عناصر الخطبة
1/فضائل ليلة القدر 2/إحياء وإدراك ليلة القدر 3/أعمال صالحة في خواتيم شهر رمضان 5/زكاة الفطر 6/صلاة العيد وآدابها.اقتباس
ليلةُ القدرِ يُفْتح فيها الْبَاب، ويُقرَّبُ الأحْبَابُ، ويُسْمَع الخطابُ، ويردُّ الجواب، ويُكْتَبُ للعاملينَ فيها عظيمُ الأجرِ، فليلةُ القدرِ خيرٌ من ألف شَهْر، فاجتهدُوا رحمكم الله في طلبِها، فيما بقي، واحذَرَوا من الغفلةِ فهذا وقت غفلة....
الخُطْبَة الأُولَى:
أيها الإخوة: ليالي العشر محدودةٌ وأوقاتُها، لكنها مباركة، فكل ليلة من هذه الليالي يمكن أن تكون ليلةُ القدر، وليلةُ القدر ليلةٌ شرّفها الله -تعالى- على غيرها من الليالي، وهي من أعظم المنن التي منَّ الله بها على هذه الأمة لجزيل فضلها وخيرها، قال عنها شيخنا محمد العثيمين -رحمه الله-: "أشادَ الله بفضلها في كتابة المبين فقال -تعالى-: (إِنَّا أَنزَلْنَهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَرَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ* فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[الدخان: 3 - 6].
وصفَها الله -سبحانَه- بأنها مباركةٌ لكَثْرةِ خيرِها وبَركتِها وفضلها، فمِن بركتها أنَّ هذا القرآنَ المباركَ أُنْزِلَ فيها، ووصَفَها -سبحانَه- بأنه يُفْرَقُ فيها كلُّ أمرٍ حكيم، يعني يُفصَل من اللوح المحفوظِ إلى الْكَتَبةِ ما هو كائنٌ مِنْ أمرِ الله -سبحانَه- في تلك السنةِ من الأرزاقِ والآجالِ والخير والشرِّ وغير ذلك من كلِّ أمْرٍ حكيمٍ من أوامِر الله المُحْكَمَة المتْقَنَة التي ليس فيها خَلَلٌ ولا نقصٌ ولا سَفَهٌ ولا باطلٌ ذلك تقديرُ العزيز العليم.
وقال -تعالى-: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ* سَلَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)[القدر:1-5].
الْقَدرُ بمعنَى الشرفِ والتعظيم أوْ بمعنى التقديرِ والقضاءِ، وهي خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ يعني في الفضل والشرفِ وكثرةِ الثواب والأجر، ولذلك كانَ مَنْ قامَهَا إيماناً واحتساباً غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه.
(تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ) الملائكة عبادٌ من عباد الله قائمون بعبادته ليلاً ونهار، يتنزلون في ليلة القدر إلى الأرض بالخير والبركة والرحمة (وَالرُّوحُ) هو جبريل -عليه السلام- خصَّه بالذكر لشرفه وفضله، (سَلَامٌ هِيَ) يعني أن ليلة القدرِ ليلةُ سلامَ للمؤمنين من كل مخوف لكثرة من يعتقُ فيها من النار، ويَسْلمُ مِنْ عذابِها. (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) يعني أن ليلة القدرِ تنتهي بطلوعِ الفجرِ لانتهاءِ عملِ الليلِ به". انتهى بتصرف.
أيها الإخوة: فرصة إدراك ليلة القدر لم تزل سانحة فيما بقي من هذا الشهر يقول شيخنا محمد العثيمين -رحمه الله-: "وليلةُ القَدْر في العشر الأواخر من رمضانَ لقول النبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلّمَ-: "تَحَرِّوا ليلةَ القدرِ في العشرِ الأواخر من رمضانَ"(متفقٌ عليه).
