عناصر الخطبة
1/سرعة تصرم الأيام والأعوام 2/اغتنام السلف لأَوقاتِهم في طاعةِ اللَّـهِ 3/العاقل يتعظ بمرور الأعوام والأيام 4/استغلال الوقت فيما طاعة اللهاقتباس
إِنَّ العاقلَ هو الذي تزيدُ طاعتُه بمرورِ الأَيَّامِ، ويزدادُ من الخيرِ على كَرِّ الأَعوامِ، ومن كان يومُه كأَمسِه فهو مغبونٌ، ومن أَمضى يومًا من عمرِه في غيرِ حقِّ قضاه، أَو فرضٍ أَدَّاه، أَو مجدٍ ورَّثَه، أَو حَمْدٍ حصَّلَه، أَو خيرٍ أَسَّسَه، أَو علمٍ اقتبسَه فقد عَقَّ يومَه وظلمَ نفسَه، فاحتقِبوا...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للَّـهِ الذي يقلِّبُ الليلَ والنَّهارَ، وجعل ذلك عبرةً لأولي الأبصارِ، وأشهدُ أن لَّا إله إلَّا اللَّـهُ الذي جعل الليلَ والنهارَ خِلْفَةً لمَن أراد أن يَذَّكَّرَ أو أراد شُكُورًا، وصلى اللَّـهُ على مَن أرسله اللَّـهُ بين يَدَيِ الساعةِ مُبَشِّرًا ونذيرًا، وعلى آلِه وصحبِه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أَمَّا بعدُ: فأوصيكم ونفسي...
عن عائشة -رضي الله عنها- قَالَتْ: "لَـمَّا كَانَ لَيْلَةٌ مِنَ اللَّيَالِي، قَالَ رسولُ اللـهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا عَائِشَةُ ذَرِينِي أَتَعَبَّدُ اللَّيْلَةَ لِرَبِّي؟" قُلْتُ: وَاللَّـهِ إِنِّي لَأُحِبُّ قُرْبَكَ وَأُحِبُّ مَا سَرَّكَ، قَالَتْ: فَقَامَ فَتَطَهَّرَ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، قَالَتْ: فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ حِجْرَهُ، قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ، قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ الْأَرْضَ، فَجَاءَ بِلَالٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ، فَلَمَّا رَآهُ يَبْكِي، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّـهِ لِمَ تَبْكِي وَقَدْ غَفَرَ اللَّـهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: "أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا، لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ، وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) إلى قوله: (فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[آل عمران 191](رواه ابنُ حبانَ، وغيرُه بألفاظٍ أخرى).
معاشرَ المُؤمنين: إِنَّ الأَعوامَ تتصرَّمُ والأيامَ تنقضي، وهكذا عُمُرُ ابنِ آدَمَ، سَنَةٌ تتبعُها سَنَةٌ؛ حتى ينقضيَ عُمُرُهُ، قال أَبو الدَّرداءِ -رضي الله عنها-: "ابنَ آدمَ إِنَّما أَنت أَيامٌ إِذا ذهبَ يومٌ ذهبَ بعضُك، ابنَ آدمَ إِنَّك لم تَزَلْ في هَدْمِ عُمُرِك منذُ يومَ ولدَتْكَ أَمُّك".
إِنَّا لَنَفْرَحُ بالأيامِ نَقْطَعُها *** وكلُّ يومٍ مضى يُدْنِي من الأَجَلِ
إخوة الإيمان: لقد ضرب سلفُنا الصالحُ أَسْمَى الأَمْثِلَةِ في اغتنامِ أَوقاتِهم في طاعةِ اللَّـهِ، وأَخبارُهم في هذا متوافرةٌ، وقصصُهم فيه متكاثِرةٌ، فعنِ ابنِ مسعودٍ -رضي الله عنها- أَنَّه قال: "ما ندمتُ على شيءٍ نَدَمي على يومٍ غربت شمسُه، نقصَ فيه أَجلي، ولم يَزِدْ فيه عملي"، وقال الحسنُ البَصْريُّ رحمه الله: "أَدركتُ أَقوامًا كان أَحدُهم أَشَحَّ على عُمُرِه، منه على دَراهمِه ودَنانِيرِه"، وقال الفُضَيْلُ بنُ عِيَاضٍ رحمه الله: "أَدركتُ أَقوامًا يستحون من اللَّـهِ في سوادِ الليلِ من طُولِ الهَجْعَةِ، إِنَّما هو على الجنبِ، فإِذا تحرَّك قال: ليس هذا لكِ، قومي خذي حظَّكِ من الآخرةِ"، وقال بِشْرُ بنُ الحارثِ رحمه الله: "مَرَرْتُ برجلٍ من العُبَّادِ بالبَصْرَةِ، وهو يبكي، فقلتُ: ما يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَبكي على ما فرَّطْتُ مِن عمري، وعلى يومٍ مضى مِن أَجلي لم يَحْسُنْ فيه عملي"، وقال حمَّادُ بنُ سَلَمَةَ رحمه الله: "ما أَتينا سليمانَ التَّيْميَّ في ساعةٍ يطاعُ اللَّـهُ فيها إِلَّا وجدناه مطيعًا: إِن كان في ساعةِ صلاةٍ وجدناه مُصَلِّيًا، وإِن لم تكن ساعةَ صلاةٍ وجدناه إِمَّا مُتَوَضِّئًا، أَو عائدًا مريضًا، أَو مُشَيِّعًا لجنازةٍ، أَو قاعدًا في المَسجدِ" ا. هـ، قال أَبو عَوَانَةَ الوَضَّاحُ -رحمه الله-: "صحبتُ يَزِيدَ بنَ زُرَيْعٍ أَربعين سَنَةً يَزدادُ في كلِّ سَنَةٍ خيرًا".
