عناصر الخطبة
1/من أسئلة القرآن في بيان أن الناس لا يستوون 2/بالأعمال يتمايز الناس ويختلفون 3/مما تميز به أهل الإيمان والطاعة 4/من صور عدم استواء أهل الطاعة بأهل المعصية.

اقتباس

العابدون الحامدون تبكيهم حتى مواطئ أقدامهم والأرض التي تقلهم، قال مجاهد: "ما مات مؤمن إلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحاً"، فقيل له: أو تبكي؟! قال: "وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

الحمد لله الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إنه كان بعباده خبيرا بصيرا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله الله بشيرا ونذيرا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، ومن كان بهديه مستنيرا، وسلم تسليما كثيرا.

 

أما بعد: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الحشر: 18].

 

في كتاب الله أسئلة واستفهامات لكنها لا تنتظر إجابات؛ وإنما هي تقرير لحقيقة وللفت الانتباه، واقرؤوا إن شئتم: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ)[القلم: 35]، (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[الملك: 22]، (هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ)[الرعد: 16]، (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)[الجاثية: 21]، (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)[الزمر: 9]، (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ)[السجدة: 18].

 

أسئلة تقرر حقيقة لا يخالجها شك ولا ريب عنوانها: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ)[فاطر: 19 - 22]، (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ)[الحشر: 20]، أجل، لا يستوي في الدنيا ولا في الآخرة من أراد الآخرة وسعى لها سعيها فكان سعيه مشكورا، ومن أراد العاجلة ويذر وراءه يوما ثقيلا.

 

هل يستوي عند الله من يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق، ويصلون ما أمر الله به أن يوصل، ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب، والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم، وأقاموا الصلاة، وأنفقوا مما رزقهم الله، ويدرؤون بالحسنة السيئة، هل يستوون هم ومن ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض؟! أما الأولون فلهم عقبى الدار، وأما الآخرون فلهم اللعنة ولهم سوء الدار.

 

هل يستوي من اتبع هدى الله فهو لا يضل ولا يشقى، مع من أعرض عن ذكره فجعل معيشته ضنكا، ويحشره يوم القيامة أعمى؟! هل يستوي من قالوا: ربنا الله ثم استقاموا؛ فتتنزل عليهم الملائكة: ألا تخافوا ولا تحزنوا، وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون، وجعل لهم الرحمن ودا، مع من أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات؛ فسوف يلقون غيا، وما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين؟!.

 

إن مشاهد الجنائز التي نعاينها كل يوم تنبئك بهذه الحقيقة، وتعلن للناس: أن من يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما، ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها.

 

يموت مغمور من المسلمين ليس من أهل الدثور ولا ساكني القصور؛ فتخرج المئات لجنازته، وتتحدث الألسن عن مناقبه، وتتزاحم الحشود في عزائه!.

 

إنها مشاهد تتكرر كل حين لتقول للناس: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا)[مريم: 96]، مشاهد تتكرر لتقول للتائهين: هذه هي مشاعر الصالحين مع الصالحين، فماذا فعل أتباعكم أيها المفسدون؟.

 

يموت المفسد فيشهد الخلق عليه بأسوأ الشهادات، وتتوالى عليه منهم أسوأ الدعوات، ويلقى الله فلا يذكره مؤمن بصدقة ولا وقف، ولا حتى دعوات صالحات!.

 

مشاهد تتكرر لتعلن للناس: أن من يهتم للأمة فإن الأمة تهتم به، ومن منح الأمة العطاء منحته الوفاء وغمرته بالدعاء والثناء.

 

مشاهد الصالحين في مرضهم وفي جنائزهم تعلن: أن من عاش لله وأوقف حياته لله؛ كان الجزاء العاجل له حباً من الناس ولو كانوا لا يعرفونه، وتعاطفا ولو كانوا لا يرجونه.

