ليلة النصف من شعبان

الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل

2022-10-09 - 1444/03/13
عناصر الخطبة
1/ ضابط التفضيل بين الأزمان 2/ فضائل شهر شعبان 3/ الحكمة من الإكثار من الصيام في شعبان 4/ فصل المقال في فضل ليلة النصف من شعبان 5/ الحث على لزوم السنة 6/ التحذير من البدع في الدين وبيان بعض آثارها السيئة 7/ حكم الصلاة الألفية وصلاة الرغائب.
اهداف الخطبة

اقتباس

وَمِنْ شُؤْمِ الْبِدْعَةِ أَنَّهَا لَا تَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ؛ فَلَيْسَ ثَمَّةَ زِمَامٌ يَزُمُّهَا، وَلَا غَايَةٌ تَبْلُغُهَا، وَالنَّاسُ يَتَوَسَّعُونَ فِيهَا جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ حَتَّى يَبْلُغُوا بِهَا الشِّرْكَ -وَالْعِيَاذُ بِالله تَعَالَى-، أَوْ يَعْمَلُوا أَعْمَالًا شَنِيعَةً مُنْكَرَةً، لَا يَرْضَاهَا كَثِيرٌ مِمَّنْ غَرَّتْهُمُ الْبِدْعَةُ فِي أَوَّلِ ظُهُورِهَا، وَمِثَالُ ذَلِكَ: مَا أَحْدَثَ النَّاسُ فِي شَعْبَانَ مِنْ عِبَادَاتٍ وَاحْتِفَالَاتٍ بِنَاءً عَلَى أَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ فِي فَضَائِلِهِ؛ فَإِنَّ بَعْضَ التَّابِعِينَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ أَخَذُوا بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ، وَأَحْيَوْا لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَلَمَّا انْقَرَضَ جِيلُهُمْ، وَأَعْقَبَتْهَا أَجْيَالٌ أُخْرَى أَحْدَثَ النَّاسُ فِيهَا صَلَاةَ الْأَلْفِيَّةِ الَّتِي أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ فِي كُلِّ الْأَعْصَارِ عَلَى أَنَّهَا مَكْذُوبَةٌ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وَحَكَمُوا بِبِدْعِيَّتِهَا....

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الْحَمْدُ لله، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].

 

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كِتَابُ اللهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِّ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

 

أَيُّهَا النَّاسُ: خَلَقَ اللهُ -تَعَالَى- الزَّمَانَ، وَجَعَلَهُ ظَرْفًا لِلْأَعْمَالِ، وَفَاضَلَ -سُبْحَانَهُ- بَيْنَ الْأَزْمَانِ كَمَا فَاضَلَ بَيْنَ سَائِرِ خَلْقِهِ مِنَ الْبَشَرِ وَالْبِقَاعِ وَغَيْرِهَا، وَمَعْرِفَةُ فَضِيلَةِ الزَّمَانِ عَلَى غَيْرِهِ تُدْرَك بِالنَّصِّ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ أَنْ يُفَضِّلَ زَمَانًا لَمْ يَرِدْ لَهُ فَضْلٌ لَا فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ، وَلَا أَنْ يَشْرَعَ فِيهِ عِبَادَاتٍ لَمْ يَشْرَعْهَا اللهُ -تَعَالَى- وَلَا رَسُولُهُ -صلى الله عليه وسلم-، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِمُسْتَسْلِمٍ لِشَرْعِ الله عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا خَاضِعٍ لِأَمْرِهِ، وَلَا مُجْتَنِبٍ لِنَهْيِهِ؛ إِذِ الِاسْتِسْلَامُ لِشَرِيعَةِ الله عَزَّ وَجَلَّ يَقْتَضِي الْعَمَلَ بِهَا، وَاتِّبَاعَ سُنَّةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-.

 

وَشَهْرُ شَعْبَانَ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِيهِ عَمَلٌ وَهُوَ صِيَامُ أَكْثَرِهِ، وَأَحْدَثَ النَّاسُ فِيهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا أَعْمَالًا أُخْرَى مَا جَاءَتْ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ.

 

أَمَّا مَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ صِيَامِ أَكْثَرِهِ، فَمَا رَوَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فَقَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يَصُومُ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ" رَوَاهُ الشَّيْخَانِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا"(أخرجه البخاري (1868)، ومسلم (1156).