وهي في الأوْتار أقْرب من الأشفاعِ؛ لقولِ النبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلّمَ-: "تحروا ليلةَ القدرِ في الْوِترِ من العشرِ الأواخر من رمضان"(رواه البخاري). وهي في السَّبْعِ الأواخرِ أقْرَبٌ، لحديث ابنِ عمر -رضي الله عنهما- أنَّ رجالاً من أصحابِ النبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلّمَ- أُرُوا ليلةَ القدرِ في المنام في السبعِ الأواخر فقال النبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلّمَ-: "أرَى رُؤياكُمْ قد تواطأت -يعني اتفقت- في السبعِ الأواخرِ فمن كانَ مُتَحرِّيَها فَلْيتحَرَّها في السبعِ الأواخرِ"(متفق عليه).
ولمسلم عنه: أنَّ النبيَّ -صلى اللهُ عليه وسلّمَ- قال: "التمِسُوَها في العشر الأواخر -يعني ليلةَ القدْرِ- فإن ضعف أحدُكم أو عجز فلا يُغْلَبَنَّ على السبعِ البواقِي". وأقربُ أوْتارِ السبعِ الأواخرِ ليلةُ سبعٍ وعشرينَ؛ لحديثِ أبيِّ بن كعب -رضي الله عنه- أنه قال: "والله لأعلم أيُّ ليلةٍ هي الليلةُ التي أمرنا رسول الله -صلى اللهُ عليه وسلّمَ- بقيامِها هي ليلةُ سبعٍ وعشرينَ"(رواه مسلم).
ولا تَخْتَصُّ ليلةُ القدرِ بليلةٍ معينةٍ في جميعِ الأعوامِ، بل تَنتَقِّلُ فتكونُ في عامٍ ليلةَ سبعٍ وعشرينَ مثلاً، وفي عام آخرَ ليلة خمسٍ وعشرينَ تبعاً لمشيئةِ الله وحكمتِه، ويدُلُّ على ذلك قولُه -صلى اللهُ عليه وسلّمَ-: "الْتمِسُوها في تاسعةٍ تبقى في سابعةٍ تبقَى في خامسةٍ تبقَى"(رواه البخاري). قال في فتح الباري: "أرجح الأقوال أنها في وترٍ من العشرِ الأخيرِ وأنها تَنْتَقِلُ." اهـ. وانتهى كلام شيخنا -رحمه الله-.
وأخفى الله ليلة القدر ليُكثر العبادُ من الطاعة والعبادة، وليميز الجادَ في طلبِها من الكسلان.
أيها الإخوة: ومن جميل ما يحثّ عليه في كل وقت، ويتأكَّد في هذه الليالي الإكثار من ذكر الله -تعالى- فهو من أفضل الأعمال وأيسرها خاصَّة في ليالي رمضان لسهولته، فقد قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ شَرَائِعَ الإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ، فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ، قَالَ: "لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ"(رواه الترمذي وابن ماجه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وصححه الألباني).
وأفضل الذكر كلمة التوحيد وأفضل صِيغها ما رواه أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلّمَ- قَالَ: "مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ"(رواه البخاري ومسلم).
ولو قالها المسلم كل ليلة في العشر الأواخر من رمضان فوافق ليلة القدر، وحملنا ليلة القدر على التَّضعيف فكأنما أعتق الذاكر ثلاثمائة ألف رقبة، ومن أعتق رقبة واحدة في الدنيا أعتقَه الله من النار؛ فقد قَالَ النَّبِيُّ -صلى اللهُ عليه وسلّمَ-: "مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً، أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنَ النَّارِ، حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ"(رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-).
فكيف بمن ذكر هذا الذكر ليلة القدر فكُتِبَ له إعتاق هذا العدد من الرقاب، وهذا فضل عظيم يغفل عنه بعض الناس في هذه الليلة المباركة.. ثم انظروا كم يكتب لمن قالها من الحسنات، وكم يمحى عنه من السيئات، وأدع حسابها لكم، وهذا فضل عظيم من رب رحيم.
أيها الإخوة: ليلةُ القدرِ يُفْتح فيها الْبَاب، ويُقرَّبُ الأحْبَابُ، ويُسْمَع الخطابُ، ويردُّ الجواب، ويُكْتَبُ للعاملينَ فيها عظيمُ الأجرِ، فليلةُ القدرِ خيرٌ من ألف شَهْر، فاجتهدُوا رحمكم الله في طلبِها، فيما بقي، واحذَرَوا من الغفلةِ فهذا وقت غفلة.