 

العابدون الحامدون تبكيهم حتى مواطئ أقدامهم والأرض التي تقلهم، قال مجاهد: "ما مات مؤمن إلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحاً"، فقيل له: أو تبكي؟! قال: "وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود، ما للسماء لا تبكي على عبد كان لتسبيحه وتكبيره فيها دوي كدوي النحل". 

 

إن المسلم يغبط مريضا تلاحقه الدعوات والعبرات وجميل العبارات، وقد علم أن الله إذا أحب عبدا أحبه أهل السماء، ثم وضع له القبول في الأرض، ويغبط ميتاً تسير خلف جنازته الألوف، كيف وقد قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون أن يكونوا مائة فيشفعون له إلا شفعوا فيه".

 

إن مثل هذه المواقف هي فخر وعز للصالحين، ترسم صورة الصدق والإخلاص في التعامل مع الله، وتبرز عاجل بشرى المؤمن، وتعلن للناس أن العاقبة للمتقين، سعد بن معاذ -رضي الله عنه- عمره في الإسلام ستة أعوام فقط، قضاها نصرة لله ولدينه، وحينما مات وحملوه قالوا: "يا رسول الله، ما حملنا ميتاً أخف علينا منه"، فقال: "ما يمنعه أن يخف؛ وقد هبط من الملائكة كذا وكذا لم يهبطوا قبل يومهم، قد حملوه معكم"، ثم قال -عليه الصلاة والسلام-: "هذا العبد الصالح الذي تحرك له العرش، وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفاً من الملائكة، لم ينزلوا إلى الأرض قبل ذلك"، إنهم الرجال الذين يصنعون مآثرهم بأعمالهم لا بأعمارهم.

 

وهذا الإمام أحمد -رحمه الله- يوم جنازته كان مشهوداً، قال عبد الوهاب الوراق، ما بلغنا أن جمعاً في الجاهلية ولا الإسلام مثله، وفتح الناس أبواب المنازل في الشوارع والدروب ينادون من أراد الوضوء، وأظهر الناس في جنازة الإمام أحمد السنة والطعن على أهل البدع، فسر المسلمون بذلك على ما عندهم من المصيبة؛ لما رأوا من العز وعلو الإسلام وكبت أهل الزيغ والضلال.

 

إن المواقف المحمودة والجنائز المشهودة التي نشهدها بين حين وحين، والتي يخرج الناس فيها راغبين طائعين، ليس لها إلا تفسير واحد هو أنهم صدقوا الله فكان خيراً لهم، ومن كان صادقاً مع الله -عز وجل- صدقه الله.

 

لقد علمتنا المواقف المحمودة والجنائز المشهودة أن العبرة ليست بكثرة الأعمال، وإنما بمقدار إخلاص أصحابها وتجردهم لله -تعالى-.

 

لم يبلغ هؤلاء ما بلغوا بكثرة صيام ولا صلاة، ولا بغزارة علم ولا كثرة جهاد، وإنما بشيء وقر في قلوبهم؛ إنه الإخلاص وابتغاء ما عند الله -تعالى-، إن أي عمل من أعمال الآخرة فقد الإخلاص فلا قيمة له في ميزان الحق، ورب عمل صغير تعظمه النيّة، ورب عمل كبير تصغره النيّة.

 

ليس المهم أن تعمل العمل، إنما المهم أن تبتغي به وجه الله -سبحانه-، وبذلك تضمن قبوله عند الله، والمثوبة عليه في الآخرة، ومن أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان، ومن خلصت نيته لله كفاه الله -تعالى- ما بينه وبين الناس.

 

لقد علمتنا المواقف المحمودة والجنائز المشهودة أن خير الناس أنفعهم للناس، فأحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم، لا يذهب العرف بين الله والناس، وطالما استعبد الإنسان إحسان.

 

هنيئا لمن عاش حميداً، ومات فقيداً، ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

 

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه.