 

وَحِكْمَةُ إِكْثَارِهِ مِنَ الصِّيَامِ فِي شَعْبَان بَيَّنَهَا -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، قَالَ: "ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ" (أخرجه أحمد: 5/201).

 

وَهَذَا الْعَرْضُ لِلْأَعْمَالِ هُوَ الْعَرْضُ السَّنَوِيُّ؛ فَإِنَّ عَرْضَ الْأَعْمَالِ يَوْمِيٌّ وَأُسْبُوعِيٌّ وَحَوْلِيٌّ: يُعْرَضُ عَلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ عَمَلُ اللَّيْلِ بِالنَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ بِاللَّيْلِ، وَالْأُسْبُوعِيُّ يُعْرَضُ عَلَيْهِ يَوْمَيِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ؛ وَلِذَلِكَ نَدَبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى صِيَامِهِمَا، وَالْحَوْلِيُّ يُعْرَضُ فِي شَعْبَانَ؛ فَاسْتُحِبَّ صِيَامُ أَكْثَرِهِ، وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَصُومُ أَكْثَرَهُ. هَذَا مَا وَرَدَ فِي فَضْلِ شَعْبَانَ: الصِّيَامُ فَحَسْبُ.

 

أَمَّا لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ الَّتِي كَثُرَ الْكَلَامُ فِيهَا، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ حَوْلَها، وَأَحْدَثُوا فِيهَا مَا أَحْدَثُوا، وَخَصُّوهَا بِأَعْمَالٍ كَثِيرَةٍ؛ حَتَّى أَضْحَتْ هَذِهِ الشَّعَائِرُ وَالْأَعْمَالُ تَنْتَقِلُ إِلَى النَّاسِ عَبْرَ وَسَائِلِ الْإِعْلَامِ؛ فَإِنَّ الْكَلَامَ عَنْهَا، وَتَحْرِيرَ الْقَوْلِ فِيهَا يَكُونُ فِي مَقَامَيْنِ:

 

أَوَّلُهُمَا: مَا وَرَدَ فِيهَا مِنَ الْفَضْلِ.

وَثَانِيهِمَا: مَا جَاءَ فِيهَا مِنْ أَعْمَالٍ مَخْصُوصَةٍ كَصِيَامِ نَهَارِهَا، وَقِيَامِ لَيْلِهَا، وَاخْتِصَاصِهَا بِصَلَاةٍ يُسَمُّونَهَا الْأَلْفِيَّةَ، وَاتِّخَاذِهَا عِيدًا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبُلْدَانِ وَالْأَمْصَارِ.

 

أَمَّا فَضْلُهَا؛ فَجَاءَ فِيهِ أَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ، لَا يَسْلَمُ حَدِيثٌ مِنْهَا مِنْ طَعْنٍ فِي رُوَاتِهِ، أَوِ انْقِطَاعٍ فِي سَنَدِهِ، وَمَنْ صَحَّحَهَا مِنَ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّمَا صَحَّحَهَا بِكَثْرَةِ طُرُقِهَا، وَلَمْ يَصِحَّ مِنْهَا حَدِيثٌ مُسْتَقِلٌّ بِذَاتِهِ. (انظر من السلسلة الصحيحة: 3/135-139، برقم: 1144).

 

وَمُفَادُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ: "أنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَطَّلِعُ إِلَى خَلْقِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ" وَهَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا اللَّفْظِ مُنْقَطِعٌ. (أخرجه ابن أبي عاصم في السنة: 512، والطبراني في مسند الشاميين 3570، وصححه ابن حبان: 5665، من حديث معاذ رضي الله عنه).

 

وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: "أنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَنْزِلُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَغْفِرُ لِأَكْثَرِ مِنْ عَدَدِ شَعْرِ غَنَمِ كَلْبٍ"؛ أَيْ: غَنَمُ قَبِيلَةِ كَلْبٍ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدًا -يَعْنِي الْبُخَارِيَّ- يُضَعِّفُ هَذَا الْحَدِيثَ. (أخرجه الترمذي: 739، وابن ماجه: 1389).

 

وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَمَا فِي مَعْنَاهَا، وَهِيَ الدَّالَّةُ عَلَى اخْتِصَاصِ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ بِفَضْلٍ؛ تَسَامَحَ فِيهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فَصَحَّحُوهَا بِكَثْرَةِ طُرُقِهَا، وَلَوْ كَانَتْ كُلُّ طَرِيقٍ مِنْهَا ضَعِيفَةً.