أيها المسلمون: إِنَّكم في هذه الأَيّامِ تودِّعون عامًا ماضيًا شهيدًا، وتستقبلون عامًا مُقْبِلًا جديدًا، ذهب عامُكم شاهدًا لكم أو عليكم، فيا ليتَ شِعْري ما ذا أَودعتم في عامِكمُ المَاضي؟ وما ذا تستقبلون بهِ العامَ الجديدَ؟
إِنَّ العاقلَ هو الذي تزيدُ طاعتُه بمرورِ الأَيَّامِ، ويزدادُ من الخيرِ على كَرِّ الأَعوامِ، ومن كان يومُه كأَمسِه فهو مغبونٌ، ومن أَمضى يومًا من عمرِه في غيرِ حقِّ قضاه، أَو فرضٍ أَدَّاه، أَو مجدٍ ورَّثَه، أَو حَمْدٍ حصَّلَه، أَو خيرٍ أَسَّسَه، أَو علمٍ اقتبسَه فقد عَقَّ يومَه وظلمَ نفسَه، فاحتقِبوا زادًا كافيًا، وأعِدّوا جوابًا شافيًا، واستكثِروا في أعمارِكم من الحسناتِ، وتدارَكوا ما مضَى من الهفَواتِ، وبادروا فرصةَ الأوقاتِ، قال صلى الله عليه وسلم: "اغتنِمْ خمسًا قبلَ خمسٍ: شبابَك قبلَ هَرَمِك، وصِحَّتَك قبل سَقَمِك، وغناك قبل فقرِك، وفراغَك قبل شُغلِك، وحياتَك قبل موتِك"(الحاكم).
ألا فاتقوا الله -عباد الله-، وحاسبوا أنفسَكم قبلَ أن تحاسبوا، وزنوا أعمالَكم قبل أن توزنوا: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ* بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا)[الانشقاق: 6- 15].
بارك الله لي...
الخطبةُ الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمِين...
أَمَّا بعدُ: فيأيّها المسلمون: إنَّ الشهورَ والأعوامَ واللياليَ والأيامَ مواقيتُ الأعمالِ ومقاديرُ الآجالِ، تنقضِي جميعًا وتمضِي سريعًا، واللّيلُ والنهارُ يتَعاقبانِ لا يفتُرانِ، ومَطيَّتانِ تقرِّبانِ كلَّ بعيد، وتُدنِيان كلَّ جديدٍ، وتجيئَانِ بكلِّ موعودٍ إلى يومِ القيامةِ، والسعيدُ لا يركَنُ إلى الخُدَعِ، ولا يغتَرُّ بالطمعِ، فكم من مستقبِلٍ يومًا لا يستكمِلُه؟ وكم مِن مؤَمِّلٍ لغدٍ لا يدْرِكُه؟ (وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[المنافقون: 11].
فيا من قد بَقِي من عمُرِه القليلُ، ولا يدرِي متى يقَعُ الرّحيلُ! يا مَن تُعدُّ عليه أنفاسُه استدرِكها! يا من ستفوتُ أيامُه أدرِكها! نفسُك أعزُّ ما عليكَ فلا تُهلِكها: "كلُّ النّاسِ يغدو فبائعٌ نفسَه فمُعتِقُها أو موبقُها".
يا من أقعده الحِرمانُ: كم ضيّعتَ من أيامٍ! وقضيتَها في اللّهوِ والمنامِ؟! كم أغلقتَ بابًا على قبيحٍ؟! كم أعرضتَ عن قولِ النصيحِ؟! كم صَلاةٍ تركتَها، ونظرةٍ أصبتَها، وحقوقٍ أضعتَها، ومناهِي أتيتَها، وشرورٍ نشَرتها، قل لي بربِّك: "لأيِّ يومٍ أخَّرتَ توبتَك؟! ولأيِّ عامٍ ادَّخرتَ أوبتَك؟! إلى عامٍ قابِل وحولٍ حائل؟! فما إليكَ مَدَّةُ الأعمارِ، ولا معرفةُ المقدار، فبادِر التوبةَ، واحذرِ التسويفَ، وأصلحْ من قلبِكَ ما فسَد، وكنْ من أجلِكَ على رصَدٍ، وتعاهَدْ عمْرَكَ بتحصيلِ العِددِ، فقد أَزِفَ الرحيلُ، وقرُبَ التحويلُ، والعمرُ أمانَةٌ، سيُسألُ عنه المرءُ يومَ القيامة: "لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِي مَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ، وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ"(رواه الترمذي)، قال بلالُ بنُ سعدٍ: "عبادَ الرحمنِ يُقالُ لأَحدِنا: تحبُّ أَن تموتَ؟ فيقولُ: لا، فيُقالُ: لِمَ؟ فيقولُ: حتى أَعملَ، فيُقالُ له: اعمل، فيقولُ: سوف، فلا يُحبُّ أَن يموتَ، ولا يُحبُّ أَن يعملَ! وأَحَبُّ شيءٍ إِليه أَن يؤخِّرَ عملَ اللَّـهِ -عز وجل-، ولا يُحبُّ أَن يُؤَخَّرَ عنه عَرَضُ دنياه" ا. هـ.
اللهم اختم بالصالحاتِ أعمالنا، وبالسعادةِ آجالنا...
اللهم تب على التائبين...
ثم صلوا...
التعليقات