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد: فإذا كان في الأمة أقوام أصلحوا ما بينهم وبين الله، فوضع لهم القبول في الأرض، وجزاهم بما صبروا ثناء في الدنيا وفوزا في الآخرة، فعلى الطرف الآخر قوم قال الله عنهم: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ)[الدخان: 29].

 

وعلى هذا الطرف كفار ومبتدعة وزنادقة ومفسدون، كانوا ملء الأعين والنفوس في هذه الأرض، ذهبوا فلم يأس على ذهابهم أحد، ولم تشعر بهم سماء ولا أرض، ولم ينظروا أو يؤجلوا عندما حل الميعاد؛ (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ)[الدخان: 29]، ولو أحس الجبارون في الأرض والمحاربون لدين الله ما في هذه الكلمات من إيحاء؛ لأدركوا هوانهم على الله وعلى هذا الوجود كله، ولأدركوا أنهم يعيشون في الكون منبوذين عنه مقطوعين، لا تربطهم به آصرة وقد قطعت آصرة الإيمان.

 

أحمد بن أبي دؤاد والذي جر الأمة إلى محنة خلق القرآن، وبسببه أهين علماء الأمة وعذبوا، وسجنوا وقتلوا، ودعا عليه الإمام أحمد فحبسه الله في جسده كما حُبس الإمام، وابتلاه الله بالفالج، حتى بقي طريحاً في فراشه لا يحرك شيئاً من جسده، وحرم لذة الطعام والشراب وغيرهما، ولما مات لم يحتفل أحد بموته ولم يلتفت إليه، وما شيعه إلا قليل من أعوان السلطان، في الوقت الذي كانت فيه جنازة الإمام أحمد أكبر جنازة في تاريخ المسلمين!.

 

فاستمعوا -يا قوم- إلى موعظة ابن الجوزي حيث يقول: "اسمعوا نصيحة من قد جرب وخبر، إنه بقدر إجلالكم لله -عز وجل- يجلكم، وبقدر تعظيم قدره واحترامه يعظم أقداركم وحرمتكم، وبقدر الاستهانة بشرع الله والتطاول على كتابه وسنته يلحق الهوان بالمجرمين".

 

ومن بعد هذا -يا مسلمون- فإن ما نراه من مواقف للناس مع أخيارهم في ابتلاءاتهم وجنائزهم، إنما هي رسالة لنا جميعا عنوانها: (وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)[يوسف: 56]، ونصها: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النحل: 97].

 

رسالة إلى التائهين في دروب الانحراف تخاطبهم: هل يستوي رجل شاب رأسه، ووهن عظمه، واحدودب ظهره، يجيب نداء الرحمن، متكئا على عصاه، يغالب أوجاعه، تراه خلف الإمام مصليا وتاليا، هل يستوي هو ومن لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى؟!.

 

هل يستوي من يسمع نداء الفجر، فيصارع العقد الثلاث ويتحلل منها، فيخرج من الصلاة نشيطا طيب النفس، هل يستوي هو ومن يسلم أنع للشيطان ليبول فيها، ويستجيب لنداء الشيطان: "عليك ليل طويل فارقد؛ فيستيقظ خبيث النفس كسلان".

 

هل تستوي امرأة خضعت لأوامر ربها بالقرار والحجاب والحشمة والستر والحياء، هي ومن أسلمت نفسها لدعاة الشهوات، فتجردت من حياءها، وتساهلت في حجابها، وأدخلت نفسها في قافلة الكاسيات العاريات، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها؟!.

 

هل يستوي من يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف، ويصد عن سبيل الله، مع من يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم؟!.

 

ليسوا سواء من تشيعه الأمة وصالحوها بالعبرات وصادق العبارات، ومن يموت فلا يرثي له أحد، ولا تذرف لفراقه دموع!.

 

إنكم ترون يوم الجنائز مشهداً يثبت لكم أنه لا عزة ولا كرامة إلا بالاستقامة على الدين، والفرار إلى رب العالمين، أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا؟ والجواب: ورب الأرض والسماء لا يستوون.

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life