 

وَطَعَنَ آخَرُونَ فِي أَحَادِيثِهَا، وَلَمْ يَقْبَلُوهَا لِضَعْفِهَا، وَجَزَمُوا بِأَنَّهَا لَيْلَةٌ كَسَائِرِ اللَّيَالِي لَا تَخْتَصُّ بِفَضْلٍ وَلَا بِعَمَلٍ؛ كَمَا نَقَل ابْنُ وَضَّاحٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- قَالَ: "لَمْ أُدْرِكْ أَحَدًا مِنْ مَشَايخِنَا وَلَا فُقَهَائِنَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَلَمْ نُدْرِكْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَذْكُرُ حَدِيثَ مَكْحُولٍ، وَلَا يَرَى لهَا فَضْلًا عَلَى مَا سِوَاهَا مِنَ اللَّيَالِي" (أخرجه ابن وضاح في البدع والنهي عنها: 46، وينظر: الباعث على إنكار البدع لأبي بكر الطرطوشي: 1/35).

 

وَقِيلَ لِلتَّابِعِيِّ الْجَلِيلِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: إِنَّ زِيَادًا النُّمَيْرِيَّ يَقُولُ: "أَجْرُ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ كَأَجْرِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَقَالَ: لَوْ سَمِعْتُهُ وَبِيَدِي عَصَا لَضَرَبْتُهُ"(أخرجه ابن وضاح: 46، وينظر: الباعث على إنكار البدع: 1/35).

 

وَبَالَغَ بَعْضُ مَنْ عَظَّمَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ فَزَعَمُوا أَنَّهَا المَقْصُودَةُ بِقَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [الدخان: 4]، مَعَ أَنَّ نَصَّ الْقُرْآنِ صَرِيحٌ يُفِيدُ أَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَأَنَّهَا فِي رَمَضَانَ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "مَنْ قَالَ إِنَّهَا لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ كَمَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ فَقَدْ أَبْعَدَ النُّجْعَةَ؛ فَإِنَّ نَصَّ الْقُرْآنِ أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ"(ينظر: أحكام القرآن: 4/117).

 

وَقَدْ جَزَمَ بِتَضْعِيفِ كُلِّ أَحَادِيثِ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ جَمْعٌ مِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ المُحَقِّقِينَ، حَتَّى قَالَ الْعَلَّامَةُ المُحَقِّقُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ المَالِكِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "لَيْسَ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ حَدِيثٌ يُسَاوِي سَمَاعَهُ"(انظر: عارضة الأحوذي: 3/275، وقال في أحكام القرآن: "وليس في ليلة النصف من شعبان حديث يعول عليه لا في فضلها ولا في نسخ الآجال فيها، فلا تلتفتوا إليها": 4/117).

 

وَقَالَ عَلَّامَةُ الشَّامِ جَمَالُ الدِّينِ الْقَاسِمِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "قَالَ أَهْلُ التَّعْدِيلِ وَالتَّجْرِيحِ: لَيْسَ فِي فَضْلِ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ حَدِيثٌ يَصِحُّ". (إصلاح المساجد من البدع والعوائد: 99).

 

وَقَالَ الشَّيْخُ الْأَزْهَرِيُّ عَلِي مَحْفُوظ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ كُلَّ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ دَائِرَةٌ بَيْنَ الضَّعْفِ وَالْوَضْعِ وَعَدَمِ الصِّحَّةِ" (الإبداع في مضار الابتداع: 287).

 

وَقَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّد رَشِيد رِضَا -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "وَكُلُّ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي لَيْلَةِ نِصْفِ شَعْبَانَ دَائِرٌ أَمْرُهَا بَيْنَ الْوَضْعِ وَالضَّعْفِ وَعَدَمِ الصِّحَّةِ"( مجلة المنار: مجلد: 31، ص: 331).

 

أَمَّا فَضِيلَةُ الْعَمَلِ فِيهَا، أَوْ تَخْصِيصُهَا بِقِيَامٍ، أَوْ بِإِفْرَادِ يَوْمِهَا بِالصِّيَامِ، أَوْ بِصَلَاةِ الْأَلْفِيَّةِ فِيهَا، وَهِيَ صَلَاةٌ مُبْتَدَعَةٌ وَمُرْهِقَةٌ، يُصَلِّي فِيهَا المُصَلِّي مِئَةَ رَكْعَةٍ، يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ عَشْرَ مَرَّاتٍ(ينظر: من المنار المنيف في الصحيح والضعيف: 175، وينظر: الفوائد المجموعة للشوكاني: 50-51).