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: واعلموا أن هذه الجمعة قد تكون آخر جمعة في شهر رمضان، لذا كان لزاماً علينا بيان ما شُرع لنا في ختام الشهر من عبادات جليلة نزداد بها إيماناً، وتكملُ بها عبادتُنا، فقد شُرع لنا زكاة الفطر، والتكبير، وصلاة العيد.
أما زكاة الفطر؛ فقد قالَ عنها ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- "أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلّمَ- فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، مِنَ الْمُسْلِمِينَ"(متفق عليه).
والواجبُ في الفطرة أن تخرج من طعام الآدميين من تمر، أو بُرّ، أو رز، أو غيره، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "كُنَّا نُخْرِجُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلّمَ- يَوْمَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ"، وَقَالَ: "وَكَانَ طَعَامَنَا الشَّعِيرُ وَالزَّبِيبُ وَالأَقِطُ وَالتَّمْرُ"(رواه البخاري).
أيها الإخوة: أخرجوها مما فرضَ رسولُ الله -صلى اللهُ عليه وسلّمَ- من الطعام ولا تخرجوها من الريالات والدراهم؛ لأن رسول الله فرضها من الطعام فلا يُتعدى ما عيَّنه -صلى اللهُ عليه وسلّمَ-.
ومقدارها صاع ومقدار الصاع النبوي كلوين وأربعين غراماً بالبر الجيد، كما حدده شيخنا محمد بن عثيمين -رحمه الله-، ويجب على المسلم أن يخرجها عن نفسه وعن كل من تلزمه مُؤنته، من زوجة أو قريب، إذا لم يستطيعوا إخراجها عن أنفسهم.
وتجب بغروب الشمس ليلة العيد، ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين، ومن أخرجها بعد صلاة العيد بلا عذر فهي صدقة من الصدقات لا تبرأ بها ذمته، وادفعوها إلى فقراء المكان الذي أنتم فيه وقت الإخراج. وحسّنوها وكمّلوها، ولتكن من أطيب أموالكم التي تجدون، فلن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون، ومن دفعها للجمعيات المتخصصة بمساعدة الفقراء في وقتها برئت ذمته فهي وكيلة الفقير.
أيها الأحبة: ومما يشرع لكم بعد إكمال العدة التكبير ووقته من غروب الشمس ليلة العيد إلى صلاة العيد، قال الله -تعالى-: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[البقرة:185]، ويسن الجهر به للرجال في المساجد والأسواق والبيوت، إعلاناً بتعظيم الله وإظهاراً لعبادته وشكره..
فما أجمل حال الناس وهم يكبّرون الله تعظيماً وإجلالاً في كل مكان عند انتهاء صومهم فيملئون الآفاق تكبيراً وتحميداً وتهليلاً يرجون رحمة الله ويخافون عذابه، ويحيون سنة نبيهم..
واخرجوا -وفقكم الله- إلى صلاة العيد، متنظّفين متطيبين، والبسوا أحسن الثياب، وأخرجوا نساءكم وأولادكم لها؛ لأمر رسول الله بذلك..
أخرجوا امتثالاً لأمر رسول الله -صلى اللهُ عليه وسلّمَ- وابتغاء الخير، ودعوة المسلمين، فكم في ذلك المصلى من خيراتٍ تنزل وجوائز من الرب الكريم تحصُل، ودعوات طيبات تقبل.
والسنة أن يأكل قبل الخروج إلى المصلى تمرات وتراً ثلاثاً أو خمساً أو أكثر؛ إن أحب ويقطعهن على وتر لفعل النبي -صلى اللهُ عليه وسلّمَ-.
والأفضل الخروج لصلاة العيد مشياً إلا مَن عذر كعجز أو بعد، وستقامُ الصلاة -إن شاء الله- هذا العام الساعة 5:50 في جميع الجوامع والمصليات إلا الجوامع القريبة من المصليات..
وأدوا الصلاة بخشوع وحضور قلب، وتذكروا بجمعكم اجتماع الناس في يوم الجمع الأكبر يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم؛ بلغنا الله يوم العيد من عمر مديد بطاعته ومنَّ علينا بالقبول إنه جواد كريم.
التعليقات