريقة مع مراعاة تغير الضوابط من زمن لآخر، ومن مكان لآخر.
شروط أهل الحل والعقد:
لابد من توافر عدة شروط في الشخصيات التي ستكون ضمن تشكيلة مجلس أهل الحل والعقد، وهذه الشروط من الأهمية بمكان أنها تفصل بين الشرعية المعتبرة للواقعية، وبين الواقعية التي لا تستند إلى شرعية. وقد أورد أهل العلم عدة صفات جامعة لأهل الحل والعقد من أهمها:
1 ـ العدالة العامة والتي هي شروط أساسي في قبول الشهادات مثل الإسلام والعقل والبلوغ والمروءة والنزاهة والأمانة وطهارة اليد واستقامة السيرة.
2 ـ العلم بالأمور الشرعية والتخصصية في المجال الذي سيستعان به فيه، والعلم بشروط الإمامة، والإلمام بأوضاع البلاد بصورة عامة.
3 ـ الرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو للإمامة أصلح
4 ـ أن يكون من ذوي الشوكة الذين يتبعهم الناس ويصدرون عن رأيهم، ليحصل بهم مقصود الولاية، ولا يقصد بالشوكة مجرد القوة القاهرة المرغمة للناس على الخضوع والانصياع، لأن النفوذ المتوصل إليه عن طريق الظلم والبطش لا يعتبر شرعا ولا تناط به الأحكام.
وللحديث بقية ...
التعليقات