 

 أَوِ اتِّخَاذِ يَوْمِهَا أَوْ لَيْلَتِهَا عِيدًا بِالِاجْتِمَاعِ فِي المَسَاجِدِ، أَوِ الْبُيُوتِ عَلَى طَعَامٍ مَخْصُوصٍ، وَإِظْهَارِ الْفَرَحِ وَالزِّينَةِ؛ فَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ المُبْتَدَعَاتِ الَّتِي أَنْكَرَهَا الْعُلَمَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا.

 

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "فَأَمَّا صَوْمُ يَوْمِ النِّصْفِ مُفْرَدًا فَلَا أَصْلَ لَهُ، بَلْ إِفْرَادُهُ مَكْرُوهٌ، وَكَذَلِكَ اتِّخَاذُهُ مَوْسِمًا تُصْنَعُ فِيهِ الْأَطْعِمَةُ، وَتُظْهَرُ فِيهِ الزِّينَةُ، هُوَ مِنَ المَوَاسِمِ المُحْدَثَةِ المُبْتَدَعَةِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَها، وَكَذَلِكَ مَا قَدْ أُحْدِثَ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنَ الِاجْتِمَاعِ الْعَامِّ لِلصَّلَاةِ الْأَلْفِيَّةِ فِي المَسَاجِدِ الْجَامِعَةِ، وَمَسَاجِدِ الْأَحْيَاءِ وَالدُّرُوبِ وَالْأَسْوَاقِ؛ فَإِنَّ هَذَا الِاجْتِمَاعَ لِصَلَاةِ نَافِلَةٍ مُقَيَّدَةٍ بِزَمَانٍ وَعَدَدٍ، وَقَدْرٍ مِنَ الْقِرَاءَةِ لَمْ يُشْرَعْ، مَكْرُوهٌ؛ فَإِنَّ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِي الصَّلَاةِ الْأَلْفِيَّةِ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ.."(اقتضاء الصراط المستقيم: 2/632).

 

وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "وَلَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ كَانَ التَّابِعُونَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ؛ كَخَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، وَمَكْحُولٍ، وَلُقْمَانَ بْنِ عَامِرٍ، وَغَيْرِهِمْ يُعَظِّمُونَهَا، وَيَجْتَهِدُونَ فِيهَا فِي الْعِبَادَةِ، وَعَنْهُمْ أَخَذَ النَّاسُ فَضْلَهَا وَتَعْظِيمَهَا، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ بَلَغَهُمْ فِي ذَلِكَ آثَارٌ إِسْرَائِيلِيَّةٌ، فَلَمَّا اشْتُهِرَ ذَلِكَ عَنْهُمْ فِي الْبُلْدَانِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَبِلَهُ مِنْهُمْ، وَافَقَهُمْ عَلَى تَعْظِيمِهَا، مِنْهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ عُبَّادِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ، مِنْهُمْ: عَطَاءٌ، وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَنَقَلَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ المَدِينَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالُوا: ذَلِكَ كُلُّهُ بِدْعَةٌ"(لطائف المعارف: 263).

 

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَعْظِيمَ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَتَخْصِيصَهَا بِعِبَادَاتٍ أَوْ بِاحْتِفَالَاتٍ مُحْدَثٌ بَعْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وَبَعْدَ صَحَابَتِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، فَعَلَهُ بَعْضُ التَّابِعِينَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ بِنَاءً عَلَى أَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ، ثُمَّ تَبِعَهُمْ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ، وَالْعِبَادَاتُ تُؤْخَذُ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَمِمَّا صَحَّ مِنَ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، وَلَا تُؤْخَذُ مِنْ أَقْوَالِ الرِّجَالِ وَاجْتِهَادَاتِهِمْ، وَقَدْ قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر: 7]، وَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدّ" (أخرجه البخاري 2550، ومسلم 1718).

أَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يُعَلِّمَنَا مَا يَنْفَعُنَا، وَأَنْ يَرْزُقَنَا الْعَمَلَ بِمَا عَلِمْنَا، وَأَنْ يَدُلَّنَا عَلَى الْحَقِّ، وَيَهْدِيَنَا لِاتِّبَاعِهِ، وَأَنْ يُرِيَنَا الْبَاطِلَ بَاطِلًا، وَيُعِينَنَا عَلَى اجْتِنَابِهِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ.

 

أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك: 1-2].

 

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.

 

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ –عِبَادَ اللهِ- وَأَطِيعُوهُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [الحشر: 18-19].

 

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: تَعَلَّمُوا السُّنَّةَ، وَاحْذَرُوا الْبِدْعَةَ؛ فَإِنَّ صَاحِبَ الْبِدْعَةِ يَعْمَلُ فِي بِدْعَتِهِ وَلَا يُقْبَل عَمَلُهُ، وَيَسْعَى وَلَا يَجِدُ أَجْرَ سَعْيِهِ؛ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ وَبَالًا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ فَفِي الدُّنْيَا تَشْغَلُهُ بِدْعَتُهُ عَنْ تَعَلُّمِ دِينِهِ، وَإِقَامَةِ شَرِيعَةِ رَبِّهِ، كَمَا تَشْغَلُهُ عَنِ السَّعْيِ فِي مَصَالِحهِ الدُّنْيَوِيَّةِ.

 

وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَصَاحِبُ الْبِدْعَةِ أَحْرَى أَنْ يُحَاسَبَ عَلَى بِدْعَتِهِ، وَأَنْ يُؤَاخَذَ بِعِبَادَتِه لِرَبِّهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُحِبُّهُ اللهُ -تَعَالَى- وَلَا يَرْضَاهُ؛ كَمَا يُؤَاخَذُ عَلَى تَقْصِيرِهِ فِي تَعَلُّمِ السُّنَّةِ، وَاجْتِنَابِ الْبِدْعَةِ. وَلَا سِيَّمَا فِي هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي بَلَغَتْ فِيهَا السُّنَّةُ الْآفَاقَ، وَانْتَشَرَتْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَقْطَارِ.

 

وَصَاحِبُ الْبِدْعَةِ الَّذِي يَنْشُرُ بِدْعَتَهُ، وَيُنَافِحُ عَنْهَا حَرِيٌّ بِأَنْ يُدْرِكَهُ المَوْتُ وَهُوَ عَلَى بِدْعَتِهِ؛ لِأَنَّ مَنْشَأَ الْبِدْعَةِ هُوَ الشُّبْهَةُ، وَصَاحِبُهَا يَظُنُّ أَنَّهُ عَلَى خَيْرٍ وَهُوَ عَلَى شَرٍّ؛ إِمَّا اتِّبَاعًا لِهَوَاهُ، أَوْ تَقْلِيدًا لِغَيْرِهِ، فَهُوَ يَعْبُدُ اللهَ -تَعَالَى- عَلَى جَهْلٍ؛ وَلِذَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ اللهَ تَعَالى حَجَبَ التَّوْبَةَ عَنْ صَاحِبِ كُلِّ بِدْعَةٍ" رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَحَسَّنَهُ المُنْذِرِيُّ. (أخرجه والطبراني في الأوسط (4202)، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة (1620)، وقال: وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين).

 

وَمِنْ شُؤْمِ الْبِدْعَةِ أَنَّهَا لَا تَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ؛ فَلَيْسَ ثَمَّةَ زِمَامٌ يَزُمُّهَا، وَلَا غَايَةٌ تَبْلُغُهَا، وَالنَّاسُ يَتَوَسَّعُونَ فِيهَا جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ حَتَّى يَبْلُغُوا بِهَا الشِّرْكَ -وَالْعِيَاذُ بِالله تَعَالَى-، أَوْ يَعْمَلُوا أَعْمَالًا شَنِيعَةً مُنْكَرَةً، لَا يَرْضَاهَا كَثِيرٌ مِمَّنْ غَرَّتْهُمُ الْبِدْعَةُ فِي أَوَّلِ ظُهُورِهَا، وَمِثَالُ ذَلِكَ: مَا أَحْدَثَ النَّاسُ فِي شَعْبَانَ مِنْ عِبَادَاتٍ وَاحْتِفَالَاتٍ بِنَاءً عَلَى أَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ فِي فَضَائِلِهِ؛ فَإِنَّ بَعْضَ التَّابِعِينَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ أَخَذُوا بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ، وَأَحْيَوْا لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَلَمَّا انْقَرَضَ جِيلُهُمْ، وَأَعْقَبَتْهَا أَجْيَالٌ أُخْرَى أَحْدَثَ النَّاسُ فِيهَا صَلَاةَ الْأَلْفِيَّةِ الَّتِي أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ فِي كُلِّ الْأَعْصَارِ عَلَى أَنَّهَا مَكْذُوبَةٌ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وَحَكَمُوا بِبِدْعِيَّتِهَا.

 

وَأَوَّلُ مَا وَقَعَ ذَلِكَ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ الْهِجْرِيِّ؛ كَمَا حَكَى ذَلِكَ أَبُو مُحَمَّدٍ المَقْدِسِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فَقَالَ: "لَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا بِبَيْتِ المَقْدِسِ صَلَاةُ الرَّغَائِبِ هَذِهِ الَّتِي تُصَلَّى فِي رَجَبٍ، وَلَا صَلَاةُ شَعْبَانَ، وَأَوَّلُ مَا حَدَثَتْ عِنْدَنَا -يَعْنِي: صَلَاةَ شَعْبَانَ- فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِ مِئَةٍ، قَدِمَ عَلَيْنَا فِي بَيْتِ المَقْدِسِ رَجُلٌ مِنْ نَابْلِس يُعْرَفُ بِابْنِ أَبِي الْحَمْرَاءِ، وَكَانَ حَسَنَ التِّلَاوَةِ، فَقَامَ يُصَلِّي فِي المَسْجِدِ الْأَقْصَى لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَأَحْرَمَ خَلْفَهُ رَجُلٌ، ثُمَّ انْضَافَ إِلَيْهِمَا ثَالِثٌ وَرَابِعٌ، فَمَا خَتَمَهَا إِلَّا وَهُمْ جَمَاعَةٌ كَبِيرَةٌ، ثُمَّ جَاءَ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ فَصَلَّى مَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَشَاعَتْ فِي المَسْجِدِ الْأَقْصَى وَبُيُوتِ النَّاسِ وَمَنَازِلهِمْ، ثُمَّ اسْتَقَرَّتْ كَأَنَّهَا سُنَّةٌ..."( الباعث على إنكار البدع (25)، وانظر: الإبداع في مضار الابتداع (288).

 

ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أُحْدِثَ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ أَدْعِيَةٌ مَخْصُوصَةٌ؛ حَتَّى صَارَ النَّاسُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ يُؤَلِّفُونَهَا وَيُوَزِّعُونَهَا عَلَى الْعَامَّةِ فِي كُتُبٍ مَطْبُوعَةٍ.

 

ثُمَّ صَارَ يُحْتَفَلُ بِهَا كَمَا يُحْتَفَلُ بِالْأَعْيَادِ الْكَبِيرَةِ، وَهَكَذَا لَا يَقِفُ الْجَهَلَةُ عِنْدَ حَدٍّ فِي بِدْعَتِهِمْ، وَكُلُّ أَهْلِ جِيلٍ يُحْدِثُونَ فِيهَا أَعْمَالًا جَدِيدَةً، حَتَّى تُصْبِحَ شَعِيرَةً مِنَ الشَّعَائِرِ الْكَبِيرَةِ؛ فَيُطْمَسُ مَا يُطْمَسُ مِنَ السُّنَّةِ، وَيَنْتُجُ عَنْهَا مَا يَنْتُجُ مِنَ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ، حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ الْحَقُّ فِي غُرْبَةٍ، وَضَحِيَّةُ ذَلِكَ: عَوَامُّ المُسْلِمِينَ؛ إِذْ يَسْعَوْنَ فِي تِلْكَ الْبِدَعِ سَعْيًا بَاطِلًا، يُرْهِقُ أَبْدَانَهُمْ، وَيَسْتَنْزِفُ أَمْوَالهُمْ، وَيُضَيِّعُ أَوْقَاتَهُمْ، وَيَخْرُجُونَ مِنْهَا بِأَوْزَارٍ اللهُ أَعْلَمُ بِهَا، وَلَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْأَجْرِ شَيْءٌ، نَسْأَلُ اللهَ الْعَافِيَةَ وَالسَّلَامَةَ.

 

أَلَا فَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ، وَاحْذَرُوا الْبِدَعَ؛ فَإِنَّهَا شَرٌّ عَظِيمٌ، وَالْتَزِمُوا السُّنَنَ فَإِنَّ الْخَيْرَ فِيهَا، وَإِذَا زَاحَمَتِ السُّنَّةُ الْبِدْعَةَ كَانَ ذَلِكَ مِنْ خَيْرِ الزَّمَانِ، وَإِذَا قَضَتِ الْبِدْعَةُ عَلَى السُّنَّةِ كَانَ ذَلِكَ شُؤْمًا عَلَى النَّاسِ.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ.

 

  

 

المرفقات
ليلة النصف من شعبان1.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life